الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

صحافة المسافرين
قاسم حول*

لعل الصحافة الجديدة التي هي صحافة المسافرين قد أصبحت أكثر الصحف مبيعا في العالم. فالناس كل الناس تتوجه في أول الصباح إلى أعمالها وفي أوروبا تتخذ من القطارات والترامات والباصات وسائل لتنقلها.
وقد ابتدعت المهنة الصحفية صحافة جديدة للمسافرين ضربت رقما قياسيا في القراءة. وهذه الصحيفة مجانية تقوم المؤسسة التي تصدرها بتوزيعها في محطات القطارات حيث تضعها في مدخل المحطة يتناولها المسافر، يقرؤها ويتركها في مكانه فيأتي مسافر آخر يجدها على الكرسي ويقرؤها. في هولندا أطلقوا عليها Metro هذه لا شك ضربة صحفية عبقرية.
في هذه الصحيفة التي تطبع فيما يطلق عليه القطع الصغير، اعتمدت هذا الحجم لكي لا يزعج المسافر القارئ الشخص الذي يجلس إلى جانبه عندما يتصفح الجريدة خشية أن تلامس الجريدة أنف المسافر الذي يشارك القارئ مكان الجلوس، وكما يقول جان بول سارتر (إن حرية يدك تنتهي عندما تبدأ حرية أنفي). تضم هذه الصحيفة الأخبار اليومية الهامة وأخبار الطقس وبضعة مقالات وأخبار الرياضة (بالتأكيد) والأخبار المثيرة وأسعار العملات ومقالتين أو ثلاثا بحيث إن مسافر المسافة لنصف ساعة يستطيع قراءتها أو قراءة ما يهمه منها.
عندما تسافر فإنك تجد الصحيفة على كرسي القاطرة أو في كرسي الترام أو الباص، ناهيك عن مدخل المحطة. هذه الصحيفة التي ضربت رقما قياسيا في الطباعة والتوزيع بعدد القراء في استطلاعات الرأي، تتهافت عليها الشركات والمؤسسات للإعلان فيها، فإن الإعلان يشكل حوالي خمسة وسبعين بالمائة من أوراق الصحيفة وهي بهذا تحقق أرباحا خيالية سيما إذا ما عرفنا أن الإعلان ينشر بسعر مرتفع عن أسعار بقية الصحف بسبب حجم التوزيع. وهذه هي أول صحيفة ربما في تاريخ الصحافة العالمية تحقق أرباحا خيالية ولا تحتاج أو تبحث عن الدعم غير المنظور الذي تعيش من ورائه العديد من الصحف في العالم لأن الصحافة وخاصة المعاصرة في وقتنا الراهن هي مشروع خاسر إذا لم يتوفر لها الدعم الإعلاني ودعم الدولة والأهم دعم ما يطلق عليه غير المنظور. يقودنا هذا للحديث عن صحافة الإنترنت التي هربت من السوق ومن الموزع الذي يهيمن على المبيعات ولا يعيد المسترجعات من غير المباع لأن كلفة نقل إعادة الصحف غير المباعة أكثر من إعادة ثمن الصحيفة.
ولهذا السبب وبسبب مصروفات الشحن وعدم وصول الصحيفة اليومية في موعدها فإن كبريات الصحف تطبع نسخها في أكثر من بلد. من هذا المنطلق سعى بعض الصحفيين إلى إصدار صحف جديدة على الإنترنت.
هذه الصحف تخلصت من مشاكل التوزيع وهيمنة الموزع على أكثر مبيعات الصحافة، واليوم وبعد ثورة الإنترنت واستحداث صحف الإنترنت والمواقع التي هي الأخرى تشبه المجلات صار المواطن يجد الأخبار ويقتني المعلومات من تلك الصحف والمواقع.
والمواطن من الجيل الجديد الذي لم يتمتع بجمال تصفح الجريدة مع قهوة الصباح وتأجيل الموضوعات المهمة غير الإخبارية إلى ما بعد العودة من العمل والاسترخاء بعد الغداء على السرير وقراءة المقالات المؤجلة، هذا المواطن الجديد الذي لم يتمتع بهذه المتع المعرفية لا يحن بالضرورة إلى الصحيفة المطبوعة بل قد يندهش أن يمسك الإنسان تلك الأوراق الطويلة العريضة ويقلبها ويقرأ فيها.
أما نحن الذين خسرنا طعم الجريدة فلا نستطيع أن نعوضها بصحافة الإنترنت. كل ذلك حصل بسبب القفزة العلمية المفاجئة التي قطعت التواصل بين جيلين، جيل أصبح في عداد (الأكسباير) وجيل آخر مقطوع الصلة بالماضي والتواصل الطبيعي لمسار الحياة في كل المجالات ومنها المجالات المعرفية والمتمثل في جانب منها في المجالات الصحفية.
تأتي صحافة القطارات أو صحافة المسافرين أو صحافة المترو لتعيد للصحيفة هيبتها بطريقة مختلفة نسبيا، والمهم أن الجيل الجديد، جيل صحافة الإنترنت والمواقع على الإنترنت، صار مضطرا أن يمسك الجريدة الورقية في محطة القطار ويأخذها معه ويبدأ في تصفحها لكي يقتل حالة الملل والتكرار اليومية وهو ذاهب إلى الجامعة أو إلى مقر عمله.
وهذه إحدى حسنات صحافة المسافرين، فالمسافر الذي يعرف الأخبار عبر الإنترنت ولا يريد أن يشتري الصحيفة، فإنه يجدها مصفوفة على طاولات في محطات القطارات وصارت الحركة أوتوماتيكية.. والمسافر يركض مسرعا للحاق بقطاره تمتد يده بشكل تلقائي وتسحب صحيفة يتصفحها المسافر ويقرأ أهم ما يثير انتباهه ويتصفح الإعلانات وقد يجد في إعلان ما فرصة عمل له أو فرصة دورة تدريبية أو لا يجد فيترك الصحيفة على كرسيه ويغادر في المحطة القادمة لتبقى الصحيفة الواحدة مقروءة من قبل مئات المسافرين.
هذا يحصل في أوروبا.. في بلداننا لا تجد مثل هذه الصحيفة ذات الاهتمام، فنحن لا توجد لدينا شبكة وسائل التنقل في نفس صيغة التنقلات في أوروبا، فالقطارات تربط المدن والضواحي في أوروبا وكذلك الترامات والباصات والمترو، أما عندنا فلم ننظم وسائل النقل المريحة هذه والأنيقة والملونة وذات الكراسي المريحة التي تتيح تصفح وقراءة الجريدة.
فعندنا أما مسافر ثري يتنقل في سيارته أو فقير يصعد الباص بالاعتراك والتعلق بأطراف أبواب الباصات والصراخ وسط الأغاني المسجلة بطريقة عشوائية يتسلى بها السائق أكثر من المسافرين الذين ينضح العرق منهم وسط الزحمة وحرارة الطقس. وفي بلدان عربية أخرى يحل التاكسي الرخيص محل الباصات ويكثر السائقون الهنود. في كل هذا الواقع لا يوجد مكان لصحيفة المسافرين. في بلداننا يبقى الصراع قائما ما بين صحافة الأمس وصحافة اليوم. ما بين صحافة الورق وصحافة الإنترنت.
والحل الوسط صحافة المسافرين لا مكان لها سوى في بلدان تنساب فيها القطارات في مواعيدها، وجدران القاطرات الملونة عليها اللوحات المرسومة والمعلومات الدقيقة وشباك عريض تمر الحقول من أمام المسافر وهو يقلب صحيفة المسافر ويتأمل.. ونحن أحيانا نشعر بأن الهدوء والتأمل قاتلان، فنشتاق إلى فوضى الشرق.. بعد ذلك لا تدري أين أنت من الخطأ والصواب.. وتحتار. وتبقى صحيفة المسافرين.. حلا وسطا لا ندري كيف خطر على بال صحفي قد يكون مغمورا وصار من أصحاب الملايين وعثر على الحل دون أن يدري.


* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved