الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية«4»
العميد وتأثيم عصر النهضة
د. عبدالرزاق عيد*

هناك مواقف في اللحظة الثقافية العربية الراهنة تجاه ما فعله الرواد بتلك العناصر التي تناولوها حسب جبران:
موقف سلفي جهادي: يعرف الأنا بدلالة التناقض والعداء للآخر: (العالم: داران أو فسطاطان للكفر والإيمان، الإسلام والحرب) حيث يلتقي مع التوجهات اليمينية المتطرفة في الغرب الداعية إلى (حرب الحضارات) والتي هي تتويج لتاريخ من الفكر الاستعماري الذي يريد أن يعمق الأخدود بين الشرق والغرب منذ إعلان كبلنغ في القرن التاسع عشر: (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا)، وإذا كان من مصلحة الفلسفة الاستعمارية أن تؤكد على هذه التمايزات وذلك للدفاع عن تفوقه الساحق على الشرق ومن ثم حرصه على الحفاظ على هذه الهوة للحفاظ على هذا التفوق، لكن المرء لا يدري أين مصلحة هذا التيار السلفي في تسعير حرب الحضارات مع طرف يسجل في كل يوم من أيامه تفوقا وسبقا مما يعادل سنة مما نعد نحن من أيامنا التي نعد وفق فاتورة الزمن البرزخي الذي نعيش...
وهذا التيار يشكل انقلابا بل ردة عن زمن حركة الإصلاح الإسلامي التي مثلها محمد عبده داخل نسق الزمن النهضوي اللليبرالي، حيث قوى التطرف تمكنت أن تفرض تعديل كتاب: (في الشعر الجاهلي) لكن دون أن يفكر أحد يومها أن ينحر طه حسين كما فعلوا مع نجيب محفوظ أو كما يفعلون اليوم وهم يتقربون إلى الله زلفى في ذبح إخوتهم العراقيين، فأسلاف التطرف في الزمن الليبرالي كانوا أكثر تسامحا ومرونة من الأحفاد الأخلاف في زمن رفض الغرب ليس استعماريا بل رفض الغرب حضاريا تحت الفرية الاستعمارية الطعم لشعار (حرب الحضارات).
اتجاه سلفي بطركي محدث: نموذج حسن حنفي والتراثيين المحدثين... وغيره من الذين يرون في مشروع طه حسين ورعيله مشروعا مستغربا لم يتمكن من التبييء، أي: الاندراج في البنية الثقافية المحلية للتأثير بها، ومن الواضح أن أية مقارنة بين مشروع طه حسين ومشروع السلفية المحدثة الزاعمة: أنها تفكر خارج النماذج (الغربية والشرقية)، ستكشف هذه المقارنة أن الأثر العميق الذي أحدثه (العميد) في عقل ووجدان عصره لا يمكن مقارنته البتة مع الخدوشات والخمشات المدحثة والحداثوية التي تدعى المحلية على سطح واقع الفوات الحضاري والثقافي، بل ومزاعم الانطلاق من الخاص بوصفه المرجع الوحيد لقراءاتهم المنهجية، وهي على الأغلب تتعامل مع هذا الخاص الوطني الشعبي، بما يشبه روح العطف الاستشراقية الانثربولوجية نحو فلكلور الشعوب البدائية، التي تريدها مهرجانا سيركيا ليتفرجوا على غرائبنا وأعاجيبنا...
اتجاه قومي ديموقراطي تحديثي شبه ليبرالي: وهو اتجاه تتعايش فيه نزعات فكرية عديدة تحت الشعار الايديولوجي القومي الوحدوي العربي تعبر عنه في مجلات عربية عديدة (الوحدة الفكر العربي المعاصر المستقبل العربي...الخ).
على الرغم من أن هذا التيار المتعدد النزعات الفكرية الذي يقدم نفسه في إهاب والتي في كثير من الأحيان لا تتطابق مع الشعار الايديولوجي الوحدوي القومي (الفكر العربي المعاصر (مطاع الصفدي) والكثير من الدراسات التي تنطوي عليها المجلات الأخرى (الوحدة) (المستقبل العربي)) من انبهار بالغرب وثقافته الرسمية من قبل كتاب أطروحات الدكتوراه المملات بشروط المؤسسة الأكاديمية الفرنسية، نقول على الرغم من تعدد المنازع هذه فإنه يوحدها التطلع نحو مجتمع مدني ديموقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان وحرياته السياسية والدينية والفكرية، وهي التطلعات التي تتقاطع مع المشروع الفكري والثقافي لطه حسين ولجيل الرواد، لكن كل عطاءات هذا الرعيل تدخل في حقل المسكوت عنه، وكان من يتعين إعادة اكتشافه هو نيتشه السيد الأول في مرجعية الكتاب القوميين الديموقراطيين، وتنساب الأسماء بمتوالية استعراض البضاعة (فوكو دريدا ياسبر ميرلوبونتي) عبر الاقتطافات والاقتطاعات والاقتباسات، بينما يتم الصمت عن طه حسين الديكارتي الذي لم يستشهد أو يضمن نصوصه يوما باقتباس أو اقتطاف أو اقتطاع لديكارت لقد هضمه (العميد)، بينما التلاميذ الأحفاد اليوم وهم دعاة الانفكاك عن كل رباط بنيوي مع أي نموذج، يبررون بل ويبرهنون على مغزى قلق جبران الذي أعلنه في الاستفتاء المشار إليه سنة 1923 عندما تحدث عن خشيته من تناول الطبخ الغربي وابتلاعه دون أن يتحول إلى كيان شرقي بل يحولهم إلى شبه غربيين وهي حالة أخشاها وأتبرم منها لأنها تبين لي الشرق تارة (كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس).
الماركسيون العرب كان لهم علاقتهم الالتباسية بطه حسين، ولبس العلاقة هذه، كانت لبسا في المنهج ذاته، الذي كان يطمح إلى مضغ الاشتراكية وهو طفل بدون أضراس، وهي إشكاليته ذاتها عندما يتبرم اليوم من تجديد الماركسية وابتلاع المتغيرات الكبرى في الوعي والفكر التقدمي العالمي لأنه غدا عجوزا فقد أضراسه.
لقد كانت بداية الحوار الاختلافي بين الماركسيين وطه حسين سنة 1955 تاريخ ظهور كتاب (في الثقافة المصرية) لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، حيث ينظر إلى هذا الاختلاف اليوم من خلال تحميل الماركسيين مسؤوليته باعتبارهم لم يتعاملوا مع فكر طه حسين بوصفه مشروعا تنويريا ينبغي أن يكون مشروعهم كما ورد في افتتاحية الكتاب (بمثابة تقديم) للصديق الأستاذ سعد الله ونوس.
إن مشكلة الماركسيين العرب مع (طه حسين) هي مشكلتهم مع الفكر الليبرالي الديموقراطي التنويري عموما بوصفه نتاج البرجوازية الغربية الذي قادهم إلى وصم هذا الرجل المعوق فيزيولوجيا وابن الريف الفقير والذي لم يكن يملك سوى راتبه الجامعي بأنه بورجوازي بل وبتبسيطات شعارية أشد أنه (إقطاعي)، وهذا الموقف المعادي للبرالية كان ثمرة الهيمنة الكلية الشاملة للستالينية ما بعد انتصار السوفييت على النازية والفاشية التي يفترض أنها تشكلت وترعرعت في الفضاء البرجوازي الليبرالي الديموقراطي، هذا الأمر الذي سيفنده لوكاش لاحقا عندما سيرى العكس، وهو أن افتقار ألمانيا وإيطاليا إلى تقاليد ليبرالية راسخة هي التي فتحت السبل أمام الفاشية والنازية، ولهذا حديث آخر سيأتي.
الماركسيون العرب الرواد الأوائل ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، العاملون في مجال الفكر والثقافة بخاصة، كانوا يستشعرون هذه العلاقة العضوية مع جيل المنورين الأوائل من حيث عمق الصلة بين ترسيمة الرواد الليبرالية وترسيتهم الاشتراكية، وذلك في فترة ما قبل تعميم الستالينية بوصفها نظام التفكير المتمم للماركسية اللينينية ومثال كمالها التطبيقي أي في فترة الثلاثينيات، ونظرة سريعة إلى هذه الحقبة من خلال مجلة (الطليعة) التي أسست بمبادرة من الصفوة الفكرية المبدعة للحزب الشيوعي السوري اللبناني ما قبل عملية: الستلنة والسفيتة والترجمة: أي التوقف عن إبداعات العقل لصالح النقل عن الأدبيات السوفيتية، حيث نجد أن أحد شعاراتها، يعلن أنها مكملة ومتممة للفكر التحرري النهضوي العربي، وكانت تضم في كل عدد من أعدادها بعض الاقتباسات والكلمات المأثورة لمفكري عصر النهضة المنورين، ودراسات حول أعمالهم وأفكارهم وآرائهم، بل واستطاعت أن تستقطب أقلام العديد منهم بمن فيهم طه حسين.
لكن التضحيات الجسام للشعب السوفيتي لدحر النازية والفاشية (حميات) ذلك العصر على حد تعبير سليم خياطة، ساعدت الستالينية على استثمار هذه الإنجازات للشعب بوصفها انتصارا لها وسط تعاطف شعبي عالمي كبير مع الانتصار السوفيتي.
وكان من الطبيعي على مشروع فكري ناهض وجديد أن يبلور ملامحه فيما يشبه القطيعة مع الفكر الليبرالي ونظمه وسياساته في مرحلة نهوض ثورية راحت تبعث الأحلام بإمكانية تخطي مفاسد وعيوب ومظالم النظام البرجوازي الغربي الذي لم يمض على تحرر العالم العربي منه إلا بضع سنوات، فيما كان لا يزال يستعمر جزءا كبيرا من العالم.
إن عدم التمييز بين النظام الاستعماري والأنظمة الفكرية التي أدت إلى تفوقه العلمي والثقافي والحضاري ومن ثم لزوما العسكري كانت إشكالية مركزية مطروحة على شعوب العالم الثالث، وهي ما زالت إلى لحظتنا الراهنة تتجدد كإشكالية مع تغير شكل وأسلوب الاستعمار الجديد وتكيفاته وإنتاجه لبنى هيمنة جديدة ليست استعمارية عسكرية بالضرورة وأشكال متنوعة من التبعية قل نظيرها في التاريخ.
أي أنه في السياق التاريخي كان لا بد للصراع من أن ينتج التباساته بين الغرب المستعمر والغرب المتقدم في آن، ومن ثم أن يأخذ شكل تعارض (كينوني) وليس شكل تناقض تاريخي، فالتعارض (التكويني: الأخدودي، الفسطاطي)، يأبى التعايش ولا يقبل بوحدة وصراع الأضداد والآراء، إلا بفناء أحد طرفي التعارض.
بينما التناقض (تاريخي، نسبي، تبادلي) يعترف بالتغاير والاختلاف، يقوم على إدراك أن الصراع هو سر استمرار الوجود، وأن صراع طرفي التناقض ينتج طرفا نوعيا ثالثا يختلف عن الطرفين لكنه يشكل محصلة لعلاقتهما.
وعلى هذا فإن كتاب (في الثقافة المصرية) ساجل طه حسين من موقع التعارض وليس من موقع التناقض، وكان في تعارضه هذا قد ساهم في بعث الأهواء الايديولوجية والغوغائية الشعارية الشعبوية وأعطاها دفعا وتبريرا ومشروعية، عندما أدرج الخطاب اليساري نفسه في صبوة حميا اللفظية الشعبوية في مصفوفة التعارض مع المشروع النهضوي الليبرالي التنويري الديموقراطي!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved