Culture Magazine Monday  05/03/2007 G Issue 189
قراءات
الأثنين 15 ,صفر 1428   العدد  189
 
يوسف المحيميد من (القارورة)

 

 

بيتي صغير ومنخفض في حي العطايف - قالت - ولم يترك لي أبو عبدالرحمن شيئاً، غير بيت طيني تخضه قرقعة الرعد، وهدير السيل، عشت على المسلمين، إما صدقة أو زكاة، وأغسل ميتات المسلمين لوجه الله، وما أرد كرم أهل الميت وإحسانهم. في يوم، قبل أذان العصر بساعة، سمعت الباب، كان ذلك الرجل الملتحي، لحية غلبها الشيب، ودعا لي كثيراً عند الباب، قبل أن يطلب مني أن أرافقه لغسل امرأة ميتة، وقال إن معه في السيارة محرم، كي أطمئن، رغم أنني كنت مطمئنة للرجل، وملامح الخير والإيمان على وجهه، لبست عباءتي بسرعة، وأخذت أغراضي وتبعته إلى الشارع العام، ثم ركبت في المرتبة الخلفية لسيارة نقل، من نوع داتسون، أو هايلوكس، لا أذكر.. ركبت بجانب امرأة شابة، لم ترد السلام، وقد تلحفت كلها بالسواد، بل اكتفت بغشارة من سبابتها كأنما كانت تهلل دون صوت مسموع. انطلقت السيارة وأنا أدعو للميتة وأترحم عليها، وأدعو لها بالصبر والسلوان، دون أن أسمع صوت المرأة بجواري نهائياً، لم تكن تقول: آمين، ولا أسمع لها شهيقاً أو بكاءً، ولم يكن جسدها يهتز، بفعل البكاء. كان السائق الشيخ الكبير يقود برزانة وهدؤ وحكمة. لم يكن مسرعاً أبداً. حين طال بنا الطريق سألته: هل المكان بعيد؟ لم يكن يرد في البداية، وحين سألته للمرة الثالثة قال: توكلي يا امرأة، قربنا نصل! بعد ذلك تلصصت على قدم المرأة بجواري، إذ كانت تلبس حذاء بلاستيكيا أسود رخيصاً، وكعبها وطرف ساقها من أسفل العباءة يكاد يضيء من شدة بياضه، ثم انتبهت إلى خاتم ذهبي مزين بالزركون، في إصبعها الوسطى، فتأكدت أنها فعلاً امرأة، بعدما أصابني وسواس أن تكون رجلاً بعباءة، وقد تآمر عليَّ هذان الرجلان، وفرا بي خارج المدينة، برغم أن الرجل السائق لا توحي ملامحه بمن يرتكب فعلة كهذه، ولكن دائماً نسمع أن المجرمين يستطيعون أن يضللوا ضحاياهم، باكتساب ملامح بريئة وصادقة ونبيلة. اكتشفتُ فجأة بعد هواجسي ووسواسي أننا ننحدر في منحدر شديد جهة غرب المدينة، وأن ليس حولنا غير الجبال والطريق السريع الذي يؤدي إلى الطائف، فلفت انتباهي برميل الماء الأسود المربوط في الصندوق الخلفي للسيارة وقد ترجرج يميناً ويساراً، عندها أيقنت أن الموضوع خطر، وأن نهايتي قد قربت، فقررتُ أن لا أكشف خوفي ورعبي، وأن أتماسك، فسألتُ المرأة بجواري: الميتة أمك؟ فلم تجب، فردّدتُ سريعاً متلعثمة ووجلة: عظم الله أجرك! وكأنني أرثي نفسي، وأترحم على حياتي ونهايتي القريبة جداً.

بعد زمن غير طويل، لم نسمع فيه ثلاثتنا غير أنين السيارة وهي تنهب الإسفلت بشراسة، حتى تطفلتُ ثانية، وسألتها: يا بنيتي تعوذي من الشيطان! فلم تتعوذ، ولم تنطق، فمددتُ يدي لأهز كفها، فصعقتني برودة كفها، وصوت السائق غاضباً: اسكتي يا امرأة! وتعوذي أنت من الشيطان، ولا تشغليني عن الطريق!

صمتُّ وقلبي لم يصمت، كان خفق قلبي يشبه خفق قلب طير مطارد، يطارده الرماة من شجرة إلى شجرة، ووسوست لي نفسي أن هذه المرأة قد تكون ميتة، لكنها مسندة إلى ظهر المرتبة، وأن هذا الرجل هو القاتل، ولكن لم يرد غسلها ودفنها، فالقاتل لا يهمه حتى لو رمى القتيل في كيس زبالة، ورماه في خزان أو بئر أو أي مكان آخر.

هدأت سرعة السيارة شيئاً فشيئاً، ثم انعطفت منحدرة إلى طريق بري ممهد، وأصبحت الشمس الصفراء على يسار السيارة، لنتجه في طريق طويل ومهجور جهة الشمال، دون أن يتردد أو يتفكر السائق بالطريق أمامه، مما أشعرني أنه يعرف الطريق جيداً، أو أنه ممن يعرفون أسرار البر والصحراء، التلال والأودية والشعبان والفياض، نعم أكيد أنه يعرف الشجر ومنازل النجوم، أكيد أنه يستهدي بالتربة، وشجر الطلح، والشفلح والرمث والغضا، حتى في الليل لا يمكن أن يتوه رجل مثله، لابد أن تقوده بنات نعش، والثريا، وسهيل، والمرزم، ونجمة الصبح، التي يعرفها الرجال النشامى.

بعد أن دخل بسيارته بين جبلين ضخمين جداً، واقترب من تل رملي، حتى أنني استغربت كيف جاء مثل هذا التل الرملي في أرض وعرة! المهم، أنه أوقف السيارة، وفتح الباب الخلفي للمرأة التي توقعت أن تكون جثة، وأن تسقط على الأرض، لكنني وجدتها تنزل ببطء وهدؤ وطواعية، وتمشي قدامه دون أن تغلق بابها. كان يمشي وراءها بخطوات محسوبة، وهي تتجه بجلال وطمأنينة عجيبة نحو التل الرملي، وما أن صارا فوق التل تماماً، حتى سبقها منحدراً، فتبعته. كنت أرى جذعيهما يغيبان شيئاً فشيئاً، حتى صرت أرى رأس المرأة فقط، قبل أن يغيب هو بدوره، دون أن تلتفت للوراء ولو مرة واحدة ناحيتي، كأنما كانت حاسمة في قرارها، كأنها كانت مخدرة أو غائبة عن العالم، لا تتحدث، ولا تتفاعل مع ما حولها أبداً، فلم يثرها أبداً حديثي ولا أسئلتي.

بعد دقائق من الصمت، وأنا وحدي في السيارة المفتوح بابها المجاور سمعت طلقاً نارياً ضجت له الجبال، تردد صداه طويلاً جداً، حتى أنني بعد سنوات من الحادثة أسمع صوت صدى طلقات نارية في بيتي الطيني الصغير، فأصحو مفزوعة من نومي. لا أعرف ما إذا كانت ثلاث طلقات متتابعة، أم أن الصدى الذي رددته الجبال مراراً هو ما جعل الطلقات تتكرر. الجبال في تلك اللحظة لم تكف عن البكاء، وقلبي لم يتوقف عن الرفيف، كأنه سيطير من قفص صدري، حتى أن قشعريرة ملأت فروة رأسي، فأحسست كأنما وقف شعر رأسي، ولم تبق قطرة دم في جسمي.

بعد دقائق كأنها دهر، لمحتُ جسداً يفيض من وراء التل، كان هو يخطو بتثاقل كأنما يجر وراءه جريرته، كأنه يجر مليون قتيل خلفه. وبعد أن حل رباط برميل لماء في الصندوق الخلفي، أمرني: انزلي! لم أكن أستطيع أن أرفض أو أحكي أو حتى أسأل، فنزلتُ ومشيت خلفه، بينما هو يدحرج البرميل أمامه، وقد ذكرني بأن أحمل معي حقيبة أغراض الغسل من غسول ودهون ومسك وعنبر وغيره كنت كأنني المرأة الشابة قبل قليل، وهو يمشي أمامي، وأنا أتبعه تجاه التل، مخدرة وصامتة، ولا ألتفت إلى الوراء، بل أتتبع قدميه الضخمتين اللتين تغوصان في الرمل، فينتشلهما بقوة وجبروت.

بعد أن نزلتُ من التل، لمحتها مطروحة داخل عباءتها، وبدأت عملي، بعد أن بذلتُ جهداً مضاعفاً في غسل الدم النازف من منطقة الصدر، مما يعني أنه حين سبقها إلى الأسفل استدار ورأى عينيها الخاشعتين بسكون، والذاهبتين إلى الموت الأبدي، ثم أطلق النار على حشاشة قلبه. نعم كان يحفر التربة بمسحاة أحضرها على كنفه، ولا يكف عن النشيج، ولحيته تبتلع الدمع السخي. كان يحفر ويشهق مثل امرأة، بل إنه حتى بعد أن لففنا الشابة داخل عباءتها، وأنزلها قليلاً في الحفرة، زلت قدمه، فهوى معها، وصار يشهق بعنف وجنون، حتى خفت أن يفعل بنفسه شيئاً، فبدأت أترحم عليها وأدعو لها، وأواسيه. فجأة انطلق لساني بالدعاء والترحم والمواساة. حتى عاد بي بعد أن أظلمت الدنيا إلى بيتي.

سألت أمي غاسلة الموتى، لم فعل كل هذا، وهو يشعر بمثل هذا الندم، قالت المرأة إنها لم تسأله حتى شارفت على حي العطايف، فقال لها:

- مسألة شرف. (القارورة ص.ص 43-47)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة