الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

حديث في الهوية (2)
الهوية القومية
د. أحمد صبرة *

لا تواجه الهوية الشخصية وحدها الغرب، بل تواجه أيضاً الهوية القومية، وربما تكون هذه الأخيرة هي المعنية بالحديث عن الصراع المفترض بين العولمة والهوية، لكن الهوية القومية لا تتشكَّل في فراغ، إنها في نهاية الأمر مزيج مركب من آحاد الناس، وكل واحد من هؤلاء له هويته الخاصة، لكن هذا المزيج ليس مزيجاً كمياً أو إحصائياً، إنه مجموعة سيالة من العمليات والأبعاد التي تخلق عبر الزمن معنى المجتمع القومي أو الأمة.
والأساس الذي ترتكز عليه الهوية القومية هو العرقيات(1)، وهناك ثلاثة أنواع من العرقيات: عرقيات لغوية كما في أوروبا، وعرقيات دينية كاليهود والأرمن والسيخ، وعرقيات سياسية كنموذج مصر القديمة الذي يُعد أكثر دلالة وأهمية من غيره، وتتحدد سمات العرقيات في ستة عناصر.
1- اسم جامع يفرد المجتمع، ويميِّزه عن غيره.
2- أسطورة الأصل المشترك الذي يربط أعضاء المجتمع بجد واحد ومكان ولادة واحد.
3- تاريخ عرقي مشترك: أو الذاكرة المشتركة التي تتوالى على أجيال المجتمع.
4- سمة ثقافية مشتركة أو أكثر من سمة تساعد على تمييز أعضاء الجماعة عن غيرهم مثل اللون أو اللغة أو الملابس أو الدين.
5- ارتباط بالمكان التاريخي أو أرض الوطن حتى ولو لم يعش فيه عضو الجماعة كثيراً.
6- إحساس بالتكافل بين أعضاء الجماعة، أو حتى داخل جزء من هذه الجماعة.
كما أن هناك عناصر ثقافية أساسية تدعم الهوية، وتحافظ على استمراريتها مثل: الرموز والقيم والذاكرة والأساطير والتقاليد، وأهم ما تعطيه الهوية:
1- إحساس بالثبات والتجذُّر.
2- إحساس بالاختلاف والتميُّز والانفصال لهذه الهوية عن غيرها.
3- إحساس بالاتصال مع الأجيال السابقة من خلال الذاكرة والتقاليد والأساطير.
4- إحساس بالقدرية والآمال المشتركة والإلهام الواحد لهذه الجماعة.
لكن هل هناك فرق بين الهوية القومية والهوية العرقية؟.. بعض الدارسين يرى أنهما مترادفتان، وبعض آخر يرى أنهما مختلفتان، لكن الهوية القومية لا تقوم إلا على أساس عرقي، أو على مجموعة من العرقيات كما في حالة المغرب والجزائر والعراق والسودان، وفي هذا الصدد يحسن التمييز بين ثلاثة مفاهيم: العرقية والأمة والدولة، وهي مراحل متتابعة لتشكيل الهوية القومية، فبينما تعد العرقية والأمة مجتمعات ثقافية اجتماعية، فإن ما يميِّز الدولة هو وجود التنظيم السياسي التشريعي، وإذا كانت العرقية هي الأساس، فإن عملية تحويل العرقية إلى أمة تتلازم مع تسييس الثقافة، وتحديد فضاء الحياة الاجتماعية، ومعاييرها وهو ما حدث في حالة مصر الفرعونية.. إن الفرق الأساسي بين الهوية القومية والعرقية أن الأولى تعطي وزناً أكبر للمكان وللاقتصاد والعمليات السياسية التشريعية.
إن الفكرة الأساسية التي تهمنا هنا هي علاقة الهوية الشخصية أو القومية بالتغيُّر، لكن هل يمكن استنباط قوانين واحدة تفسر الطريقة التي يتغيَّر بها شكلا الهوية؟ ليس من المستطاع تفسير الطريقة التي تتغيَّر بها الهوية الشخصية، فإضافة إلى أنه من غير الممكن إحداث تغيير كامل في هذه الهوية، فإن الجزء القابل فيها للتغيُّر يخضع لشبكة شديدة التداخل من العوامل النفسية والاجتماعية والعقلية واللا عقلية التي تدفع به إلى هذا الشكل أو ذاك.. معظم التنويريين الغربيين كانوا يرون أنه من الصعب تغيير الطبيعة البشرية(2)، لكن المشكلة الأساسية أن سلامة الإنسان النفسية ترتبط بالطريقة التي يتعايش بها جانبا الهوية: الجانب الثابت والجانب المتغير، ذلك أن الانسجام بينهما ضروري جداً في هذه الحالة، وإذا حدث أن دخلت في الجانب القابل للتغيير عناصر ليست من جنسه، أو عناصر ليست قادرة على التكيُّف مع باقي الأجزاء فإن صراعاً حاداً سيحدث، وينتج هذا الصراع أحد احتمالين: إما أن بقية أجزاء الهوية تتكاتف للفظ العنصر الجديد الطارىء، أو إذا لم تستطع وظل هذا العنصر موجوداً لسبب أو لآخر، فإن نوعاً من الانشطار يصيب الهوية، ولن تصبح قادرة على الفعل.
يختلف الأمر قليلاً في حالة الهوية القومية، فإن تغييرات الهوية تتم من خلال النظام السياسي أو الاقتصادي، ومن خلال التشريعات التي تصدرها الدولة، فلا يمكن تصور أن التغييرات في الأنظمة السياسية أو الاقتصادية تحدث في فراغ، أو لا تؤثر على هوية الأمة، وبخاصة إذا لم تكن هذه التغيُّرات ثمرة تفاعل اجتماعي طبيعي.. إن التشريعات التي تصدرها الدولة في أي مجال مقصود بها إعادة تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع على نحو تريده، مثل هذه العلاقات الجديدة تحدث تأثيرها على الأفراد، وتعيد تشكيل رؤاهم، وهذا يؤثر على هويتهم.
وكان الشرق الإسلامي أو العربي الوحيدين اللذين واجها أوروبا بتحدٍ لم تجد له حلاً على الأصعدة السياسية والفكرية، ولزمن قصير الاقتصادية أيضاً(3) كما يقول إدوارد سعيد.
إن الأمة الإسلامية تعيش حالة من الصراع لم تشهد له مثيلاً من قبل، صراع نفسي على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمة يسميه علماء النفس صراع الإحجام - الإحجام، وهو أسوأ أنواع الصراع النفسي، لأن الانحياز لطرف فيه يتم على حساب طرف آخر مساوٍ له في الأهمية، ولقد عبَّر الأدب الروائي تعبيراً دالاً عن ذلك في بعض روايات الرحلة إلى الغرب(4)، هذا القلق الذي تجده في أبطال الروايات، وهذا الانشطار في الهوية، وربما الشعور بالانبهار، ومن ثم بالدونية أمام الغرب لا تجد له نظيراً في أفراد الناس ممن لم يتأثروا بالغرب، وبالأخص ممن لم ينالوا أي قسط من التعليم، هؤلاء تجد سلامتهم النفسية أشد، وتجانس هويتهم أكثر وضوحاً.. مرة أخرى رغبتك في اعتراف الآخرين بك، أو رغبتهم في الاعتراف بهم على صورة معينة.
هوامش:
1- الأفكار الأساسية في الحديث عن الهوية القومية مأخوذة عن بحث The formation of National Identity. by Anthony D. Smith/in-identity/P 129.
2- أحمد أبو زيد: هوية الثقافة العربية - الهيئة العامة لقصور الثقافة ت القاهرة 2004 / ص 355.
3- إدوارد سعيد: الاستشراق مؤسسة الأبحاث العربية - بيروت - ترجمة كمال أبو ديب - الطبعة الأولى 1981 - ص 101.
4- أبرز النماذج الدالة على ذلك: قنديل أم هاشم ليحيى حقي، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.


* كلية الآداب - جامعة الملك سعود

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved