الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

مأسسة الثقافة لا ثقافة المؤسسة
د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يتسم الفعل الثقافي بوجه عام بقدرته على الكشف عن وعي الإنسان، ونضجه، وإدراكه لما يدور حوله، ومنذ بدايات التأسيس على يد الملك عبد العزيز -رحمه الله- والشأن الثقافي يحظى باهتمام كبير يضاهي الشؤون الأخرى، ويمثل استقباله الشعراء وإعطاؤهم الجوائز وتقريبهم ابتداء بابن عثيمين واحدة من أكبر الدعامات للمثقفين، وإعزازاً لقدرهم في المجتمع وبناء مرحلة جديدة لا تصبح فيها أنماط الثقافة المتعددة في الهوامش في مقابل الثقافة الدينية التي كانت سائدة آنذاك.
ومع ذلك ونظراً لظروف التأسيس فإن الفعل الثقافي في تلك المرحلة لم يكن سوى جهود بعض الأفراد المتحمسين للوطن والمواطن، ينفقون من أموالهم، ويقضون أوقاتهم في بعث الثقافة ونشر الوعي ودعم حركة المثقفين يستضيئون بتشجيع المسؤولين ويستهدون بالتسهيلات التي يوفرونها للنهوض بدورهم ذاك، وكان الفعل الثقافي آنذاك يتفق مع طابع البدايات التي تصيبها حداثة التجربة وعدم الاتكاء على تراث سابق في هذا المجال، كما كان يتسم بطابع الفرد الذي يصيبه النقص وعدم الاستمرار.
وحين استقر لهذه البلاد شأنها وسارت خطوات في بناء الوطن والمواطن تعزز الاهتمام بالشأن الثقافي وكان أول ما تم لتلك الأعمال الفردية أن جمعت الصحف المتفرقة في مؤسسات صحفية ضماناً لاستمرارها وتحديداً لأهدافها، وحمايتها من تقلبات الفرد وعيوبه، إضافة إلى تعزيز الجانب المهني في عمل تلك المؤسسات. ولأن إنشاء المؤسسات الصحفية لم يكن كافياً للعناية بالشأن الثقافي في المملكة، فالمؤسسة الصحفية في تعاطيها للعمل الصحفي لا تولي الجانب الثقافي الاهتمام الذي كانت توليه صحافة الأفراد بوصف أن أكثر القائمين عليها هم من المثقفين والكتاب، وإنما يشكل جزءاً من اهتماماتها إلى جانب السياسة والاقتصاد والرياضة والاجتماع والإعلانات التجارية، إضافة إلى أن هذه المؤسسات تتسم بما تتسم به المؤسسات الخاصة من العناية بمصالح أصحابها، والاعتماد على مبدأ الربح والخسارة اللذين يحدان من إمكانية دعمها للعمل الثقافي قليل المردود، الأمر الذي دعا إلى التفكير في إنشاء مؤسسات ثقافية تكون وظيفتها الاهتمام بالشأن الثقافي ونشره بين الناس، ودعم المثقفين وتساهم في نشر جهودهم، تبنى على نمط مختلف يأخذ من الحكومة دعمها، ومن المؤسسات الخاصة استقلالها، وهي المؤسسات الشعبية التي تقوم على الشعب وتستعين بالحكومة، وهو ما تمثل بالأندية الأدبية ومثل الضلع الثالث في المؤسسة الثقافية في المملكة، وبه أصبحت المؤسسات الثقافية في المملكة على ثلاثة أنواع: المؤسسات الرسمية التي تمثل جزءاً من الحكومة وتعبر عن وجهة النظر الرسمية، والمؤسسات الخاصة التي يملكها أناس بأعينهم، ثم المؤسسات الشعبية التي تجمع بينهما.
هذا التعدد في وجوه المؤسسة الثقافية في المملكة، وهذه القوة التي تميزت بها أدت إلى إضعاف دور الفرد المثقف في مواجهة هذه المؤسسة، ونتج عنه تقليل دور الفرد في بناء الحركة الثقافية وربط دوره بتنمية هذه المؤسسة وتغذيتها، وأصبح لا يمثل نفسه إلا بمقدار ما يمثل في المؤسسة التي ينتمي إليها، كما قطعت علاقة الفرد في المجتمع الثقافي الأصلي بعيداً عن مؤسسته التي ينتمي إليها، وهو ما حول المثقف من فرد في مجتمع متكامل يحمل رؤية وهماً، وينهض بدور محدد في هذا المجتمع إلى فرد في المؤسسة غير قادر أن يمثل نفسه دون مؤسسة تتبناه وترعاه، يحتمي بها كطفل يستظل بظل ولي أمره.
وبناء على تحول الفرد إلى داخل المؤسسة فقد ألغي وجوده خارجها، وهو ما انعكس على المؤسسة من جانبين:
الأول: انعدام فئة تمد المؤسسة بالعناصر المناسبة، والقادرة على إذكاء العمل الثقافي.ط
الثاني: زوال مجتمع ثقافي تقوم المؤسسة بخدمته، وهو ما يلغي قيمة هذه المؤسسة بزوال السبب الذي قامت لأجله.. وقد نتج عن هذا كلّه تضخم المؤسسة في مقابل الفرد أو بصورة أخرى تضخم ثقافة المؤسسة في عقلية المجتمع السعودي في مقابل إلغاء الفرد والفردية بجميع جوانبها، هذا التضخم هو ما عنيناه في عنوان المقالة بثقافة المؤسسة، وإذا كان يعني في الأصل طغيان صوت المؤسسة الثقافية على كل صوت ثقافي آخر بحيث يصبح هو الصوت الغالب الذي لا يقطعه أي صوت آخر، أو يشاركه في القوة، ويكون هو المصدر الثقافي الوحيد، وهو المانح لشرعية الأصوات الثقافية ووجودها.
وعلى الرغم مما يبدو من سلامة هذا المنهج، ونضج المجتمع بقبوله الاحتكام إلى المؤسسة والاتفاق على تسليم القياد لها، والقبول بما تقدمه مهما اختلفت الآراء حوله، فإنه يعني في الوقت ذاته تضخم الأفراد القائمين عليها، وفي ظل عدم وجود آلية محددة متفق عليها لتمثيل الأفراد في هذه المؤسسة والانضمام إليها، وللتعاقب على توالي مهامها بين أفراد مجتمعها، يصبح تضخم المؤسسة ذات الطابع الرسمي هو تضخم للأفراد القائمين عليها بكل نقائصهم وعيوبهم، ويصبح العمل الذي يقومون به لا يمثلهم شخصياً باعتبارهم يمثلون أنفسهم أو تياراً محدداً له أجندة ومدة يمكن أن تتبدل بتبدل المرحلة أو الفئة، بقدّر ما يمثلون المؤسسة باعتبارهم جزءاً مكيناً منها لا يتحول بتحول الزمن، وهو ما يعني أن المؤسسة بتركيبتها التي يجب أن تقوم على الاختلاف والتعدد قد اختزلت بأشخاص هؤلاء القائمين عليها الأمر الذي يعني أنها تحولت إلى فرد بقوة مؤسسة، ولأنهم لا يتحولون، ولأن مصالح الناس - المثقفين في أيديهم، فإن هذا يحولهم إلى فئة متحكمة في المجتمع والثقافة، ويحولهم من فئة ذات اهتمام ثقافي إلى فئة ذات نفوذ سياسي، من هنا تصبح المؤسسة الثقافية مؤسسة إدارية، وتصبح المؤسسة الشعبية مؤسسة رسمية.
هذه المحصلة النهائية أو تحول المؤسسة الشعبية إلى مؤسسة رسمية، وتحول المؤسسة إلى فرد تعني باختصار انعدام المؤسسة الشعبية وأثرها في الفعل الثقافي السعودي، وانقسام الأفراد في المجتمع الثقافي إلى نوعين: أحدهما داخل المؤسسة ومصرفها، والآخر خارج المؤسسة وملغى من الوجود الثقافي إلا بمقدار ما يتوافق مع الفرد المؤسسة ويتطابق معه. هذا التقابل بين الفرد والفرد بين الحضور الكامل والغياب الكامل وصم المؤسسة الثقافية بأمرين:
1- التطابق مع الفرد من خلال أحادية الرؤية، واختيار النموذج المحدد الذي تمثله وتسعى إليه.
2- التطرف والتشدد في مقابل الآخر وإلغائه، وهو ما اتسمت به المؤسسة الثقافية في المملكة فوجدت المؤسسة التي تختص بالتراث والقديم في مقابل التي تسعى إلى الحداثة وتحتكرها عن الآخرين وبينهما برزخ لا يبغيان.
وهنا تحولت المؤسسة الثقافية من وسيلة لإشاعة الثقافة والسلوك الحضاري إلى وسيلة لإشاعة التعصب والتقوقع على الذات.
ولأجل أن تخرج المؤسسات الشعبية من الحالة التي هي فيها نحن بحاجة إلى ثقافة شعبية تضاهي المؤسسة وتشكل معها دعامة لثقافة الوطن، هذه الثقافة الشعبية تنهض بدورين اثنين: أولهما أنها تمد مؤسسة الثقافة بكوادر قادرة على إدارة المؤسسة وتفعيل الحركة الثقافية، وثانيها أنها تمثل مرآة للمؤسسة الثقافية تبيّن خللها وتكبحه فيما إذا لو.. هذه الشعبية لا تنشأ إلا بإعادة الاعتبار إلى المثقف المفرد وذلك من خلال عدد من الإجراءات أهمها:
1- دعمه في مواجهة المؤسسة الثقافية القوية، عن طريق توسيع قاعدة المؤسسات الثقافية وأنماطها، وسهولة تكوينها فليس من المقبول أن مدينة مثل الرياض فيها جامعتان وعدد من الكليات والمعاهد ليس فيها سوى نادي أدبي واحد وجمعية للثقافة والفنون.
هذا يدفع إلى التساؤل عن المقصود في الأندية الأدبية والحدود التي يمكن أن تصل إليها والوظيفة التي يمكن أن تنهض بها، وقلة عدد مرتادي الأندية الأدبية ليس مبرراً كافياً لعدم فتح مؤسسات أخرى أو فروع لهذه الأندية، فعدم إقبال الجمهور على هذه الأندية هو جزء من الاحتجاج على طبيعة سير المسائل الثقافية فيها، وتعامل القائمين عليها معهم.
2- تقليص سلطات المثقف داخل المؤسسة عن طريق تفعيل نظام تكوين مجالس إدارة هذه المؤسسات الشعبية، وتقصير مدة دورتها إلى سنتين، وجعل تكوين هذه المجالس بالترشيح المفتوح المباشر من قبل المثقفين، وتشكيل لجان صياغة أنظمة ولوائح هذه المؤسسات، تكفل سير الفعل الثقافي بصورة إجرائية وواضحة بشكل كبير، تحدد فيها أهداف هذه المؤسسات ومهامها، والوسائل النظامية المتبعة للقيام بهذه المهام.
3- فتح أبواب هذه المؤسسات للمثقف العادي بالمشاركة الجادة والفاعلة بدلاً من الانكفاء في عالم النخبوية بحيث أصبحت هذه المؤسسات بمثابة أندية لنخبة المثقفين ذوي التعليم العالي، أو أساتذة الجامعات المختصين في الأدب والثقافة يستعرضون فيها معلوماتهم دون أن يكون هناك متلقون يتفاعلون مع هذا المنتج المعروض، وهو ما أصاب أنشطة هذه الأندية بشلل تكشفه صالات الأندية عند قيام أي نشاط منبري. وعدم فتح أبواب هذه المؤسسات لهذه الفئة لا يعني عدم استقبالهم، ولكن يعني عدم إعطائهم الفرصة الكافية للمشاركة الفاعلة في أنشطة تلك المؤسسات، والتعبير عن آرائهم وإعطائها الفرصة للتحول إلى أرض الواقع مهما اختلفنا معها، فهذا سيكشف مساحة التعددية التي ينبغي أن تتسم بها المؤسسة كما يكشف جدية المؤسسة الثقافية في احترام هذه الفئة والاعتراف بحقهم في المؤسسة وهو ما سينعكس أخيراً على الساحة الثقافية عن طريق بعث الثقة في الأجيال التالية ودفعها للعمل والإنتاج.
إن نجاح مؤسسات الثقافية الشعبية يعتمد بشكل كبير على مجتمع ثقافي قادر على التعبير عن ذاته، ويتصل بهذه المؤسسات عبر وشائج التأثر والتأثير، تنتمي إليه هذه المؤسسة وتستمد قوتها منه، ويمثل الحضن الحقيقي لجميع أنشطتها، هذا المجتمع له حاجات ورغبات وحقوق، فهل نحن جاهزون لإعطائه هذه المتطلبات؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved