الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 05th December,2005 العدد : 132

الأثنين 3 ,ذو القعدة 1426

الخطراوي.. وأنا.. والكتابة
أ.د. عبدالله بن علي ثقفان

في يوم سابق لنشر قصيدة الشاعر الدكتور الخطراوي (أنا.. والكتابة وأحلام الموتى) في هذه الصحيفة عبر عددها 12098 في العاشر من هذا الشهر كنت في زيارة لواحدة من المكتبات التي تبيع الكتاب المستعمل، وفي أثناء تقليبي للكتب وجدت عدداً من الكتب المهداة لأشخاص من قبل المؤلفين قد عُرضت للبيع بأبخس سعر، ومن ضمنها أحد كتبي المهدى لأحد الزملاء.. خرجت من تلك المكتبة بنتيجة: أن الناس في هذا الزمن لا يقرءون إلاّ ما ندر، وأنّ همهم دنياهم التي بها يتعلقون، ومن حسابها يسهرون ولا ينامون، وأن معظم من يرتاد المكتبات هم مرغمون، وعن العلم معرضون، لولا الرغبة في الحصول على سند منه على الرزق يحصلون.
إن ذلك واقع مؤلم قد دفعني للتفكير في كتابة مقالة، أو قصيدة شاعرة إن ساعدتني موهبتي التي تجود في بعض الأحايين بشعر مثل شعر ذلكم الأندلسي الذي قال عن شعره: (إنه وحشي ومخشلب)، وإن لم فمقالة، أفضح فيها صاحبي الذي عرض كتابي للبيع وكان الأجدر به حفظه في مكان ما في منزله، أو جعله سفرة لطعامه بدلاً من عرضه للبيع.. المهم الأفكار تزاحمت في عقلي وأنا أقود سيارتي وأنا وإياها نمخر عباب أحد الشوارع المزدحمة لدرجة أن حرارتها قاربت من الغليان، فكأنها وعقلي شيئان ممتزجان، يتفاعلان بعضهما مع بعض.. ولا غرابة في ذلك، فهي ملازمة لي منذ ست عشرة سنة، ظللت على هذه الحال وأنا أحرك إحدى اليدين وأمسك المقود بالأخرى، فتأخذ السيارة يمنة ويسرة، فهي غير متزنة حتى وصلت إلى بيتي.
ظللت في صراع مع ذاتي، معاتباً زميلي غيابياً، شاكراً لآلة أخذتها الحمية لصاحبها، ولأن من طبيعتي التفكير قبل أن يخط القلم كلمة واحدة، فقد طال بي الوقت وأنا ألملم أفكاري - خصوصاً أن المقالة ستتناول أسماءً أخذتها من على غُلفُ الكتب المعروضة للبيع، وفي هذه الأثناء، وبعد مبيت ليل مزعج إذ بي أجد صحيفة الجزيرة في اليوم التالي تنشر قصيدة للشاعر العزيز لديَّ الدكتور محمد العيد الخطراوي تحت العنوان الذي ذكرته آنفاً، ومنهياً ذلكم العنوان بعملية حسابية مؤدّاها:
حضور + بذور + بثور = ثبور
بادئاً إياها بقوله:
أكتب للصغار وللكبار
ومنهياً تلك القصيدة بقوله:
يبكون مثلي سطوة الأعوام والسنين
وكأنه يتجه لرثاء الذات أمام هذا الواقع المرير، الأمر الذي جعلني أتريث في كتاباتي، لأن الدكتور الخطراوي قد باح بجزء من معاناتي، لكن معاناتي أسوأ مما أعاني، فهو كما قال:
يكتب للصغار وللكبار
للأميين منهم وغير الأميين
للخادمين منهم والمستخدمين
لكنهم جميعاً لا يقرءون
عندها قلت لذاتي: هذا هو شاعر المدينة الخطراوي يعاني آلاماً وأحزاناً لأنه لم يجد في هذه الحياة ما كان يطمح إليه، ولأنه لم يجد صدى لما يقول، فقد تراكمت آلامه وأحزانه حتى تفجرت في هذه القصيدة التي تعلن:
موت القراءة
وموت الشعر
وموت المبدع
وما دامت هذه هي حاله، وهو شاعر مرهف الحس، فكيف بي وأنا فج الحس، بدوي الطبع؟
عند هذه الحالة سكتت معاناتي، وقلت لذاتي لعل الأخ المهدى له الكتاب، أي كتاب لم يرق له، خصوصاً أسلوب هذا البدوي الذي اتجه (للأندلس) بكله وكليله، أما (الخطراوي) فقد تحدث عن معاناته مع الناس كلهم، بل مع كل ما حوله:
لكنهم.. واأسفاً.. لا يقرءون
لا يعبأون بي
لا يحفلون بالذي أكتب.. أو أقول
وكان قد قال من قبل:
أكتب للصغار من شباب أمتي
أكتب للزهور، للكهول والشيوخ والنسور
وللنساء والأطفال
وللعصافير الصغيرة الملونة
إنني أثق أن شاعرنا (الخطراوي) لم يكن حزيناً على الآخر الذي لم يجد لديه صدى قدر حزنه على ذاته التي (تبكي سطوة الأعوام والسنين)، إنها ذات العلماء التي كثيراً ما كانت تطمح وتطمح.. ولكنها تصاب بالإحباطات التي تجعل هذا العالم يفكر في رمي القلم.. ألم يقل:
وهكذا تموت في دفاتري الأحلام والكتابة
وتألف القصائد الرتابة
تنبذ كفي الحبر والأقلام والورق
وتهجر الكِتاب والكتّاب والكتابة
إن الأعوام والسنين التي قضاها الشاعر في الكتابة قد جعلته يخرج بهذه النتيجة المؤلمة (ثبور)، وهي تعني الخيبة، والهلكة، والحزن، وقد تتحول هذه الكلمة إلى: وآثبوراه لتعلن أن صاحبها قد أصابته مصيبة شديدة!!، وهل هناك مصيبة أشد من الصدود عندما يلاقيها (العلم) كالخطراوي عافاه الله؟!!
إنه ومع هذه الحالة التي وصل إليها، والنتيجة التي توصل إليها أيضاً، نجد أن ذاته قد توزعت بين رغبة قد صنعتها الأيام والسنون - عادة الكتابة -، وبين واقع مرير جعله يصاب بارتكاسة، لكن ذات العادة (عادة الكتابة) قد تملكت منه، فإذا بها تعلن بلسانه:
إنني أحبذ الكتابة
كأنني أتيت إلى هذا الكون نقطة منسابة
من علم الكتابة
ولا أحب أن أكون عاطلاً
إنه ومهما تعرض له من أحزان وآلام - وأمراض أحياناً تجعله ينقطع عنها عرضاً - لن يستطيع أن يترك عملاً أصبح جزءاً من الذات عليه يمسي وعليه يصبح، إنه كالهواء وكالطعام، يدفعه لذلك أمل، يقول:
إن هذا الأمل مدفوع بحب على الرغم من أنه قد عدَّ الكتابة (جريرة) بل جريمة مع علم لا يقرأ، إلا أن عمق الذات تحيي الأمل، وأن القوم قد يقرءون في يوم من الأيام، فيغامر عندئذ بالكتابة:
لعلهم يوماً يغامرون
ويحسرون عن وجوههم
ويدفعون عن وجودهم
يقتنعون بالقراءة
(ق ر أ - ك ت ب - ز ر ع)
إنه هنا مع الحالة الثانية (الأمل)، ولولا الأمل لضاق العيش، وهو أمل مختلط بألم، ولولا الآلام لم تتفجر قرائح المبدعين.
إن (الخطراوي) موزع بين الآمال والآلام، وتلك حالة المبدعين، القلقين الذين يملكون إحساساً مرهفاً، أولئك الذين يعتبون لأتفه سبب، ويفرحون لأبسط سبب، إنهم كالغصن الأخضر الذي يميل مع الرياح ليتأثر بها، وكالبساط الذي يحوي الأزهار المتنوعة التي تبث ريحها في كل مكان ليصبح ملكاً للناس لا لأحد بعينه.
أما (أنا) وأعوذ بالله من (الأنا)، فقد تملكت الحسرة من ذاتي، وقررت ألا أهدي كتاباً من معاناتي لأحد، خصوصاً أولئك الذين لا يعلمون أن الحياة تغيِّر وتعلِّم، ربما للأحسن، وربما للأسوأ، المهم أنه لا ثبات في هذا الكون إلاّ للمتصرف فيه، والله المستعان في كل الأحوال.
وقفة:
قال (شيلي) في عمل شعري اسمه (الموت):
تموت لذائذنا أولاً
وفي إثرهن يموت الأمل
وتهوى مخاوفنا بعدها
سداداً لدين المنى والوجل
ويبقى التراب ينادي التراب
ويمضي به حين يأتي الأجل
وقال (الأبيوردي):
ومن نكد الدنيا أن يبلغ المنى
أخو اللؤم فيها والكريم يخيب
وقال (حفني ناصف):
مراد الفتى بين الضلوع كمين
ولكن محياه عليه يبين
وللمرء عنوان على ما بقلبه
ووسم على ما في الضمير يكون
أخيراً دعواتي للدكتور الشاعر الخطراوي بالصحة والعافية وأن يوفقه المتصرف في الكون لكل خير.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved