الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

شِعْرِيَّةُ القِيَم
(قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجًا)«7»
د. عبد الله الفَيْفي

ذكرتُ في المساق الماضي من سلسلة هذه القراءة في خطاب حمزة شحاتة أنه كما كان ينازع شحاتة حنينُه إلى الماضي، يُلمح حنينُه إلى القرية، أو جفوله من المدينة، وأن رؤاه تقع في ذلك في شَرَك التناقض. ولا أدلّ على هذا من ربطه الفضائل بالقرية، والرذائل بالمدينة.
ومع أن المؤلّف كان قد قرّر في محاضرته (الرجولة عماد الخُلق الفاضل) أن (الأمين يكون أمينًا كلّما بالغ في أمانته، والخائن يكون خائنًا مهما قصّر به مدى خيانته، ويكون صادقًا أو كاذبًا، ولا وسط) (1)، فإنه قد ناقض رأيه ذاك بعد صفحتين، حيث أقرّ بأن (الكذب في المدينة العامرة ضرورة اجتماعية واقتصادية، تعين على الرواج، وانتعاش حركة التبادل، والإقناع، فلو ساد الصدقُ فيها أُصيبتْ مجالات الحركة والنشاط برَكدة، يتضاعف معها الشعور بأعباء الحياة وهمومها) (2). فما دام الأمر كذلك، أفيعني هذا أن من مصلحة المجتمع في المدينة ألاّ تقوم حياته الاجتماعية والاقتصادية، وألاّ يكون هناك رواجٌ وانتعاش لحركة التبادل التجاري، تجنّبًا لما يسميه الكذب؟! أ ولو صح قوله: إنه (لو ساد الصدقُ فيها أُصيبتْ مجالات الحركة والنشاط برَكدة، يتضاعف معها الشعور بأعباء الحياة وهمومها) - يبقى الصدق بعدئذٍ فضيلة، أو يُرى التمسُّك به، وإن (أُصيبت مجالات الحركة والنشاط برَكدة، وتضاعف الشعور بأعباء الحياة وهمومها)؟! وبرؤيته إلى القِيَم، التي رأينا في المساقات السابقة غَلَبَة ماديّتها على تفسيراتها- وإنْ تضاربت ومرجعياته الثقافية، وأوقعته في التناقض- يناقش قيمة (الأمانة) في المجتمع اليوم.
فالأمانة - التي تأتي الإشارة إليها في القرآن الكريم، في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (3)كانت في رأيه - على الأرجح - دليل سيطرة القويّ، وندرة مثاله...
ولا شكّ أنها كانت مقصورة على من هَيّأت لهم قوّتهم من امتداد النفوذ بين الجماعة سبيل السلطان عليها) (4). وبذا يقف القارئ أمام نصّين على صفحتين متقابلتين، يقول الأول: إن (الكذب في المدينة العامرة ضرورة اجتماعية واقتصادية) (5)، ويقول الآخر: (إن الأمانة) اليوم ضرورة لصيانة السمعة، واستجلاب الثقة والفَرَق من اختراق حدود القوانين.
(6) فكيف تصبح قيمة (الكذب) إلى جوار قيمة (الأمانة) ضرورتين اجتماعيتين في المدينة العامرة اليوم، مع أنهما قيمتان متضادتان؟! من الواضح أن المؤلف لا يفرّق بين هاتين القيمتين إلا لكونهما في رأيه غير أصيلتين في النفس البشرية، وإنما تدفع إليهما المصالح، وتدفع عنهما المضارّ؛ ولهذا فإن الأمانة لم تكن سائدة في المجتمع المدني إلا بسُلطة القانون، على حين أن ليس هناك قانون يمنع من الكذب، بوصفه سلوكًا فرديًّا.
والمؤلّف يُغفل في تأمّلاته أن المجتمع المدنيّ بقوانينه بمثابة سُلطة تربوية، وأن تلك السُّلْطة من نوع الرياضة العنيفة، التي يُقرّ المؤلف بأن الإنسان من خلالها مطالب بأن يَحُوْلَ دون نزعات الشرّ فيه، كما تَحُوْلُ الرياضة العنيفة دون ترهّل الجِسم (7). فكان حريًّا بالإنسان إذن أن تتهذّب أخلاقه نسبيًّا في المدينة، وأن تلحق قيمةُ الصدق هناك قيمةَ الأمانة، في مضمار ترقّي الإنسان وتأديبه. بيد أن ثمة عوامل ظلت تقنع المؤلِّف بمثل مقياسه هذا، غير المنطقيّ ولا الإنسانيّ، الذي يفترض تحلّي المجتمع المدني بالأمانة مع اتصافه بالكذب، في آن! منها:
أ) رؤيته المادية الآليّة، المبالغة في نصب ميزان الربح والخسارة وراء قِيَم الإنسان، مع الإعراض عن الجانب الإنساني والتربويّ في منظومة القِيَم.
ب) تفضيله الماضي على الراهن، ولا غرو فهو المتسائل: وذَكَّرْتُ أَجيالِي بماضي عُهودِنا، فَهَلْ ذَكَرُوها بعدَ لأْيٍ؟ وهل حَنُّوا؟(8)
ج) تفضيله المجتمع القروي على المجتمع المدني، فخطابه يشفّ عن حنين طوباويّ إلى قِيَم المكان البسيط.
ما يُؤكّد بجملته أنه كان يمرّ بطور ثقافي من التنازع بين الماضي والراهن، وعوالم المدنيّة والمجتمع الأوّليّ، مع قلق في الاختيار والتفضيل. ولقد تجلّت آثار مواقفه هذه من الزمان والمكان، تمجيدًا شعريًّا للماضي وضيقًا بالراهن، في مثل قصيدته (أبيس) (9)- مستدعيًا تاريخ (مكّة) ومخايل الصحراء - أو قصيدته (جُدّة) (10)، مدينته التي عاث فيها- كما يشكو- (شباب ما زَكَتْ غِرَاسُه)، وأدعياء جبناء، مكانهم مرموق، هم صورةٌ عن مجتمع المدينة، كما أورد وصف قِيَمه في محاضرته:
ليَ ماضٍ، لم أَنْسَهُ، فيكِ قد غَصَّ
بشَجْوٍ، غروبُهُ والشُّروقُ
كيفَ أُنسيتِهِ، وضَيَّعْتِ ذِكرا
هُ؟ وهل يُسْلِمُ الرفيقَ الرَّفيقُ
أَهُو َ الغَدرُ مِيْسَمُ الحُسْنِ في شَرْ
عِكِ، والعَهدُ في هَواكِ عُقُوقُ؟
حَبّذا أنتِ، لو وَفَيْتِ وأجْملْ
تِ، ولم يُنْتَهَكْ لَدَيْكِ الصَّديقُ
فوفاءُ الحبيبِ أسمى مَعاني الحُس
نِ، والطُّهرُ بالجَمالِ خليقُ
لا تكوني خَوّانةً يُمطَلُ الدَّيْ
نُ لديها، ولا يَفُوزُ السَّبُوقُ(11)
وهكذا تبدو المدينة لدى شحاتة وجهًا آخر للمرأة، الغادرِ حُسْنُها، العاقِّ هواها، الخائنِ وفاؤها، أشبه ما تكون بحيوان بقرنين، به مس من طبيعة شيطان، لا تستحي، ولا تَعَلُّقَ لها ب(الرجولة، عماد الخلق الفاضل)، ولكن تَعَلُّقها ب(شبابٍ ما زَكَتْ غِرَاسُه)، أدعياء، جبناء.
وختامًا، فإن شحاتة - وإنْ ظلّ يرى (الحياء) مفتاح المفاتيح في الفضائل- لم يقدّم إلى القارئ في محاضرته تصوّرًا تربويًّا، ذا منهج عمليّ وواقعيّ، وإنما اكتفى بالإشارة إلى مبدأ (الحُرّيّة) في التربية، وأهميّة تكوين الشخصية المستقلّة، مع قيام القُدوة الصادقة (12).
وبالجملة فقد انتهى به المطاف إلى شِبْه إنشائيّات وعظيّة(13)، لا تتفق ومقدّماته الوثوقيّة حول تاريخ التجربة الإنسانية. ولو أنه قد سلّم بضرورة قيام الحافز- ماديًّا أو معنويًّا- وراء السلوك البشري، ثُمّ وَعَى مبدأ النسبيّة في قيام الظواهر القيمية في المجتمعات، لاستقام له منطق القياس النظريّ، إنْ في أمور الدُّنيا أو الدِّين. وعليه، فإن قيمة محاضرة شحاتة (الرجولة عماد الخُلق الفاضل) تكمن بالدرجة الأولى في:
1) ما تكشفه عن المرحلة التي ألقى فيها شحاتة محاضرته، في شهر ذي الحجة 1359هـ= 1939م، وعمره إذ ذاك ثلاثون سنة (14). تلك المرحلة الانتقالية: بين الشباب والرجولة. ومن هذا الجانب يمكن القول: إن المحاضرة شاهدة على شخصية صاحبها وسيرته الفكرية، في طور دقيق من أطور حياته.
2) ما تكشفه المحاضرة عن المرحلة العامة التي عايشها المؤلف، (1908- 1910- 1973) (15). وهي مرحلة انتقاليّة قلقة على المستوى العربي والعالميّ، متجاذبة بين الروحانية والمادية، وبين اليقين والشكّ، وبين المجتمع البسيط والمجتمع المدنيّ المعقّد، بمتطلّباته الجديدة وقِيَمه الحديثة.
ومن هنا فإن مثل هذا العمل يُعدّ شاهدًا على عصر من التحوّلات الكُبرى في حياة الأمّة والإنسانية، صاحبتها انزياحاتُها في القِيَم والمفاهيم. حتى إن مولد الاهتمام الحقيقي ببحث القِيَم- بل استعمال مصطلح (القيمة) Value، مدركاً فلسفيًّا- لم يسبق ثلاثينيات القرن الماضي، إذ وُلد في أحضان الفلسفة الوضعية في (فِيَنّا، بالنمسا)، بعد الحرب العالمية الأولى (16).
3) من وجهةٍ نقديّة أدبيّة، تُعدّ محاضرة شحاتة شاهدًا نموذجيًّا على تنازع القِيَم بين تيارَي ذهن الشاعر ووجدانه. فالمؤلّف - وإنْ تقمّص البحث وحاول التعبير عن القِيَم في خطاب تأملّي نقديّ - قد ظلّ أمينًا على طبيعته الشعرية، يقع في غير قليل من التطابق بين خطابه الشعري وخطابه النثري، حسب تذبذبهما واتساقهما، رُغم ما يُفترض بين هذين الخطابين من اختلاف نوعيّ.


aalfaify@hotmail.com


***
إحالات
1) شحاتة، حمزة، (1981)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 73.
2) م.ن.، 76.
3) سورة الأحزاب، آية 72.
4) شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، 77.
5) م.ن.، 76.
6) م.ن.، 77.
7) م.ن.، 78.
8) (1988)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى:؟)، 175.
9) يُنظر: م. ن.، 190- 191، 197- 199.
10) م. ن.، 67- 70.
11) م. ن. ، 69.
12) يُنظر: شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، 106- 000.
13) يُنظر: م. ن. ، 101.
14) ضياء، عزيز، (1397هـ)، حمزة شحاتة: قمّة عُرفت ولم تُكتشف، (الرياض: دار الرفاعي)، سلسلة المكتبة الصغيرة برقم 21، عن: شحاتة، م. ن. - المقدمة، 11، 13.
15) التاريخ الأول لميلاد شحاتة يذكره (ضياء، 13)، على حين يرد التاريخ الآخر في سيدو، أمين سليمان؛ محمد بن عبد الرزاق القشعمي، (2001)، موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث: نصوص مختارة ودراسات (تراجم الكُتّاب)، (الرياض: المفردات)، 9: 52.
16) يُنظر: بيومي، محمد أحمد، (1981)، علم اجتماع القِيَم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، 45.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved