الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 5th May,2003 العدد : 10

الأثنين 4 ,ربيع الاول 1424

بين رايين
الرقيب.. في زمن «الإنترنت»
هل بإمكانه الحجب والتغييب؟!
الدويحي: الرقيب شبح مخيف آتٍ من زمن لم يبق منه غيره

* الثقافية سعيد الدحية الزهراني:
«الممنوع مرغوب» يبدو أن صلاحية هذه المقولة قد انتهى منذ زمن، ولم يعد لمدلولها أبسط أشكال التطبيق في مختلف المجالات والمناشط. لكن ما أستطيع أن
أجزم به دون أن يخالجني شك أو تردد في صحة ذلك الجزم هو انتهاء صلاحية مدلول عبارة «الممنوع مرغوب» تماماً في المجال أو النشاط الفكري والنتاج
الأدبي والثقافي عامة.
فلم يعد هناك أي ممنوع أصلاً، فكل ما تريده بل كل ما ينتج أردته أو لم ترده أريد لك أن تراه أو لم يرد لك ذلك فستراه دون أدنى مشقة أو خوف،
وذلك عن طريق هذا الاختراع الهائل والأول في ترتيب الاختراعات الإنسانية.
هذه الشبكة المعلوماتية المذهلة «الإنترنت» ان من المخجل حقيقة والمؤلم والمحزن أيضا ان تجد في هذا الزمن الانفتاحي المعلوماتي الحر في زمن ألا تأطير وألا
تغييب من نصّب نفسه أو نُصِّب رقيباً على ما يُنتج وما يُقرأ.
أقول من المخجل ان تجد ذلك لدينا بينما الآخرون من حولنا قد محوا من ذاكرتهم هذا المسمى تماماً. ونحن لا يزال هذا الكائن الغريب يروع أمننا ويلجم
أفواهنا.
أقول أيضا من المؤلم والمحزن ان تجد ذلك لدينا وكأننا لا نزال بحاجة الى من يحدد لنا المفيد فنقرؤه والضار فيمنعه.
من المؤلم والمحزن ان تجد من يستخف بعقلية المتلقي الى هذا الحد. ألم يعد المتلقي على درجة الوعي والإدراك تجعل له الحرية المطلقة في تناول ما يشاء
ويرغب. أليست الرقابة الذاتية المتأتية من الوعي والفهم والتعقل أفضل وبمراحل من الرقابة المفروضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
«الرقيب» هذه القضية المخجلة التي يفترض ان نكون قد تجاوزناها منذ أمد. تطرحها لكم زاويتكم «بين رأيين» لتقف على رأيين لاسمين أدبيين ثقافيين هما
الروائي الأستاذ أحمد سعيد الدويحي والقاص الأستاذ خالد العوض.
أما رأي الأستاذ الدويحي فقد جاء متضمناً لآراء أخرى حول الرقيب فقال:
تأمل حروف هذه المفردة الآتية من زمن لم يبق منه غيرها، وضع خلفها ما تريد أن تضعه من صفات على مدى عصور التاريخ، فربما حضرت في ذات
الوقت صور شتى بشعة جدا لهذا السيد الرقيب، القابض على بوادرها هاجس مخيف وملعون يريد مبدع ما أن يتجاوز به حدوده، ونثر أفكاره وإبداعه بين
الناس، وما على هذا الرقيب الأمين غير كتم أنفاسه بجملة من المبررات والمحرمات. ولست أدري لماذا خرج في وجوهنا هذا السيد فجأة!، وكأننا للحظة
نكتشف انه موجود بيننا، فاليوم صدفة وأنا أتناول سؤالك، اكتشفت وأنا أقرأ صحف الصباح، أن هناك كاتبين تناولا هذا الشبح المخيف، المعشش في
شرايين ونسيج حياتنا كتاباً ومنتجين، قراء ومتلقين على حد سواء، وكأننا للتو نكتشف.
د. محمد العوين في «الأربعاء» رسم حروفاً غاية في الجمال، لوصف حالة ودور وواقع هذا السيد الرقيب، بهذه الصورة الكاريكاتيرية الهزلية كقوله:
«الكل من حوله ممن يعملون ويبدعون وينتجون مرعبون ومدمرون، لأن في أقلامهم أو كلماتهم تتوقف حياته أو موته، رواج سوقه أو كساده، طلوعه
وانتفاشه أو خسوف حظه وانكماشه!! ولم لا يتشمشم ويتحسس ويتلصص ويتوجس ويهرول مذعوراً مفيداً بنبأ عن واقعة حلت بفلان الكاتب، أو فلان
القائل المتحدث أو صاحب الرأي لو لم يكن هو هذا الرقيب الموهوب الفطن الحذق الحريص على المصلحة في كامل اليقظة والترصد والترقب والحذر
والالتقاط، وقد كف عن مديره كل السيئات حين وفقه أنفه أو أذنيه أو عينيه وهي أجهزة الرصد لقص وحذف ومنتاج وخسف وطمس ورمي هذا
«التجاوز» في غياهب النسيان، وكأن كلاماً لم يكن، وكأن مقالاً لم يكتب، ولم ينشر!!».
أما الزميلة فوزية محمد الجلال، فتناولت في «سطورها» بهذه الصحيفة المسألة من ناحية تاريخية، حين اندفعت سيول الكراهية مجنونة باتجاه كل شيء فاجتاح
«المغول» المدن والعواصم الإسلامية وأمطروها بوابل لا يرحم من الحقد والتنكيل غير المسبوق في التاريخ الإنساني كله، فنالوا كلا من كل شيء جميل بكل
المكتبات الإسلامية في بغداد ومدن الشام، أحرقوا وأغرقوا ومثلوا بملايين الكتب حتى أنهم جعلوا نوادرها اصطبلات لخيولهم وطوالات لبهائمهم وجسوراً
للصوص الظلام، ثم ألقوا بما أمكنهم منها في مياه دجلة ليعم الحزن والسواد والعطش حتى يومنا هذا ..» موردة قول «ابن حزم» في مواجهة تلك اللهجة
البدائية المتعصبة على الكتب عندما سيقت الآلاف منها الى مناص الإعدام ...
فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
بمثل هذه القيمة ماذا بقي لي ولغيري لنقوله، مع ان المشهد مليء بالحكايات الساخرة والمؤلمة من تجارب زملائنا مع السيد الرقيب، ونحن نشهد في السنوات
الأخيرة هجرة جل إبداعنا يطبع ويقرأ خارج حدودنا في ظل ثورة المعلومات ووسائل النشر والاتصال الحديثة، لأن هذه هي طبيعة الحياة ولأن الحرية لا
تعطى، لأنها في النهاية حق مشروع حتى لو بنى هذا السيد الرقيب له مسكناً، حتى لو كانت هذه هي سياسة الغزاة منذ الأزل، كما قالت «فوزية في
سطورها»، لأن أمة بلا كتاب، أمة بلا ثقافة، بلا حضارة بلا وجود، أمة مهزومة حتى النخاع.
أما الأستاذ العوض فأبدى رأيه بالتركيز على تعريف الرقيب قائلاً:
الرقيب هي ظاهرة قديمة تمتد الى قرون سابقة ولا تشمل الأدب فقط بل تمتد الى فروع أخرى كالسياسة والفن والعلوم وغيرها.
لكن من الأفضل ان نحصل على تعريف دقيق لهذه الفكرة إذ يمكن أن نجتهد في تعريف الرقابة بأنها الإشراف أو السيطرة على المعلومات أو الأفكار التي يمكن
أن تنتشر بين الناس في مجتمع ما.
وبالطبع فإن الأدب أو الثقافة هي من ضمن هذه الأفكار أو المعلومات التي يمكن أن تنتشر بين الناس سواء كان ذلك عن طريق الكتاب أو الأعمال
السينمائية أو المسرحيات أو البرامج التلفزيونية أو الإذاعية أو حتى التقارير الإخبارية.
كل مجتمع لديه من العادات أو المحظورات التي يصبح فيها من الضروري البحث عن طريقة معينة لتنظيم أشكال التعبير سواء كان ذلك أدبياً أو عاماً.
في أثينا القديمة مثلا التي تعتبر أساس الديمقراطية، كان سقراط الفيلسوف المعروف يدافع عن حرية التعبير وكان مستعداً للتضحية بحياته على أن يقبل ان
تراقب تعاليمه ودروسه. اتهمه الإغريق بعبادة آلهة غريبة وإفساد عقول الطلاب الذين يدرسون على يديه إلا أنه دافع عن حرية التعبير عن الرأي ويعتبر بذلك
أو إنسان صاغ فلسفة خاصة بالحرية الفكرية. وليس هناك شاهد على الوجود المسيطر لدور الرقيب أكثر من الحقيقة المعروفة عن سقراط نفسه حيث تمت
محاكمته وإعدامه في عام 399 قبل الميلاد، بعد أن منعت كتبه من أن يطلع عليها الجمهور.
وعلى النقيض من ذلك فقد كان تلميذه أفلاطون أول مفكر يرى بضرورة الرقابة الدينية والفكرية والفنية، يرى هذا الفيلسوف بضرورة ان يخدم الفن
الجانب الأخلاقي وان أي فكر يناقض المبادئ الأخلاقية يجب أن يمنع من التداول، في المدينة المثالية التي كتب عنها في كتابه «الجمهورية» يرى أفلاطون ان
الرقيب يجب أن يمنع الأمهات من سرد قصص سيئة أو شريرة لأطفالهن، كما ان قوانينه التي أصدرها تقول: ان الاعتقادات الخاطئة عن الإله تعتبر نوعاً من
الإجرام.
في بريطانيا القرن السادس عشر مثلا، تخلص الملك هنري الثامن من زوجته لأنها كانت تحتفظ بنسخة انجيلية ممنوعة من التداول، كما ان نصوصاً أخرى
للإنجيل كانت ممنوعة في ذلك الوقت، أي انها كانت تتعرض لمستوى قاس من الرقابة الشديدة.
وليس أفضل مثال على هذا الأمر في العصر الحديث على الكتب الأدبية التي تعرضت لنوع من الرقابة من الروايات الساحقة التي طغت على الساحة الأدبية
مؤخراً وهي سلسلة هاري بوتر للكاتبة الأيرلندية ج.ك. رولينج التي تتحدث عن السحر وتخاطب القارئ الكبير والصغير على حد سواء. بعض الأوساط
المسيحية نادت بمنع هذه السلسلة من التداول بحجة أنها تشجع الناس على ممارسة السحر. لكن لم يستطع أحد حتى الآن من النجاح في منع هذه السلسلة.
وفي دراسة غربية أجريت في أواخر الثمانينات عن مستوى الرقابة في الدول وكان المعيار يتراوح بين درجة واحدة «أي خالية تقريباً من الرقابة» و15 درجة
«تكثر فيه الرقابة» حيث اتضح ان 60 دولة التي يبلغ سكانها بليوني نسمة تتمتع بدرجات عالية من الحرية «1 5» . هذه الدول تتركز في أمريكا الشمالية
وأوروبا الغربية وتشمل أيضا اليابان واستراليا ونيوزيلاندا. وهناك 39 دولة بتعداد بليون نسمة تتمتع بدرجات تتراوح بين 6 و10، بينما تبين ان 68 دولة
بتعداد يتجاوز بليوني نسمة لديها أشكال من الأنظمة تمنع الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين وكان الكثير من الانتباه يتركز في الاتحاد السوفياتي وباقي
الدول الشيوعية، هذا النوع من الرقابة يؤدي الى بروز ظاهرة المنفى حيث عمدت الكثير من الشخصيات الأدبية والعلمية الى مغادرة البلاد ومن ضمن
هؤلاء في العهد السوفياتي الكاتب ألكسندر سولزهينتسن الذي حصل على جائزة نوبل للأدب في عام 1975م، لكن في نهاية الثمانينات بدأ مستوى الرقابة
في الاتحاد السوفياتي يقل تدريجياً في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشيف حتى تفكك الاتحاد السوفياتي تماماً..
الدول الشيوعية كانت من أكثر الدول في العالم في التضييق على الحريات. في منتصف السبعينات كانت الهند تطبق نظاماً صارماً في الرقابة وذلك كجزء من
حالة الطوارئ التي كانت تطبقها، وحتى في بعض الدول الديمقراطية كفرنسا مثلا عندما قامت الحكومة الفرنسية برفع قضايا في عام 1980م ضد جريدة
اللوموند بسبب أنها نشرت خمس مقالات تشكك فيها بالمحاكم القضائية في فرنسا.
إذن، اتضح ان هذه القضية عالمية، ومشكلات الرقيب في الساحة العالمية معقدة قد تؤدي الى ارتفاع مبيعات لكتّاب يمارس عليهم هذا النوع من الرقابة
وليس هناك حاجة لضرب أمثلة على كتّاب نكرة أصبحوا من أشهر الأدباء في العالم..
المشكلة التي تؤرقني في هذا الجانب هي الرقيب الداخلي الذي يطوره الفرد أحياناً داخل نفسه، أما الرقيب الخارجي فيمكن تجاوزه أحياناً عن طريق الرمز او
استخدام لغة من نوع خاص كجواز مرور قد يفشل فيه هذا الرقيب الذي عادة ما يفتقد الى الأدوات التي تجعله يكتشف مثل هذه القنوات المتاحة للمرور.
لذلك، المشكلة ليست في الكتب التي صدرت وأثارت ضجة بعد صدورها.
المشكلة بالنسبة لدي هي تلك الكتب التي لم تكتب بعد التي لم يقرأها أحد.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
المنتدى
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون

ارشيف الاعداد


موافق

ابحث في هذا العدد

للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved