الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

صانعو الأساطير الجديدة.. عصر جديد ومتلق مختلف (2-2)

*فاضل الربيعي
لقد عاش البطل الصغير وترعرع كراعٍ ثم كطفل فرنسي تبناه روجيه وأعطته أمه الفرنسية البديلة اسم فاياد (تحريف فياض) ولكنه حين أراد استرداد اسمه الحقيقي، واندفع في قلب التاريخ الجديد وجد نفسه في مواجهة قدر آخر. هذا القدر هو المواجهة مع وعيه الاستشراقي. وبالفعل، فإن معرفة فياض بنفسه وبعالم الشرق الذي عاد إليه، ستظل محكومة بشروط أزمتها، أي بشروط القطيعة مع التاريخ المحلي؛ فهو لا يعرف حسن الخراط ولا حزب الاستقلال كما أنه بالكاد يتذوق طعام السوريين. في روايته الجديدة (ليس اسمها فاطمة - روايات الهلال المصرية 2005م) يعود خيري الذهبي ليعالج المسألة ذاتها ومن منظور أزمة المثقف في مجتمعه، ولكن من زاوية مغايرة وفي اتجاه مختلف حتما. إنه النموذج الذي يمزج و(يعجن) الأساطير والمواد التاريخية بقسوة، وذلك من أجل أن يتمكن الروائي مع قارئه، وباستخدام أكبر قدر من التكثيف من إنجاز عملية تشريح متقنة للواقع المسكوت عنه. هذه المرة سنكون أمام فاطمة ومذكراتها ولوحاتها الغرائبية التي رسمتها في الأربعينات من القرن الماضي. وفي الآن ذاته سنكون أمام إشكالية وعي سلمان لنفسه وهو المخرج السينمائي الذي يصور المدن الميتة. إن فاطمة هي الوجه الآخر لحسيبة (رواية الذهبي 1993) وسلمان هو الأنا الأخرى لفياض، والمسيو غسان هو الوجه الآخر لروجيه. وإذا صح القول، فإن خيري الذهبي عاد من جديد ليخلق أسطورة جديدة عن الوعي الشقي في مجتمع يزوي أو يكاد يموت. ليس المطلوب من الرواية العربية ولا من الروائي العربي الانتقال بروايته من الواقعية أو الواقعية الجديدة إلى الواقعية السحرية على غرار المثال الأمريكي اللاتيني، كما أن أحدا لا يطالب الروائي العربي بالبقاء أسير الواقعية التقليدية. ما هو مطلوب منه شيء آخر، معاينة الواقع الراهن بوصفه لا نتاج أزمته هو مع نفسه ومشكلاته المتراكبة؛ بل بوصفه نتاج أزمته مع العالم المحيط به بكل تحدياته، ومع العصر الجديد بكل أسئلته المحيرة أيضا. إن ما يواجه ساردي الرواية الجدد، كما يواجه العاطلين عن العمل واليائسين والمقهورين في المجتمع، ليس تماما المشكلات الخاصة بالمجتمع الذي يحيون فيه، وإنما كذلك الأسئلة المقلقة والمحيرة التي تظل، في الغالب الأعم، دون أجوبة.
ومن منظور أشمل، فإن المشكلات والتحديات التي كان يواجهها مجتمعنا في القرن الماضي، تبدو على نحو ما وبالفعل كما لو أنها مشكلاتنا نحن وحدنا وليست مشكلات الآخر أيضا. اليوم يبدو الوضع مختلفا؛ إذ لم تعد المشكلات والتحديات الراهنة التي نواجهها تخصنا وحدنا؛ بل هي ذات طابع شديد العمومية بمقدار ما هي شديدة الخصوصية. وأريد أن أضرب لكم المثال التالي: قبل بضع سنوات فقط (1995) احتفل الروائيان العالميان كينزا بورو آوي الياباني وغونتر غراس الألماني، وعلى طريقتهما الخاصة بالذكرى السنوية الخمسين لنهاية الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر تبادل سلسلة من الرسائل الشخصية عن المعنى الحقيقي الذي تنطوي عليه هذه المناسبة. ومما له أهمية خاصة في هذه الرسائل، أن كلا من آوي وغراس وهما يستذكران الحرب، وجدا نفسيهما يؤكدان وفيما يشبه المصادفة المحض، على أن نهاية الحرب كانت تمثل إيذانا بنهاية عصر وقدوم عصر جديد. يقول غراس: إن القلق بشأن الديمقراطية يمكن أن يؤدي بنا إلى عملية تبادل أفكار بعيدا عن الوقوع ضحية الفواجع والأحزان. ولأن غراس وقف يتأمل مثلنا في الأسئلة التي يطرحها العصر الجديد، فقد كتب روايته المثيرة للجدل (طبل الصفيح) التي أثارت نقاشا صاخبا عن دور الاحتكارات الكبرى في انهيار ومن ثم في امتصاص (ألمانيا الشرقية) وما نجم عنه من تدهور اجتماعي طاول الطبقة الوسطى وشرائح واسعة في المجتمع الألماني. إننا على غرار غونتر غراس، نشعر بأن مجتمعاتنا يجري (امتصاصها) وأنها تعرض لتخريب لا حدود له، وأن المشكلات التي نواجهها أبعد أثرا من مجرد كونها مشكلات عامة. ودون شك كان هناك من استوقف غونتر غراس، ذات يوم، في شارع من شوارع برلين بعد انهيار الجدار الشهير وسأله عمّا إذا كان بوسعه كروائي أي خالق أساطير، تقديم رواية تتضمن جوابا للغز؟ أن القراء لا يبحثون في أعمدة الصحف ولا في تعليقات السياسيين وتصريحاتهم المنافقة عن جواب مقنع، بل سوف يتجهون إلى الروائيين ويسألونهم تقديم جواب صادق. وهؤلاء يمكنهم فقط تقديم جواب خال من النفاق. إذا كانت جرأة كورتاثار الأدبية هي التي ألهمت غارسيا ماركيز، وربما زودته بفكرته الأصلية عن كتابة الرواية كما سوف يعترف تاليا، وإلى الحد الذي دفعه ذلك إلى القول إنه يوم كان شابا صغيرا كان يحلم بالكتابة على طريقة كورتاثار وليس أي قاص آخر؛ فإن هذه الجرأة هي بكل يقين جرأة الخالق الأدبي الجديد للسرد، الذي قرر، ومن دون تردد وربما بشيء من غطرسة المبدع، الرهان بشرفه الأدبي على إمكانية نقل الرواية كنظام سردي، إلى عالم جديد من الموضوعات وطرائق القص ستمكن الكاتب، في خاتمة المطاف، من اختراق القشرة الصلبة للواقع والتوجه مباشرة صوب بؤساء العالم الجديد. هذا التحدي الذي شعت به عينا كورتاثار في تلك الأمسية قبل سنوات طويلة من الآن هو الذي سوف يفتح الطريق إلى عالم مغاير من السرد القصصي في أمريكا اللاتينية، وقد يكون من شأنه التأسيس لنمط من القطيعة مع العالم القديم الذي احتضن التجربة السردية برمتها. ومَنْ تراه يجرؤ، سوى كورتاثار على أن يظهر على الملأ بطوله الفارع وجسده النحيل في حديقة عامة وكأنه سارد أساطير جاء من الماضي، بأكثر مما هو كاتب قصص معاصر؟ ثمة علاقة بين الرواية والأسطورة، لم نجرب بعد استكشاف آفاقها. ولكنها ليست بالضبط، نتاج التماثل الشكلي في وظيفة السارد الذي يتوجه إلى جمهور بعينه ليروي له حكاية، وليست تماما نتاج الاختلاف الهائل بين العصر الذي ولدت فيه الرواية والعصر الذي بزغت فيه الأساطير. بكلام ثانٍ: لا تقع هذه العلاقة في حيز الافتراق بين الماضي والحاضر؛ لأن الرواية المعاصرة لم تعد تماما (نتاج العصر الحديث وحسب)، بل هي أيضا ابنة الماضي البعيد. إن الأساطير هي الأم المنسية التي ولدت الرواية المعاصرة من رحمها، ولكننا في غمرة ابتهاجنا بالتعرف على هذا المخلوق، كدنا ننسى أنه ولد من رحم أم كبرى تستحق التمجيد هي الأساطير البدائية. وكما أن الرواية الحديثة ليست بالضبط وليدة عصر الصناعة، أي ليست مخلوق العصر الحديث وحده، فإن الأسطورة بدورها ليست تماما نتاج الماضي وحسب؛ بل هي أيضا ابنة العصر الجديد الذي نحيا فيه والذي هو بامتياز عصر الأساطير. أليس من الصحيح القول، ومع التفجر الهائل في أشكال التقدم العلمي وأنماط الحياة وهيمنة وسائل الإعلام (التلفزيون، السينما، الإنترنت.. الخ) إننا نعيش اليوم في قلب عالمٍ هو مزيج من الماضي والحاضر على مستوى الثقافة، وأننا نعيش في عصر تقلص فيه الإحساس بالحضور المكثف للماضي في حياتنا وثقافتنا، إلى الدرجة التي بات معها من شبه المستحيل التمييز بدقة كافية ما إذا كنا ننتمي إلى الماضي أم إلى الحاضر؟ ترى ما هو بالضبط إحساس شاب في مقتبل العمر يجلس في غرفة صغيرة في قرية نائية من قرى شرق سوريا أو جنوب العراق، وهو يتبادل الأفكار الجديدة عبر شبكة الإنترنت مع شبان آخرين يعيشون في مدن غربية حديثة وصاخبة؟ هل يغمره إحساس حقيقي بأنه يعيش في الماضي أم في الحاضر؟ وماذا نسمي الأساطير الجديدة التي تنشرها وسائل الإعلام من حولنا وحول كل شيء، بما في ذلك الصور النمطية الزائفة التي تصورنا نحن العرب، وباطراد، وكأننا شعب حكمت عليه الأقدار أن يظل حبيس الماضي؟ بهذا المعنى يمكن للزمن الواقعي أن ينتظم في سياق غير منطقي، وأن تجري الأحداث دون تتابع مقنع أو معقول. بكلامٍ ثان: يمكن للواقع أن يتبدى كأسطورة حزينة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved