الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

حصان ينشد وحدته وقراءة تقارب عاديتها
سعد البازعي

كنت أقرأ مجموعة محمود درويش لماذا تركت الحصان وحيداً لأول مرة. أقرؤها تدفعني شحنتان من الوله: وله إلى الشعر الدرويشي الموعود، ووله إلى التعرف على سر العنوان.
ودرويش، كما يعرف قراؤه، من أقدر الشعراء على إيقاظ الشعر ولهاً ممضاً في نفس القارئ، لكن العنوان كان ملحاً هو الآخر.
وكان أن توقفت فجأة أمام مقطع طال تأملي له حتى تبين لي فيه ما يبرر الإطالة في التأمل.
لم أكن أتأمله لما فيه من جمال، أو للإجابة عن تساؤل، وإنما لشيء آخر يخص الشعر نفسه:
ههنا حاضر
لا مكان له،
ربما أتدبر أمري، وأصرخ في
ليلة البوم: هل كان ذاك الشقي
أبي، كي يحمّلني عبء تاريخه؟
ربما اتغير في اسمي، وأختار
ألفاظ أمي وعاداتها مثلما ينبغي
أن تكون: كأن تستطيع مداعبتي
كلما مس ملح دمي، وكأن تستطيع
معالجتي كلما عضني بلبل في دمي!
حين قرأت هذا الكلام من قصيدة (ليلة البوم) من لماذا تركت الحصان وحيداً كنت تحت تأثير التوفز المستمر، التوفز الذي يصعب الفكاك منه عند قراءة نصوص تنوء بتوتر إبداعي يصعب احتماله.
وحري بالتوتر أن يزداد حين تكون مشدوداً -كما كنت- إلى قضية، قضية تراءت لي كما لو كانت الأساسية في قصائد الديوان.
أقصد قضية الهجرة وترك الحصان وحيداً.
ففي المقطع مواجهة رمزية لعبء ماضٍ كارثي ومستقبل أكثر كارثية.
وعلى مستوى أكثر خصوصية هي مواجهة لإرث أب يصعب الفكاك منه، إرث الانتماء إلى أب شقي.
كيف يمكن استبدال ذلك بإرث الأم، الأم المهمشة في ثقافة الأسماء والانتماء.
فالأم هي التي ستحنو على الشاعر حين يرتكب أخطاءه المعتادة (كلما مس ملح دمي)، وحين يتوهج الشعر المؤلم في العمق: (كلما عضني بلبل في دمي).
فما الذي استوقفني هنا؟ لم يكن ثمة تميز في هذه الصور يفوق ما في غيرها، وإنما كان تميز من نوع آخر شعرت معه وبحدة بإشكالية بعيدة عن هم درويش نفسه.
شعرت بذلك حين قرأت الصورة الأخيرة: (كلما عضني بلبل في دمي).
فنحن هنا أمام التعبير الشعري، تعبير الشاعر، ليس عن مشاعره، كما اعتدنا أن نقول، وإنما عمّا يترتب على التعبير، عمّا يحدث حين ينطلق الشعر من الفم، عن الشعر كمشكلة للشاعر نفسه.
فالبلبل هو الشعر الذي يعض أحياناً، ومع أنه بلبل فإن لعضته، كما لكل عضة، ألماً.
هنا الشعر يقدم مأزقه من زاوية محددة وبلغة (تعض)، لغة تعض قارئها إن كانت لديه شفتان قابلتان للاشتعال طبعاً (وقد تبين لي أن شفتي لم تكونا بالقابلية المطلوبة، لأنني كنت قد قرأت ذلك الكلام من قبل دون أن (أُعض) أو أشعر بألم العض!).
ما الذي استوقفني، مرة أخرى؟ الذي استوقفني هو المأزق الذي يقع فيه القارئ ذو الشفتين المفرطتي الحساسية، والأذنين الهشتين، والجوانح الآيلة للانهدام، تماماً كجسد بشار بن برد.
هذا القارئ الذي ينصِّب نفسه معبراً عن جماليات الشعر، معبراً ثانياً أقصد، حين يكتب أو يتحدث بالنيابة عن الشعر والشاعر، كيف سيواجه هذه العبارات التي (تعض)، كيف يحتفظ لها بما أعطاها درويش أو ذكرنا به من قدراتها؟ كيف سيحتفظ بعضتها طازجة وحادة ومؤلمة؟ إنه المأزق الحقيقي: مأزق ألا تقتل اللغة بتجريدها من مناقيرها الجميلة الجارحة، ألا تدجن اللغة، كما اعتدنا أن نقول بلغة آيلة للتدجين، فتخرج بكلام بارد كالذي قلته قبل قليل عما (يقصده) الشاعر؟
أحياناً تبدو القراءة النقدية بهذه الصورة الآثمة، صورة المتجرئ على مناقير البلابل حين تعض الأفواه فتنزع منها ما تعض به عضاتها المؤلمة اللذيذة في الوقت نفسه.
أحياناً تبدو القراءة النقدية تجريداً للغة الشعر من اللذة والألم معاً، ولاسيما حين تجنح للمدرسية والتوصيل السهل خدمة لقراء يفضلون الدجاج اللاحم على العصافير الغامضة المدهشة.
لنا ما نقول عن
الأرض للأجنبية حين تطرز منديلها ريشة
ريشة من فضاء عصافيرنا العائدة!
كيف تعيد صياغة هذا الكلام دون أن تمسح الفضاء وتجعل العصافير - بدلاً من الفضاء - هي المصدر (الحقيقي) أو (الواقعي) للريش الذي تلتقطه الأجنبية؟ ثم كيف تتم تلك الصياغة دون أن ترتكب الخطيئة الأكبر في تدمير الإيحاء إذ يحتشد في تطريز الأجنبية منديلها من الفضاء، فضاء العصافير، بدلاً من العصافير نفسها، فتفرد الصورة للكلمات السهلة والتراكيب العادية، للغة التي ناضل الشاعر كي يتجاوزها؟
أليس الشعر هو هذا السعي، المتحقق أحياناً، لكي تنتصر اللغة على نفسها، أو على ما تتردى إليه من عادية على ألسنتنا وتحت أقلامنا؟ أليس الشعر فرصة اللغة والعالم من خلفها وفي ثناياها لكي تنتصر على العادي، المكرر الممل؟ ألم يتعب درويش كثيراً، كما تعب غيره في لغاتهم الشعرية، لكي يصل إلى صورة بجمال المنديل المحوك من ريش الفضاء لينقل لنا الإيحاء بالمحتل الذي لا يعرف - أو ينسى - أنه محتل؟ كيف نجيز لأنفسنا القيام بالحركة المعاكسة فنعيد الأشياء إلى (نصابها)؟ كيف نطفئ برق الإبداع بثقاب الشارع اليومي، ونسمح لعوام الكلمات أن تستعيد ما اقتنص منها فتطل من رقاب الحروف لتسد شرفات الرؤية؟ كأننا العادي نفسه، ينتصر من خلالنا على ما تميز عنه.
كأننا غبار الشارع حين يلتهم أعين الشرفات، وتلوثُ الفضاء مناقيرَ البلابل.
يقول درويش:
وحين التفتنا إلى الشاحنات
رأينا الغياب يرتب أشياءه المنتقاة...
ما ذا ستقول أيها الناقد الشارح؟
يواجه درويش هنا إشكالية الغياب عن الأرض فيصوغها بالإشارة إلى الشاحنات التي تنقل الفلسطينيين من أرضهم.
(أما الغياب فهو الذي ينتج عن ترك الأرض، وبالطبع فإن هناك أشياء مهمة تبقى بعد الرحيل يعبر عنها الشاعر مجازياً بالإشارة إلى أن الغياب ينتقي الأشياء).
يا للعادية! يا للموت العقلاني الواضح! ألم يكن بإمكان درويش أن يقول كل هذه الألفة؟ ألم يكن بإمكانه أن يكون (درويشاً) حقيقياً - كتلة من المألوف إن لم يكن من الملل والبلادة - تماماً كأي ناقد محلل؟ كيف إذاً يجيز أحدنا لنفسه أن يتحلى بتلك الكتلة، أن يتباهى بها أو يتماهى معها؟ وهل القارئ المتباهي المتماهي بتلك الكتلة جدير بكل ذلك الانهيار؟ أمن الضروري أن ننهار على حلم صعود قارئ منهار؟ كان بإمكان درويش أن يقول: حين التفتنا وجدنا المكان خالياً منا وأشياءً مهمة كثيرة تركناها.
لكنه لم يقل، لأن هذا الكلام قاصر وسهل، وإن كان ذا معنى.
لقد آثر الكلام الأصعب والأجمل، الكلام الذي نخونه كلما شرحنا وأعدنا الصياغة بكلمات مطروحة في الطريق، كما لو كنا وكلاء المجانية والتكرار نترافع عنها كلما توهج شاعر بلغة مصطفاة من كوليسترول الكلام المترهل.
ماذا نفعل إذا؟ هل نترك الشعر وحيداً يخفف، كما الحصان، الوحشة عن بيته؟ أو يرتب، كما الغياب، أشياءه المنتقاة؟ أليس الشعر في حقيقته هو الحصان الذي يحتاج، أحياناً على الأقل، أن يظل وحيداً وبعيداً، كالغياب؟ كيف لنا أن نقترب، أو نقارب، الحصان دون أن نتلف أنس وحشته بألفتنا؟ أم أن الشعر ليس الحصان وإنما البيت، البيت الذي يحتاج حصان القراءة والتأمل والتفاعل لكي يؤنس وحشته؟ قد تكون علاقة الشعر بالبيت أقرب، ولعل تسمية وحدة الشعر بيتاً تعود إلى شيء من الحميمية والألفة التي يشيعها الشعر.
فلربما كان البيت الذي نتحدث عنه ليس بيتاً يحتاج إلى أناس يسكنونه بقدر ما يحتاج إلى أناس يسكنهم هو، يقيم معهم ويسافر معهم، يسكن أبياتهم كما يسكنون بيوته، يفترش أجسادهم بقدر ما يفترشون غرفه.
لربما كان ذلك كذلك! لربما!


السعودية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved