الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش..ذلك الشاعر الملتبس
نادر عبد الله

يذكرني الشاعر (محمود درويش) من باب التداعي فقط، وليس أمارة على سوء حاله أو موقفه، بتلك التشكيلات التي دأبت بعض الأنظمة العربية على تأسيسها في حياتها السياسية، وهي أحزاب المعارضة التي تتوحد مع السلطة ضد العدو الخارجي، ولا تعد تعني بشيء من واقعها.. طبعاً أسوق هذا الكلام مع الاعتذار الشديد لما بين الحالتين، درويش وهذه الأحزاب من فرق جوهري وكبير، لكني آثرت سرد هذا التداعي لما له من دلالة مجازية في حالة درويش ليس بسبب موقفه، وإنما إيقاعه، وفي الحقيقة فإن الرعاية التي تلقاها درويش من الثورة، ما كان لها أن تستمر على هذا النحو شبه الهادئ، لولا أيضاً هذا الإيقاع الشعري الخاص عند درويش، مع احترامي أيضاً للثورة الفلسطينية، وأنوه من جديد أن هذا السرد الهدف منه هو الإشارة إلى المتناقضات التي كانت يجب أن تحدث بين أي مبدع أصلي وأية مؤسسة، أياً كانت هذه المؤسسة، وأياً كانت وطنيتها بحكم أن كل مؤسسة بالنهاية هي تنميط وتنسيق، يجد المبدع نفسه على تضاد معها بشكل ما، رغم كل المشتركات الأخرى الكبيرة).
* لكن ما هو الإيقاع الشعري عند درويش..؟!
- لقد تساءلت دائماً لماذا أشعار (محمود درويش) وما حفظته منها ورددته في مختلف حياتي وتجلياتي، بحكم الظرف الذي ألزمني بمعاشرة طويلة، ظلت مجرد مفردات وإيقاعات كلامية، رغم أنني غمَّستها ملياً في الباطن والظاهر.. بينما أشعار بوشكين مثلاً أقصت عنها مفرداتها، ولغتها، واستحالت قوة شعرية في دخيلتي، متلبسة بشراً، وأمكنة، وطقوساً؟ إن محمود درويش لم يكن ليتحول إلى شاعر كبير لولا هذه القوة الإيقاعية الكبرى للمفردات، وتراكيبها، إن قصائده ظلّت على الدوام تحيل القوة الشعرية الجبارة الكامنة فيها، إلى المفردة والتركيب، والإيقاع الكلي العام، بدل أن تحيله وتدغمه في بشر، وحيوات ومواضع.
إن الشعر عنده لا يخرج من المفردة إلى الشيء، إلا بحكم أن هذا الشيء هو المفردة ذاتها، غير أن المفردة تستلبه - الشيء - من ضيائه وبهائه لحساب قوتها وتفجراتها كمفردة كلامية قبل أن يكون شيئاً، ولا تود أن تندغم في هذا الشيء، لتخرج من نفسها وتضيع فيه كحامل جديد لها، حامل مختلف، متلبساً فقط قوتها الشعرية.
لا أعرف لماذا كنت أتصور أن درويش سيعيش حالة من حالات الاختناق في نهاية التجربة، وأن هذه القوة الشعرية المجنونة التي لا تستطيع أن تتجاوز مفرداتها ستقضي عليه. لذلك كثيراً ما كنت أعبر عن هذه المسألة على نحو مقتضب لبعض أصدقائي قائلاً (إن شعر محمود درويش يفتقر للصور) وكانوا دائماً يدهشون ويعاجلونني بقراءة الكثير من المقاطع الحاملة من وجهة نظرهم لهذه الصور، وكنت بدوري أستطيع أن ألمس هذه الصور انطلاقاً من فهمي السابق، ان المفردة لا تدخل الشيء إلا كونه هي، لكنها على نحو ما، غادر وفظيع، وقوي إلى حد مرعب، تستلبه قوته الشعرية، وتنكفئ إلى نفسها، كحامل نهائي لمجمل القوة الشعرية التي تشكلت عبر هذا التحويم.
وفق ما سبق فإنني أعتقد أن موهبة (درويش) يستوطنها ويغذيها خلل إجرامي.. فهذا الإيقاع الكلامي المتضمن، والمنبعث من قوة شعرية مهولة، لم ألحظه أبداً في أي من الشعراء الذين قرأتهم في حياتي.. لكن مأساتي - ولا أعرف إن كانت مأساته أيضاً أنني لا أستطيع الإصابة منه إلا عبر تلك المعاودة الدائمة لقراءته، حيث يصير وقع الكلام، وإيقاعه، وموسيقاه، الطريقة الوحيدة لإمساكه).
- عود على بدء.. كما أسلفت إذاً فإن إيقاع درويش، وبسبب هذا الخلل غير القادر على الاندغام بالتفاصيل والأشياء، وجد في الموضوعات العامة ضالته، ولذلك ظل وفياً في التوجه العام للثورة، ولم يخلع نفسه ليصبر مسكوناً بكل جغرافيا النفس الفلسطينية، ومجمل مصادر قلقها.
كان مايكافوسكي شاعر الثورة الروسية، ثم خلع نفسه عن هذا الدور، وبعد ذلك انتحر، وبالطبع فإن ذلك باعتقادي لم يحدث لأن الثورة أخذت تأكل أبناءها، وصارت تعمل بآليات تغاير منطلقاتها ومبادئها بل وهذه هي خصلة المبدع ومصدر مأساته، أنه طوّر فكرة عبثية الحياة، ولا حكمتها المزمنة من مجرد فكرة مجردة في شبابه، إلى فكرة باتت مضرجة بالدم في كهولته، دم الناس الذين وإن لم ينخرط في صفوفهم، ظل وفياً لهم في إيقاعه، من عذوباتهم المتخيلة يدندن أجمل القصائد. المسائل الصغيرة.. التفاصيل.. الانكسارات التي تبدو ثانوية على هامش المسارات العامة، والزمجرات التي تصحبها، تأخذ في دخيلة المبدع، وبصيرته، استدلالات كبرى، ستقوده إلى المشاكلة مع أشياء كبرى، فتربك عندئذٍ جميع علاقاته مع الموجودات، بما فيها المؤسسة، فيما يستعر إيقاعه ويتقدم أكثر وأكثر إلى صفائه الخاص الذي لا يتكرر.
(درويش) شاعر ملتبس رغم كل ما قلته، فعندما قرأت له مقابلة في جريدة السفير قبل أشهر مع الشاعر (عباس بيضون) كان واضحاً أن كلامه ليس كلام المبدع المثقف فقط، بل المبدع المثقف صاحب البصيرة، التي تظل تقوده في كل جملة إلى الينابيع والقصيات.
لقد وقفت ملياً أتأمل هذه المفارقة، بين إيقاعه الشعري وبين بصيرته العميقة، وكيف أن بصيرة من هذا النوع لم تمكن إيقاعه، وقوته الشعرية من الاندغام بالأشياء. إنني بحق أجد نفسي عاجزاً عن الكشف عن هذه المعضلة وأقول بتواضع، - إنني عندما أعجز، فإن المسألة إذاً تتعلق بالطبيعة، والبنية، والفطرة، فهكذا هي موهبة درويش.. هكذا هي مخلوقة.


فلسطين

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved