Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
فضاءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 

الديكتاتور الصغير في رواية (غبار الطلع) 2- 2
نبيل سليمان

 

 

حين يبدأ الديكتاتور بالتفرعن، فإنه يبدأ بالتأله، والعياذ بالله. وهذا هو فاتك يغذّ الخطى على هذا السبيل، كما يتراءى لضحيته الكبرى. فالضحية التي تراهن على أن فاتك يستاء من أحدهم إن حلف أمامه بربه، خشية الإشراك، لذلك يأمره أن يحلف بحياته هو؛ هذه الضحية تراهن أيضاً على أن فاتك يتمنى أن تدور الكرة الأرضية بشكل معاكس ثلاثين أو أربعين قرناً لينصّب نفسه فرعوناً حقيقياً، ولن يكون مهماً وقتها تعدد الآلهة أو المعابد أو الكهان، طالما سيأتمر الجميع بأمره.

وعلى الرغم من شر ما ابتلى به فاتك ضحيته الكبرى، فالضحية تسربل جلادها بالأقاب (الفاتك بأمر الله، الفرعون فاتك الثالث، الرب الصغير..) والضحية تكاد تضحك وهي تتخيل جلادها يأمر مئات الألوف من العبيد وعمال السخرة، كما يسارعون ببناء هرمه الخاص الذي سيعلو جميع الأهرامات، ثم يجتمع بمجمع كهنة وحكمائه ونطاسييه، ويهددهم بأشنع أنواع العذاب إن لم يجدوا إكسيراً سحرياً يتغلب فيه على الموت، إذ عليه أن يظل حياً طالما بقيت حياة وأحياء على وجه البسيطة، لذلك يرشو من جمعهم: (انظروا كم ستخلد الامبراطورية بخلودي، تخيلوا البشرية جمعاء تركع لي وتصب في خزائني ثرواتها وأملاكها وتمتلئ قصوري بسباياها. سيكون لكم نصف، قسمة عدل إن استحصلتم على دوائي الفريد).

من أوهام كل ديكتاتور أنه خالد.. لكن ديكتاتور روياة (غبار الطلع) ما زال دونه ديكتاتور أكبر. وهو وإن كان يدرك أنه (شيطان كامل)، لا زال عاجزاً عن توسيع فضائه، ويخشى من وسواس الحلول محل الديكتاتور الأكبر، فيخاطب نفسه: (ما هذا التخريف؟ أتأمن نفسك؟ امسحْ ذلك كله من رأسك، ما توفّر لك لن يناله أحد بعدك، هل تريد زواله بلمح البصر؟).

هكذا أطلق العنان لأفكاره بغير رقابة كي يكتب تقريره اليومي موجزاً حالة الانحراف الخطيرة التي يعانيها، والاتساع المرضي لطموحاته التي توسوس له بالتطلع نحو الأعلى حيث لا يفصل بينه وبين القمة أي شخص.

لكنه أيضاً يعلم علم اليقين أن هنالك حلقة، هو أحد عناصرها، قد ارتقت إلى هذا الموضع وفصلته عن كل المواقع والحلقات المتزايدة أسفله، وأن كل عنصر من عناصر الحلقة العليا يبذل أقصى جهوده ويجنّد كل طاقاته لتحصين موقعه وضعضعة مواقع باقي العناصر والإيقاع بها ليضمّها واحدة واحدة إليه. ليست لفاتك الشجاعة ولا الجرأة التي تقتضيها أفكاره الطامحة. لذلك يلتفت حوله خوفاً ويقرع نفسه: (اخرس أيها الجاحد ناكر الجميل (...) احرص على نفسك والتزم حدك، فسرعان ما تجد نفسك في باطن الجحيم الذي ابتنيته لدورك مرهوب الجانب).

وكذلك نقرأ في الرواية: (فأنت لا تعلم رغم كل جبروتك ما يمكن أن يحاك ضدك وأية أفخاخ ومصائد تزرع خفية لتطبق عليك دفعة واحدة ويكون من نصيب غيرك ما رغبته نصيباً لك وحلمته قدرك السعيد).

على الطريق نفسها يسير ابن أبيه، قصيّ ابن فاتك الذي كان وديعاً في طفولته، وها هو قد بات يرهب أباه: له جولته الدموية اليومية في الأقبية التي تحتشد بالمعتقلين، وله شريكه الذي يدّعي أنه فقد وثائق قد يضيّعهما معاً، فيتخلص من الشريك: (حين سيرشده أبوه لما عليه فعله لإنهاء مشكلته بطريقة تصير عنده خبرة لا تثمّن، ومفتاحاً جديداً من مفاتيح قدرته على استغلال موقع أبيه).

لكن قصي يرسم صورة لتاجه المستقل البديل عن تاج أبيه، تحوطاً لإخفاقه في الوراثة، وهو الذي: (يرقب بعين لا تخطئ أن قوة المال تستمر، بينما قوة التسلط مؤقتة وزائلة وقابلة للتغيير في أية لحظة). وقد ركزت الرواية كل ذلك في هذه المحاورة بين الأب وابنه، حين يدخل الابن فيخاطبه الأب: (نعم سيد فاتك؟) فيقول قصي: (لِمَ لا؟ ألن يؤول لي يوماً ما؟).

ولفاتك إذن أن يخشى اكتشافه لعقوق ابنه وانقلابه عليه، بعد ما جنّد كل مساعديه وحراسه بحيث صاروا يتذمّرون من الأب، وربما يتنكرون لوجوده! كيلا يظل فاتك معلقاً ما بين صعود الابن وما يعلوه هو في القمة، يقبل على المعتقلين الذين سبق له أن دجّنهم، ويطمئنهم أن لا غبار على سلوكهم، فحتى لؤماؤهم استووا، ولكنه يريد أن يطمئن على بواطنهم، ويتفحص عن قرب ضمائرهم خشية أن يكون الفساد الذي خربها يوماً مستمراً في نخره وبث إنتانه. ويهدر فاتك: (سأكون صريحاً معكم، نحن لا يكفينا تدجينكم وضمان عدم عودتكم لبراريكم وحالات توحشكم السابقة. أَنْسنتكم لا تهمنا، ولا جعلكم أليفين، ما يهمنا أن تكون مورثاتكم قد اكتسبت تلك الصفات كيلا تنقلوا لأنسالكم صفات ورثتموها عن أسلافكم. منذ اللحظة، ستحدث طفرة جديدة في تطور جنسكم، ومن عندكم ستبدأ دورة جديدة لنسل لا مثيل له، يؤمن بالطاعة أولاً وبالطاعة ثانياً وبالطاعة ثالثاً وأخيراً!).

بين شخصيات الرواية ضحية كبرى أخرى لفاتك، يفجر هديره السابق تساؤلاتها فنقرأ: (أي نوع من البشر هو؟ من أي نسل جاء وأية مورثات حملتها صبغياته؟ كيف تجمعت فيه وتركزت خلاصات أزمنة الطغيان وعصور مجنونة بربوبية السلطة وشهوة المال والنساء ومجد الألوهية الكذاب؟ (...) أيحسب أن الفناء والموت عاجزان عن اختراق مجال فضائه والوصول إليه؟ أيحسب نفسه خارج دورة الزمن الطبيعي، دورة الحياة والموت؟ أيعقل أن يكون مسُّ الخلود قد أصابه فاستهان بكل شيء، لكنه لا يطمئن لسيطرته ويحاول اختباره؟) وبمثل هذه التساؤلات، وبمثل ما تقدمها، تكون رواية (غبار الطلع) قد أنجزت إضافتها لما رسمت الرواية العربية من الديكتاتورية.

وهي الإضافة التي تركّزت في مواجهة المبتلين لبلواهم في هذه الديكتاتورية، وبما آلت إليه المواجهة من خراب ودمار، لكأن النجاة المستحيلة في الرواية قد عُلِّقت على القراءة!.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة