الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

النظرية العربية عند النقاد القدامى من منظور حديث
نظرية قدامة بن جعفر النقدية (9)

* د . سلطان سعد القحطاني
قامت نظرية قدامة بن جعفر النقدية على محور أخلاقي، نستطيع أن نلخصه في كلمة واحدة (الفضيلة) بكل ما تحتوي عليه هذه الكلمة من معنى، أو قل معان كثيرة، وهو يؤكد على أن غرض الشعراء في الغالب (مدح الرجال) وهذا المدح يتم بالإشارة إلى فضائلهم، التي يحصرها في أربع، وهي على رأي بعض الباحثين (العقل والشجاعة والعدل والعفة) من حيث إنهم ناس، لا عن طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوان، وهذه الخصال عادة ما تكون للممدوحين دون غيرهم، وقد يزاد فيها أو ينقص، حسب اتجاه الشاعر وماذا يهدف من ممدوحه، فقد يزاد عليها الكرم، أو يقتصر الشاعر على صفة واحدة في ممدوحه، فيصفه بالشجاعة فقط، أو بالجود فقط ويغرق فيه ويرى قدامة أن من مدح بغير هذه الصفات مخطئاً، ثم يقوم بتقسيم هذه الفضائل، كل منها على حدة، فيذكر على سبيل المثال الفضيلة الأولى (العقل) فيقسمه إلى أقسام، منها: ثقافة المعرفة والحياء، ويكاد النقاد أن يؤكدوا جميعاً على هذه الصفة، من قبل قدامة ومن بعده، فقد ذكرنا في الصفحات السابقة تأكيد ابن طباطبا على هذه الخاصية في نظريته النقدية، كما أكدها أرسطو في نظريته للشعر والنثر معاً، وقال ابن سيرين فيما يخص ثقافة الكاتب، وما تعنيه هذه الكلمة من معنى: (الأدب الأخذ من كل علم بطرف) وكثير هم الذين أخذوا هذه الخاصية في الحسبان، فتثقفوا ثقافة عامة وخاصة، وكانت العامة قبل الخاصة، فأحاطوا بالعلوم والمعارف بشتى فروعها ومواردها، وقد لخص ابن الأثير منها ثمانية لابد للأديب أن يتسلح بها حتى يستحق أن يقال له أديب، ومدلول كلمة (أدب) تشتمل على موضوعات متعددة، النقد واحد منها، ويذكر من أقسام العفة: القناعة وقلة الشره، ومثلها الشجاعة، قال عنها: الحماية والدفاع، وعن العدل: السماحة، وهذه الصفات التي يذكرها في كتابه يتركب بعضها مع بعض، إذا أخذناها بعلم المنطق في قضية (الأخلاق) وقد يمتزج بعضها مع بعض، حتى ليكاد التفريق بينها في نسيج واحد، من خلال دراسة نص ما، سواء كان من الشعر أو من النثر، فبمجرد ذكر الفضيلة تنتفي الرذيلة، ومثلها الشجاعة ضد الجبن، والكرم ضد السخاء، لكنها في نفس الوقت تقيد المبدع في قالب أخلاقي، قد يكون من صنع المبدع نفسه، وإذا أراد أن يعكس الموضوع سهل عليه ذلك، ويكفي أن نضرب مثلاً على ذلك من واقع العصر والبيئة نفسها، وينطبق على ما قبلها وما بعدها، فهذا الشاعر علي بن المقرب العيوني، يذهب إلى الملك الأشرف بن العادل الأيوبي، وقد سمع الملك بابن المقرب وتمنى أن يراه، فلما علم العيوني بذلك طار فرحاً وارتحل من العيون، في الأحساء، وكانت تسمى (البحرين) إلى الموصل ليمدحه بقصيدة أعدها له، وربما كانت قصائد، منها هذا الشاهد:
حرام عليها دونه الماء والكلأ وأن تلتقي أعضاؤها والمفارق
فيوم تلاقيه تراح وينقضي شقاها ويلقى ميسها والنمارق
لدى ملك من آل أيوب لم تسر بأحسن نشرٍ من ثناه المهارق
وعندما جاء إليه لم يجده كما توقعه، وانتظر فلم يحصل منه على ما يريد، فهجاه بقصيدة مضادة لما مدحه بها، فقال:
تسلط بالحدباء عبد للؤمه أخو بلأ عن كل مكرمة عم
إذا أيقظته لفظة عربية إلى المجد قالت أرمنيته نم
فهل يعد قدامة هذه النصوص من الفضيلة التي نادى بها أرسطو، أو أنها نصوص متضادة، وتعبير عن موقف معين؟ ونجد الجواب عند قدامة عندما فصل بين معتقدات الشاعر، يقول: (إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه، إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيها كالصورة، كما يوجد في كل صناعة، من أنه لابد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها،.... وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان- من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح والهجاء، وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة، أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المقصودة) وقد أكد في مواضع أخرى من كتابه على أن للشاعر أن يتكلم في أي موضوع يريده حتى وإن كان موضوعاً هابطاً، ولا يقلل هذا من قيمته، فيقول (وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلاً رداءته في ذاته)، ومن هذه النصوص نجد أن قدامة لم يضع معايير صارمة لمسألة الفضيلة بمعناها الحرفي، وإنما أراد أن يقرب هذه الفضائل في غرض واحد من أغراض الشعر (المدح) ويحدده بما هو لصيق بصفات الممدوح الجوهرية، والتي يسميها (الفضائل النفسية) التي يصل إليها الإنسان بجهده، فلا يذكر الأوصاف الجسمية ولا ما لأجداده من فضائل، والعكس صحيح، وكأنه في هذه الجزئية النقدية يؤكد على ما وصفه ابن طباطبا (الصدق الفني) ولكن حقيقة الفن قد تخالف ذلك، في الحالتين (المدح والهجاء) وهما عكس بعضهما، وقد لا تتوفر هذه الجزئية في الشعر!! كما أن هذه الفضائل التي تحدثنا عنها عند قدامة توفرت في أي إنسان ما، فسيكون إلى الكمال- وهو نسبي بطبيعة الحال - أقرب من طبيعة النفس البشرية، لكن باب المبالغة في الشعر الذي قال عنه قدامة وأيده لا يخرج عن نظرية ابن طباطبا في الصدق، أي الصدق الفني، وقد أكد هذه النظرية الدكتور جابر عصفور في دراسة حول هذا الموضوع، فيرى أن الفضائل إذا تحققت في إنسان ما، كان ذلك الإنسان هو الكامل الذي ينبغي أن يبرزه الشاعر للأعين، ما دام الشعر أغلبه المدح، وما دام المدح يقوم على الفضائل الخاصة التي تميز الجنس، وإذا كان المدح أو الذم (الهجاء) متناقضين في الرؤية النقدية، وقد قيدهما ابن جعفر في صيغتين تلاصق كل منهما الصفات النفسية، أو ما يحصلها الإنسان بجهده الذاتي، بصرف النظر عن الصفات الأخرى، مثل الجسمية أو العرقية أو المذهبية، نظرية قامت في العصر الحديث، واتبعها الكثير من النقاد والدارسين، وملخصها (النظر في النص بصرف النظر عن مؤلفه) ونجد ذلك في الدراسات الغربية التي لا تحفل بأصل الإنسان ولا بديانته، ما دام لم يتعرض إلى دين أو خلق، بمعنى آخر تتعامل مع النص فقط وتقيّمه على أساس أنه نص، وليس من أين أتى، وقدامة في نظريته هذه يتبع هذا المنهج الغربي، ولم ينتبه إلى الثقافة العربية وما فيها من ارتباط وثيق بالنسب والجنس والعرق، وكل ما يجد الشاعر من مداخل يدخل بها على المنقود، هذا في التراث، أما في الدارسات الأدبية والعلمية الحديثة فقد اختفى هذا النمط أو تلاشى وملخصها (النظر في النص بصرف النظر عن مؤلفه) ونجد ذلك في الدارسات الغربية التي لا تحفل بأصل الإنسان ولابديانته، ما دام لم يتعرض إلى دين أو خلق، بمعنى آخر تتعامل مع النص فقط وتقيّمه على أساس أنه نص، وليس من أين أتى.
وقدامة في نظريته هذه يتبع هذا المنهج الغربي، ولم ينتبه إلى الثقافة العربية وما فيها من ارتباط وثيق بالنسب والجنس والعرق، وكل ما يجد الشاعر من مداخل يدخل بها على المنقود، هذا في التراث، أما في الدراسات الأدبية والعلمية الحديثة فقد اختفى هذا النمط أو تلاشى قليلاً أو كثيراً، وصار الناقد يحسب حساب الآخرين في نقده، فيتعامل مع النص فقط، إن ما نادى إليه قدامة بن جعفر في نظريته النقدية الأخلاقية، على أن هذه الفضائل تهدف في المقام الأول إلى جانب تربوي كان يريد من هذه النظرية أن تؤثر في المتلقي: فالمدح بهذه الفضائل يدعو المتلقي للعمل بها، والتنفير من الهجاء بالرذائل يدعوه إلى الابتعاد عنها.
وقد يقف أمامنا سؤال يبحث عن إجابة، أو لنقل: تفسير، ما الفرق بين الشعر الذي يدعو إليه قدامة والوعظ؟ وإذا كان ظاهر النص يشير إلى أن هذا المبدأ وسيلة من وسائل الوعظ، فإن النقد الحقيقي يرفض هذه النظرية، ويخرج هذا النوع من الشعر، وإن كان موزوناً مقفى! لكن قدامة يتدارك الأمر فيجيب: (أن يكون اللفظ القليل مشمولاً على معانٍ كثيرة بإيماء إليها، أو لمحة تدل عليها)، ويرى الدكتور جابر عصفور في هذا الصدد أن الشاعر يختلف عن الواعظ، وان الشعر يوصل القيم توصيلاً متميزاً، بمعنى أن الشعر لا يقدم الفضائل تقديماً حرفياً يضع الفضائل كما هي، إنما يقدمها تقديماً مجازياً أو شعرياً عن طريق ما تنطوي عليه اللغة من تكثيف وتعدد في الدلالة، ولعل قدامة قد انتبه إلى موضوع خطير في الدراسات النقدية، سواء منها العربية أو غيرها، ذلك أن لكل فن صفاته ومدلولاته اللغوية (الاصطلاح) ولذلك فرق بين معنى الشعر وعلم الأخلاق، فيرى أن الشعر لا يحكم عليه بالمعايير الأخلاقية، فالمعنى إذا صيغ بالشعر- أو أي فنٍ من الفنون الأدبية - يتجاوز المعيار الأخلاقي، بل يحكم عليه من خلال العلاقات التي تربطه بالسياق الشعري، مثل الوزن والقافية واللفظ.. ونجده يركّز على قضية اللفظ واقترانه بالمعنى اقتراناً واجباً وقد فرعنا القول فيه عند ابن طباطبا، وكذلك يهتم بالدلالة اللغوية على ما يعنيه الشاعر، وكذلك التشبيه، وغيره من العناصر المهمة في النص الأدبي.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved