الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 05th June,2006 العدد : 156

الأثنين 9 ,جمادى الاولى 1427

التقويض الفرويدي (2)
سعد البازعي

أحد الأحداث الهامة في حياة فرويد كان زواجه بعد عودته من فرنسا من مارتا بيرنيز، ابنة عائلة يهودية بارزة تضم بين أجدادها الشاعر الألماني هاينريش هاينه. ومن بين الستة أطفال الذين أنجبتهم مارتا فرويد كانت الأبرز دون شك ابنتهما (آنا) التي صارت بدورها فيما بعد محللة نفسية شهيرة وأستاذة بارزة لعلم النفس في الجامعة العبرية بالقدس.
وتشير رسائل فرويد الكثيرة إلى مارتا إلى أن الزواج تم بعد فترة من التعلق شديد والهيام عبر عنها فرويد بأسلوب جميل يعلو أحياناً إلى الشاعرية. لكن العلاقة بينهما، كما تبين لباحثين متأخرين، لم تخل من توتر شديد ومعاناة من جانب مارتا بشكل خاص نتيجة لقوة شخصية فرويد وتسلطه أحياناً.
غير أنه على الرغم من ذلك استمرت الحياة طبيعية، واستطاع فرويد أن يكرس الكثير من وقته لحقل اهتمامه على عدة مستويات شملت الممارسة العلاجية- التحليلية والمشاركة في حوارات ومناقشات حول نظرياته والأفكار الشائعة في عصره حول الطب النفسي بشكل خاص، وفي النشر والتأليف.
وكان من أبرز تطورات تلك المرحلة تبلور منهجية التحليل النفسي عبر جهود فرويد الذاتية وأيضاً من خلال جهود مجموعة من الباحثين الذين التأموا حوله وآمنوا بنظريته، ومع أن أكثر أولئك كان من اليهود، فإن المجموعة ضمت أسماء أخرى لا صلة لها بالجماعة اليهودية لعل أبرزهم كان كارل يونغ ذو الخلفية البروتستانتية الذي ترأس الجمعية الدولية للتحليل النفسي التي أسسها فرويد مع مجموعته، وقد ذكر فرويد في بعض رسائله أنه حرص على تولي بروتستانتي مثل يونغ رئاسة تلك الجمعية دفعاً لتهم الفئوية اليهودية.
بيد أن يونغ لم يلبث أن ساءت علاقته بفرويد فابتعد عنه مثلما ابتعد آخرون.
استمر نشاط فرويد والمجموعة التي بقيت معه لفترة زمنية طويلة، قام أثناءها بالعديد من الرحلات خارج النمسا لعل أهمها رحلات إلى الولايات المتحدة كان أولها عام 1909 حيث ألقى محاضرة في إحدى الجامعات رسخت حضوره في المشهد الثقافي والعلمي الأمريكي وأدت إلى نشر نظرياته والتحليل النفسي بشكل خاص سواء على المستوى الأكاديمي أو على المستوى المهني حيث تنامت عيادات الطب النفسي انظر كتاب (اليهود والروح الأمريكية) لهاينز، 2005.
غير أن فرويد الذي كان يلقى الترحيب في الولايات المتحدة، كما في بريطانيا، وجد الكثير من المعارضة والنقد في موطنه ومدينته التي عاش فيها معظم حياته التي اضطر لمغادرتها إلى بريطانيا عام 1937 هرباً من التهديد النازي.
ذلك أن النازية كانت قد جعلت فرويد أحد أهدافها حين أحرقت كتبه ضمن آلاف الكتب التي أحرقت لليهود وغيرهم مما يتعارض مع الأيديولوجيا النازية وطموحاتها السياسية، وحين جاء فرويد إلى بريطانيا فإن نشاطه لم يتوقف وإن بقدر وسرعة مختلفين عن ذي قبل نتيجة لكبر السن ثم لإصابته بمرض السرطان ووفاته إثر ذلك عام 1939.
الأعمال التي نشرها فرويد على امتداد نشاطه العلمي والعملي هي مما يضيق المجال عن ذكره، لكن يمكن الإشارة إلى أشهرها، وهي: دراسات في الهستيريا بالاشتراك مع جوزف بروير (1895)؛ تفسير الأحلام (1900)؛ سايكوباثولوجيا الحياة اليومية (1904)؛ ثلاث مساهمات في النظرية النفسية (1910)؛ الطوطم والتابو (1913)؛ تاريخ حركة التحليل النفسي (1914)؛ مقدمة عامة للتحليل النفسي (17-1916)؛ (1982)؛ ما وراء مبدأ اللذة (1920)؛ الحضارة وقلقها (1930)؛ موسى والتوحيد (1939).
في هذه الأعمال وغيرها مما لا يقل أهمية طور فرويد نظريته حول النفس البشرية وبنيتها ونوازعها مما أثار الكثير من الخلاف الذي لا يزال ممتداً إلى اليوم، لاسيما نظريته المتعلقة بدور الجنس في حياة الإنسان وموقفه من الأديان، وما يهمنا هنا ليس بسط هذه النظرية، فلذلك مكانه الخاص في الدراسات الكثيرة التي تناولت فرويد شرحاً وتحليلاً وتأريخاً.
ما يهمنا هو ربط تلك النظرية بأسسها وملامحها المعروفة بالسياق الثقافي اليهودي ضمن التشكيل الحضاري الغربي، ولتحقيق ذلك ينبغي التركيز على مسألة الهوية اليهودية لدى فرويد بوصفه مفكراً وعالماً، بل وناشطاً أيديولوجياً في مجال اهتمامه على النحو الذي يتضح من أعماله ورسائله، وكما اتضح لعدد من الباحثين الغربيين بشكل خاص في دراستهم لهذا الجانب.
(يهودية) التحليل النفسي:
في قصيدة كتبها الشاعر الإنجليزي و.ه.أودن عند وفاة فرويد بعنوان (في ذكرى سيغموند فرويد)، يقول الشاعر: إن النظرة الجادة التي يكتسيها وجه فرويد، (اليهودي المهم الذي مات في الغربة)، إنما تمثل نوعاً من الحماية الذاتية التي اختارها إنسان محاط بالأعداء.
غير أن تفسير أودن، على الرغم من أهميته من حيث هو التفاتة إلى جانب في شخصية فرويد ومحاولة لتفسيرها، لا يعدو أن يكون في النهاية مجرد ملاحظة عامة قد تنطبق على عدد كبير من المفكرين والعلماء والمصلحين والمبدعين ممن أحاط بهم الأعداء من كل جانب وعلى مر التاريخ، ففرويد شأن غيره من ذوي الأطروحات الجادة والعميقة كان لا بد أن يثير الاختلاف وأن يستنهض العداوات على اختلافها، فليس مثيراًً إذا أن تعلو وجه فرويد النظرات الجادة أو أن يكون له أعداء.
المثير هو طبيعة الأعداء وأسباب تحلقهم حوله ودلالة ذلك كله، إن كانت له دلالة، على أطروحات المفكر أو العالم أو غير ذلك، لن نجد صعوبة في العثور على تفسير أكثر دقة وقدرة على تفسير ما لاحظه أودن على وجه فرويد، فالأعمال الكثيرة التي تركها فرويد نفسه والأعمال الأكثر منها بكثير التي تنامت حول تلك الأعمال تفيض بتحليلات متواترة ومعمقة لقضية الانتماء اليهودي وتأثيره على شخصية فرويد من ناحية، وعلى أعماله المختلفة من ناحية أخرى.
لكن ينبغي الإشارة قبل الاسترسال في ذلك إلى أن الرأي حول قضية الانتماء تلك ينقسم إلى ثلاثة أقسام: هناك من يؤكد حضور الانتماء اليهودي وفاعليته من حيث هو أداة تفسيرية عالية، وهناك من يرى ذلك الحضور ويمنحه بعض الأهمية لكنه في تقديره لا يرقى إلى أن يكون أداة ذات قدرة تحليلية كبيرة، إلى جانب فئة ثالثة لا تعير الموضوع أهمية كبيرة أولا تطرحه البتة.
لكن ماذا بشأن رؤية فرويد نفسه لقضية الانتماء اليهودي؟ ذلك أن فرويد لم يتردد في الإشارة إلى ذلك الانتماء في فترات ومواضع مختلفة، وهو واضح في بعض تلك الإشارات، كما في تقديمه لنفسه في دراسته لسيرته الذاتية: (كان والداي يهوديين، ولقد بقيت أنا يهودياً.) لكن إشاراته إلى ذلك الانتماء ليست دائماً بهذا الوضوح.
فقد حافظ على انتمائه للجماعة اليهودية في فيينا بشكل خاص، وظل ناشطاً يطور علاقته بها ويدعم الكثير من قضاياها ويرى تأثير ذلك الانتماء على نفسه، لكنه كان يتردد في دعم قضايا أخرى تمس تلك الجماعة، كما في موقفه المتذبذب إزاء الصهيونية وتحفظه الشديد إزاء الأورثوذكسية اليهودية، وعلى مستوى آخر كان شديد الحذر حين يأتي الأمر إلى تأثير انتمائه اليهودي على نشاطه العلمي ومنجزاته على اختلافها، لاسيما منهجه الرئيس، التحليل النفسي، أحد النصوص المشهورة في هذا السياق كلمته أمام منظمة (بناي بريت) عند بلوغه السبعين التي قال فيها: لقد حدث أن وقعت عام 1895 وفي الوقت نفسه تحت تأثيرين قويين، فمن ناحية ألقيت نظراتي الأولى على أعماق الحياة الغريزية للإنسان، ورأيت أشياء من شأنها أن توقظني أو تخيفني.
ومن ناحية أخرى أدى نشر اكتشافاتي غير المحببة إلى انقطاع الجزء الأكبر من صلاتي الإنسانية: لقد شعرت، كما لو أنني بت ممقوتاً ومرفوضاً لدى الجميع.
وفي تلك العزلة تملكني الحنين إلى مجموعة من الرجال المنتقين من ذوي الشخصية الرفيعة الذين يمكنهم أن يستقبلوني بروح من الصداقة على الرغم من تهوري، وقد جاء من أشار إلى جمعيتكم بوصفها المكان الذي يمكن العثور فيه على أولئك الرجال.
من كتاب أصل التحليل النفسي (لفرويد) حول هذه العلاقة يقول: إرنست جونز، رفيق فرويد المقرب لسنوات عديدة وكاتب سيرته، إن فرويد انتمى إلى (محفل (بناي برت طوال ما تبقى من حياته، أي على مدى يزيد على الأربعين عاماً، حيث وجد (رجالاً شعر أنه الأقرب إليهم.
من كتاب حياة فرويد (بقلم إرنست جونز)
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الملف
الثالثة
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved