الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

شجرة الطفولة..غابة الأدب«2»
د. صالح زيَّاد
لا يمكن النظر إلى دال الطفل والصور التي يبنيها في الشعر العربي، من خلال منظور أحادي، تغدو فيه الدلالة معطى جاهزاً ومباشراً. ذلك أن تركيب الصورة وسياقاتها متنوعة، ومختلفة، بحيث يغدو الطفل حيناً دال المستقبل، وحيناً دال الماضي، كما يغدو حيناً دال الحياة والحركة والتقدم والنمو، وحيناً دال الموت والتخلف والجمود، مثلاً.
فضلاً عن علاقة هذا وذاك بمستويات الوعي الجمعي، التي تبلغ في أحيان حدود الإيديلوجيا بمحدداتها الموجهة وحساباتها الإرادية المباشرة، وتأخذ في أحيان دوراً كاشفاً عن أعماق قصية لا سبيل إلى الاقتصار على سطحها الدلالي، أو اختزال عمقها إلى خيار بديل عن الطفل.
الطفل الشاعر، والشعب الطفل:
تنبني على حاجة الطفل إلى الرعاية والحماية والتوجيه والإعالة صورة مكرورة في الشعر العربي، مستمدة دوماً من علاقة ضدية بالرجل، الراشد، المكلف... وهنا يأخذ الطفل دوراًً سالباً، فهو الضعيف في مقابل القوي، والجاهل، النزق، الطائش، في مقابل الحكيم العاقل الرشيد، وهو حاجة مستمرة جسدية ونفسية وتربوية ترادف العوز والخوف والسفه.
لقد كرست مدائحية الشعر العربي التي تجاوز غرض المدح، كجزء محدود من المدونة الشعرية، إلى طبيعة الرؤية الشعرية من حيث هي خطاب موجه مباشرة لآخر له صفة فوقية - صورة الطفل تلك في مدارات مجازية تحيل شخص الشاعر وجماعته بل الأمة والإنسانية إلى أطفال في مقابل الممدوح.
يغدو الممدوح ممدوحاً لأنه يتصف بصفات أبوية وأمومية، ومن ثم يتلبس صفة فوقية تحله في محل الضرورة لمن تحته، لتغدو صفات مديحه تجسيداً مستمراً للحاجة إليه في فرديته وفوقيته، بما ينزع عمن تحته صفات الاستقلال والمسؤولية والفعل، وهي صفات مستمدة من واقع الطفولة في مقابل الراشدين.
ولا يقف الطفل، هنا، عند الحدود الجزئية التي يتطلبها موقف المديح من أجل تحلية الصورة وتعزيز وسيلة الاستجداء، بما يستثيره الأطفال من التعاطف والرحمة والإشفاق، بل يتعدى ذلك إلى الموقف ذاته، أعني موقف الحاجة إلى المديح التي تحيل الشعر كفعل ثقافي اجتماعي إلى قالب قبلي وصورة بدئية، للتعبير عن العجز والحاجة وتجسيد معاني القصور والضعف والقلق الإنساني، فيغدو الممدوح نموذجاً بنائياً لعلاقة مزدوجة بالأب والأم، إنه عصا الحماية وثدي الحليب.
ولهذا تتردد تسمية الممدوح بالأب والأم، كما تتردد مفردة الرضاعة وصورة الثدي الدافق بالعطاء والثراء لأفواه لا تملك تجاه هذا العطاء إلا ما يملكه الطفل تجاه مصدر نعمته وغذائه.
مثلاً، يقول ابن الرومي:
ولم نزل من ثدي نعمته
إذا فقدنا الرضاع نرتضع
ويقول:
حاشا لمرتضع ثُدِيَّ كفايةٍ
لك أن يراه الناس وهو فطيم
ويقول أبو الفتح البستي:
كأن ينابيع الثرى ثدي مرضع
وفي حجرها مني ومن ناقتي طفل
ويقول ابن حمديس:
وأرضعني ثدي المنى فكأنني
وليد أتى عمران شيخ التقدم
أما قدرات الإخصاب وفعله الذي يستمد من ضديته للطفولة مداراً لإفراد الممدوح وللتأكيد على نموذجيته الحيوية بما يؤسطره على النحو الذي يجعله فوق العقل مثلما هو فوق الجسد، فقد ألح الشعر على نثر إشاراته في المدائح، وتكرار صوره، فهو يلقح أم المجد وينتجها وهي عقيم، كما يلقح الآمال والأمور والرأي والأرض والدولة والممالك العقيمة.. إلخ.
ويمكن القول إن الشعر العربي، وهو يمعن في استثمار أبرز الجوانب السالبة في معنى الطفولة، لإرضاء ممدوحيه والاحتيال عليهم، كرَّس صفة بارزة من طبائع الاستبداد التي كشف عنها الكواكبي، وهي إمعان المستبد في الانتقاص من رعيته والحجر عليها، بما يبرر له الاستبداد بها استبداداً يتخذ صفة الوصاية ويتلبس دور الأب/ المرضع.
لكنني أعتقد أن الشعر، في هذا الصدد، كان يمارس بتلقائية وعفوية، وليس بإرادة واعية إيديلوجياً، دوراً وظيفياً إنسانياً على مستوى التصور البدائي الفطري، حيث التوازن والاطمئنان الذي يحيل العلاقة مع الواقع إلى انسجام، تسهم صورة الشاعر الطفل، أمام سيف السلطان ورغيفه، في توحيد انقسامه، وجمع تبعثره.
وعلامة الجمعية في وعي كهذا تأتي، أيضاً، من خصائص تلقيه التي لم تستغرب مذهبه ولم تستجز لنفسها حرقه والإلقاء بقصائده في البحر أو عراء الإهمال.
وتبدو الطفولة صفة للشعب العربي، في مستوى آخر من مستويات المدونة الشعرية العربية، لكنه مستوى يتلبس الإيديلوجيا، ويتخذ منحى واعياً، ومن ثم يغدو وصف الشعب العربي بالطفولة في سياق الهجاء له وذم جهله وكسله ولعبه واتكاليته، وذلك بارز خصوصاً في الشعر الحديث، يقول جميل صدقي الزهاوي:
يا شعب إنك طفل طال رقدته
متى أراك مع الشبان يقظانا
ويقول أبو القاسم الشابي:
أيها الشعب أنت طفل صغير
لاعب بالتراب والليل مغس
كما يغدو الطفل عنصر مقارنة، لتجسيد فارق التخلف والدونية، في ذات المساق الهجائي المستنهض للهمة، والمتحسر على بطء الحركة وجمودها، في مثل قول الزهاوي:
شاهدت طفل الغرب منتصباً
يسعى وطفل الشرق لا يحبو
ويبدو المعنى الرامز إلى المستقبل المحبط والأمل المهزوم عنصراً غير خاف في الاختيار لدال الطفل، فهو علامة مستقبلية تحتشد بطاقات النمو وتتجاوب مع فضاء الحركة المفتوح ونهارها الضاحي، وبذلك يغدو اليأس أكثر وأعمق حدة، في نضوب هذه الملامح في الطفل الذي رأته عينا الشاعرين.


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved