الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

مدن ملونة .. سفر في المكان

*تأليف: عبد الرحيم العطري
المغرب: المؤلف 2005
مدن زرتها فعلاً وأخرى يخيل إلي أنني اقتربت منها، مدن اتشحت بألوان شتى وطوقت بأحزمة فقر وضياع، إن هي إلا مساحات للبوح... إن هي إلا تمارين شقية ورياضة تعذيبية، على حد قول تلك العائدة من سجن الخيام، لذاكرة منفلتة.. محاولة لرسم ملامح مدن مهترئة.. (مدن ملح) مغربية وأجنبية تبكي حظها التعس تعيش آخر لحظاتها.
بهذه السطور استهل المؤلف كتابه السردي الحكاواتي، ليسافر بالقارئ عبر سهول ووهاد في مدن زارها وعاش بها وتكونت في ذاكرته عنها فصولاً تُحكى. يقول: سأصدقكم القول، لا أعرف بالضبط ما الذي سأحدثكم عنه.. ولا أعرف كيف أبدأ كلامي.. كل هذا الصمت من حولي كل هذا الشتات من ذكريات فقدت بهاءها وحياءها، مدن شتى تتراقص أمامي في أزيائها وأطمارها تبدو متشابهة.. فالبؤس قاسمها المشترك.!!.. مدن زرتها فعلاً وأخرى يخيل إلى أنني اقتربت منها.. إنها مدن اتشحت بألوان شتى وطوقت بأحزمة فقر ذي ثقافة خاصة.. إن هي إلا مساحات من البوح.. إن هي إلا تمارين شقية ورياضة تعذيبية، على حد قول تلك العائدة من سجن الخيام، لذاكرة منفلتة محاولة لرسم ملامح مدن مهترئة (مدن ملح) مغربية وأجنبية تبكي حظها التعس تعيش آخر لحظاتها.. بتابع المؤلف لمّ شتات ذاكرته الموهنة بالألم: (قررتُ الهجرة نحو أعماق الذاكرة بحثاً عني.. فما وجدت إلا أطلالاً انغرست عميقاً في تلابيبها.. إنها نوستاليجا جديدة تغمر الانكبات / الاحتراق وتقود إلى فعل الاستنكار، لبناء وصوغ أشياء تهدمت وتهدلت، ولكن أنى لي بلوغ المراد في زمن الكاتيوشيا والتوماهاوك...).
ثم ارتحل المؤلف إلى أولى تلك المدن (بن جرير) تلك المدينة الصغيرة المنسية في الأقاصي المغربية الشاسعة، التي قال عنها: (سُئل أحد نوابها الراحلين عما تحتاجه هذه المدينة العرجاء، فقال: نحن في حاجة ملحة لسجن ومقبرة فقط.. هذا كل ماتريده (بن جرير) !! سجن يؤمه منحرفوها ويحميهم من قرس الشتاء وقيظ الصيف، ومقبرة تستقبل الموتى الناقمين على ما يجري في أحشائها الغارقة في بؤس أيامها!!.
إلى (بن جرير) كان السفر الأول، رحلة غرائبية تخترق صمت جبل (وزرن) الرابض فوق هضبة المدينة، ودواوير (الحنيثات) و(الحجرة البيضا) و(السبيتات). كان البدء مطلع الثمانينات، والشارع المغربي يموج بأحداث مؤلمة، كانت (بن جرير) حينها - وما زالت - خارج التاريخ، غائصة في يومها المكرور، تنتحب وقد طوقها الفقر وغطاها بعباءته الثقيلة، جثم على صدرها وخنقها الجفاف، فاستحالت إلى أراضٍ جرداء لم تستفد قط مما رقد في أحشائها لملايين السنين من فوسفات ثمين!!. هذا هو قدرها أن تظل بائسة (مالحة) كغيرها من (مدن الملح).
إنه المدينة الشبح، مدينة بلا وجه، يخترقها شارع يتيم ما كان له أن يكون لولا إكراهات الطريق الرئيسة، شارع يتيم تتعرى فيه المدينة، حيث تصطف المقاهي فيه جنباً إلى جنب في اتحاد غريب، وتلوح عبر ضفتيه كافة مظاهر الخلل المجتمعي: أطفال مشردون، شباب عاطلون معطلون، متسولون، مسنون يحتضرون، بائعات هوىً... الجميع في كرنفال ماسخ يتأهب دوماً للانقضاض.. إنها لحظات إنصات لذات منشرخة، تتوق إلى فضاءات أوسع من الحرية، وإلى مدن بهية الطلعة، تتطرح أسئلة وجودها وغيابها.
يواصل المؤلف سيل هذا البوح والأسى، يغلف به سطور رحلة لمدن يراها غارقة في البؤس والشقاء والإهمال المريع: (البؤس قاسمنا المشترك، والملح طعام يومنا المهموم، وستظل كذلك ما لم يصح الذين هم فوق السمع لنبض المعاناة في القاع المجتمعي، لنبض الهامش المقصي، وما لم يحدث ذلك، فهي مدن ملح بامتياز!!.
يتابع المؤلف رحلته، ويشهر عبرها أسئلة المدن التي وطأها: (سؤال المدينة سيظل قائماً ومداعباً للتفكير والخيال، يلازمنا في دروب مدن لم تحكِ عنها شهرزاد، وإنما سمع عنها شهريار.. أبوابها، هوامشها قبلة لنا. سؤال المدينة لا ينفتح لينغلق.. سيبقى مفتوحاً ومشاغباً للمقاربة والاكتشاف والانكشاف.
يتساءل المؤلف بأسى: من أي الطرق يمكن أن نصل إلى تبديد سحابة الأسئلة؟ لندع كل الاحتمالات الممكنة جانباً ولنعترف بكل هدوء أننا مدعوون جميعاً إلى التمرن على تعذيب الذاكرة لتطهيرها من تفاهات العالم.
الكتاب رحلة ملونة بالأسئلة لمدن عبثت بها الظروف والأزمنة.. صاغها المؤلف بأسلوب وجداني طغى على سطوره الغضب ونبرات السخرية.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved