الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش
صاعداً من الطحين
فريدة النقاش

(من المونولوج إلى الديالوج) كان هذا عنوان لمقال كتبه الشاعر محمود درويش في مجلة الجديد الأدبية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي الإسرائيلي - وغالبيته من العرب - في حيفا سنة 1969م وذلك قبل أن يخرج محمود درويش من فلسطين ومن منفى لمنفى، وتدلنا القراءة المتأنية لشعره بعد هذه الرحلة الطويلة من خروج لخروج أن الانتقال من المنولوج الذي وسم دواوينه الأولى إلى الديالوج في مرحلته الأخيرة يمكن أن يكون أحد العناوين الرئيسية في تجربته الشعرية منذ أن وجد نفسه مشردًا بين البؤس والحرمان في جنوب لبنان ثم تسلله عائدا لفلسطين ليجد أن قريته (البروة) قد دمرت لتقام وكأنها مستعمرة صهيونية لا يعرف هو أحدا من أهلها ليتعمق شعوره بالغربة ويصبح لاجئا فلسطينيا من فلسطين وليجد منذ ذلك الحين أينما حل ذلك الوطن الذي فتح قلب الشاعر ليضم كل المظلومين والمضطهدين في العالم.
نحن في حل من التذكار.. فالكرمل فينا - وعلى أهدابنا عشب الجليل
لا تقولي ليتنا نركض إليها.. لا تقولي - نحن في لحم بلادي.. هي فينا
وفي ديوانه الأول (عصافير بلا أجنحة) - وهو الديوان الذي كتبه الشاعر قبل أن يبلغ العشرين ثم قام بحذفه من أعماله الكاملة بعد ذلك - لا أعرف لماذا خاصة وأن الدارس النقدي يمكن أن يجد في هذه البدايات كل الإرهاصات الأولى التي تبلورت في ديوانه الأخير (كزهر اللوز أو أبعد) كذلك فإن الروح الغنائية مع عدد من القصائد العمودية تقدم مادة خصبة للمنطلقات الأولى من هذا الديوان ومن أول قصيدة بعنوان (شاعر) يتحدث عن قلبه بلغة المفرد.. المونولوج.. لكن بداية الديالوج تتجلى أيضا في نفس القصيدة:
قلبي... الملايين في قلبي لها غرف
أضلاعها خصل الضوء الذي سفحوا
على شفاهي صفاء اللحن منهمر
فألف ألف هزار في فمى صدحوا
أودّ لو شربته أمة نذرت
للصمت أيامها.. والليل منطرح
للضائعين على صحراء غربتهم
لم يعرفوا الورد مذ راحو ومذ نزحوا
يقول محمود درويش إن تطوره الشعري تم من خلال التراكم وليس من خلال القفز من الفراغ ومن التراكم أصبحت قصيدة محمود درويش أكثر درامية وأكثر تعقيدا وهي تنتقل من حالتها البسيطة إلى الحالة المركبة ومن المونولوج إلى الديالوج، إذ يخرج من بين الملايين الذين يحتلون قلب الشاعر في قصيدته الأولى محاورون كثر يتصدرون المشهد الشعري وليس نادرا ما يكون محاور الشاعر هو قرين له يتسم بالدهاء ويخوض معه لعبة الزمن والموت والمكابدة مع اللغة التي يبذل الشاعر جهودا مضنية لتملكها وتطويعها للمعاني البعيدة ولابتكار الأساطير وللإمساك بالوجود الهارب، يقول محدثا اللغة:
لديني ألدك - أنا ابنك حيناً - وحينا أبوك وأمك - أن كنتِ كنتُ - وان كنتُ كنتِ
لكنه حين يخرج من حالة المطاردة مع اللغة وتولد القصيدة ليقول في حديث له.. (الشاعر ليس آتيا من اللغة فقط بل من التاريخ والمعرفة والواقع، والذات الكاتبة لدى الكاتب ليست ذاتاً واحدة) إنها الذات المنقسمة في عالم يقذف بها إلى الغربة وهي أيضا الذات الكريمة التي تهدي نفسها للآخرين.. فكر بغيرك، الذات التي تذوب في الكون ويذوب فيها ومبكرًا جدًا وهو لم يغادر العشرين من عمره قال: حين أنظر إلى الأشياء لا ألتصق بها فقط وإنما أتوغل فيها وهي تتوغل فيّ كأن وعيي ووجداني يدخلان في معادلة واحدة.
وظل محمود درويش طيلة هذه الرحلة من البسيط إلى المركب يبحث عن أقصى توتر للتجربة والعنف الحسى الذي يعانق الصوفي، وبقيت الحداثة المتجددة أبدا تمردًا مدهشًا وفعالية لم تقطعه أبدًا عن الماضي وعن منابعه الوطنية وتراث أمته فيطل علينا (أبو العلاء المعري) في ديوانه الجديد في تصديته كوشم يد من معلقة الشاعر الجاهلي وهي القصيدة الثانية في رباعية المنفي التي نهجت نماذج متكاملة للمولونوج إذ الحضور الآسر للآخر والتناص معه والولوج بقوة إلى عالم الفلسفة والانشغال بالأسئلة الكبرى في الكون حيث يتزاوج المونولوج وصوت الفرد يحدث نفسه، والمونتاج حيث تعاقب الصور وتواشجها وتفاعلها والتناص والتضمين واعتماد الرموز والكنايات والصور واستدعاء الأساطير وحيث القصائد مشحونة بغضب وجودي يتجادل مع عالم يتقوض وما من يقين هناك أن كان الذي سينهض مكانه عالم من السرور وحيث القلق الأبدي والدنيا الموحشة المفتوحة على الجنون هل في وسعنا أن نغير حتمية الهاوية وإذ يصعب تعيين مكان الصوت المفرد - الإنسان الشاعر في هذا العالم الملتبس -.
أنا من هناك.. أنا من هنا
ولست هناك ولست هنا
ومع ذلك ما من أحد محصن ضد داء الحنين.. قبل سنوات قال الشاعر:
أحن إلى خبز أمي
والآن هو أيضا ملاحق بالحنين إلى المسافة إلى الأبعد الأبعد لعلنا ننتصر على الاغتراب الشامل وهو يسعى لحماية ذلك البعيد الذي لا يرى حمايته من الدلالة المنجزة فالدلالة المنجزة سوف تكون نهاية بشكل ما... وهو يهرب بكل قوته من النهايات. فالنهايات غياب يلقى بنا في براثن الموت بكل معانيه في زمن الكارثة.
ورغم اتساع أفق أشعاره وازدياد عالمه ثراء ولغته كثافة وعتمة وخفة في آن واحد سوف يظل وصف محمود درويش بأنه شاعر المقاومة عنصراً رئيسياً في مكونات عالمه الشاسع حتى وهو يجرب ويجرب ويجرب، سوف يبقى كذلك رغم أنه يعلن في كل مناسبة أنه لم يعد يحب هذا اللقب ولا يتمنى أن يظل مرتبطاً به (إذ إن على الشاعر أن ينتبه أيضا إلى مهنته وليس فقط إلى دوره) حسب قوله.
وقد انتبه محمود درويش أيما انتباه إلى مهنته وهو يكتب بعضا من أجمل قصائد المقاومة من الشعر العربي وسوف أتوقف هنا أمام قصيدته الشهيرة (أحمد الزعتر) كواحدة من هذه القصائد التي تتجلى فيها قدرة الشاعر على أن يصبح مهنياً من طراز رفيع وصاحب قضية في أن واحد يدعو للمقاومة في قصيدة مركبة ذات صياغة جمالية وشعرية راقية
ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشين
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني
ونحن نعرف أن هذه هي القصيدة التي اختارها الموسيقي والمغني اللبناني مارسيل خليفة ليلحنها ويغنيها رغم تعقيدها وتعدد مستوياتها فكان أداؤها على هذا النحو يشكل انتقالة حقيقة في الغناء العربي تتحدى الذوق السائد وتدرب السامعين على تذوق الشعر المركب بطريقة جديدة وترفع من مستوى الغناء، نجد أنفسنا في البداية أمام الثنائية التي تقابلنا على امتداد هذه القصيدة فاليدان من حجر علامة الصلابة والقوة وحالة الجماد في العالم والزعتر كرمز للحياة والاستمرار والخصوبة وحيث طعام الفقراء خبز وزعتر وأحمد الذي نعرفه فيما بعد عربياً هو الإنسان العادي المقاتل البسيط المنذور للشهادة وهو الآن محلق بين فراشين حر وطائر في حريته المجازية ولكننا سرعان ما سوف نجده معنا في ليل الزنازين الشقيقة بعد أن يكون قد نزل من نخلة الحرم القديمة إلى تفاصيل البلاد، وفي رحلته هذه إعادة ابتكار لرحلة الإنسانية كلها في مسيرتها الطويلة من البداية، حين انفصال البحر عن مدن الرماد والبحر هنا رمز للحرية والحركة والسفر والعبور من عالم لعالم، وحين وقعت الواقعة الكارثة التي تحيلنا إلى كل ما حل بالشعب الفلسطيني والشعوب العربية من فواجع
كنت وحدي
ثم وحدي
آه يا وحدي؟ وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
فحيناً ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعداً يشتد في النشيد
يتراسل الزعتر والمقاتلون هنا مع اليدين من حجر وزعتر اللتين افتتحتا القصيدة لتنهض مشروعية قوة المقاتلين كالحجر عبر هذا التراسل الناعم الذي ينفر من الموت ويغني للحياة.
نجد أنفسنا أيضا أمام هذه المفارقة بين (وحدي ثم وحدي) ووصف أحمد بالعربي، وكما نقرأ مستويات هذا النص الثري في بنيته العميقة نقرأ انقسام العرب إلى أحمد العربي وهؤلاء الذين تركوه وحيداً في النسيان لكن ساعده اشتد رغم الوحدة والنسيان ونتذكر هنا سؤال ديوان محمود درويش الذي صدر بعد قصيدته هذه بسنوات: لماذا تركت الحصان وحيداً؟
كبر أحمد وهو يسأل عن الحقيقة.. الحقيقة التي خبرها الشاعر من منفى لمنفى
يريد هوية فيصاب بالبركان.
ونجد في هذه الصورة تكثيفا شعريا لبنية القصيدة كلها ومحور تركيزها حيث التحرر من علاقات العالم القديم والانتماء إلى فضاء الطبيعة وفورانها ومفاجأتها إذ يستدعي البركان المقاومة كحركة داخلية في القصيدة تمشي في اتجاه معاكس لحركتها السطحية حيث الزنازين الشقيقة والحصار والرصاص.
وما أن ينفجر البركان في القصيدة إلا ويتجه المنحى الدرامي البالغ الوضوح هنا حيث صراع مشتد وممتد اتجاهاً جديداً، وتتعقد بنيتها، ويشتد التوتر بين السطحي والعميق، بين نداء الحرية والمقاومة من جهة والانشداد إلى واقع الحصار الكئيب من جهة أخرى، وفي البركان يصبح أحمد عربياً في دلالة قوية على أن تحرير فلسطين هو مهمة عربية بل وأن روح المقاومة التي يستدعيها النص لا بد أن تكون شاملة لمنطقة انتهكها العدو من المحيط إلى الخليج كما انتهكها أهلها أو بالأحرى حكامها فهي ممزقة بين استعمار خارجي واستعمار داخلي وينهض أحمد العربي باسمها ليقاوم حيث في المقاومة.
(وجدت نفسي قرب نفسي) وعلى العكس من المستوى الظاهري للنص الذي يتوحد فيه أحمد مع نفسه وتخونه النظم الرسمية والعواصم فسوف ينبعث كعنقاء من تحت رماد الهوان والاستسلام في قلب البسطاء والفقراء
وأصعد من عيون القادمين إلى غروب السهل
أصعد من صناديق الخضار
وقوة الأشياء أصعد
أنتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كل الأزقة
ينشدون
صامدون
وصامدون
وصامدون
يقلب أحمد المقاوم العلاقة الضدية مع العواصم التي حاصرت الفلسطينيين من المحيط إلى الخليج لتصبح علاقة أخوة مع الكادحين في الوطن البسيط المشحون باحتمال الياسمين والذي يسري فيه أحمد العربي مثل النار والغابات ويتوحد مع الطحين كرمز للعيش
أخي أحمد
...............................
متى تشهد
متى تشهد
متى تشهد؟
تدعونا البنية الدرامية للقصيدة أن نستكمل في سياقها كله إجابة هي مضمرة في هذه البنية لنقول إن ما سيشهد عليه أحمد هو انتصار القضية وأن شهادته هي بمعنى آخر شهادة كل هؤلاء الذين يقاومون وقد تعرضوا للخذلان لكنهم يواصلون المقاومة في كل تفاصيل الحياة اليومية صامدون وصامدون... وصامدون.
ورغم أن المقاومة هي جانب واحد من الجوانب الثرية في شعر محمود درويش إلا أنها أساسية وملهمة لقرائه ولمتذوقي الشعر العربي في زمن كارثي.


مصر

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved