الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

مسيرة إبداعية متميّزة
سلمى الخضراء الجيوسي

أول ما يلمع في الخاطر عند ذكر محمود درويش هو أنه شاعر الهوية الفلسطينية المتميز، الهوية الشخصية والهوية الجماعية معا، لا تفترقان.
إن الهويّة الفلسطينية متجذرة في الهوية الجَماعية؛ ويتعزَّزُ الموقف الجَماعيُّ لدى الفلسطينيين بنضالهم المتكافل، كلهم في مجاله المعيَّن، لتحرير بلادهم والحفاظ على هويتهم الخاصّة.
إن خطابهم الشخصي، الشعري والسردي والتشكيلي، الذي يُبدَع لتبيان القصة الفلسطينية للعالم، يصوِّرُ بشكل حادّ التقاربَ الحميم لدى أعضاء المجموعة الكبرى ودوافعَهم للكفاح.
فالروح الجماعية تجتذبهم بعضَهم إلى البعض الآخر، وهي غالبا ما تملي نبرة الأدب الفلسطينيّ ومغزاه. قد يعاني الفرد الفلسطيني ويموت وحيدا، لكن مأساته الخاصة، في أساسها البعيد والقريب، ترتبط عادة بمأساة المجتمع والأمة. هذه الطبيعة الجماعية للهوية الفلسطينية تشكل جزءا لا يتجزّأ من الرواية الوطنية، وتلعب دورا عظيما في عملية المقاومة، في أبعادها التي لا تُحصى، حيث تشكل الهوية الجماعية عاملَ توحيد يشي بتشابهٍ في التجربة وبذاكرة مشتركة تدخل الحنين والدفءَ إلى القلب.
درويش سيد هذا الموقف وحارسه الأمين. إنه المعبّر الأكبر عن روحه ومعناه.
هذا هو جوهر الخطاب الكثير الأصالة الذي وجهه هذا الشاعرإلى شعبه فتشبث به، تماما كما وجهه إلى الأمة العربية جميعها فلاقته بالقبول الواسع، كما وجهه إلى العالم العريض فأصبح جزءا من مفهوم الكثيرين فيه عن مأساة فلسطين العربية.
وإن احتفاء العرب به واحتفاء أوساط عالمية متعددة هو أمر كثير العزاء بما يكشفه من قدرة العالم بعد، من اليابان حتى قلب أمريكا، على استيعاب قضيةٍ برع العدو وتفنن في تمويهها وتلوينها واختراع السلبيات الجارحة لها. وهذا هو انتصاره الشعري والإنساني الكبير، إنه مسكون بالوطن، فكأن مأساة شعبه قد أحاطته بتمائم التزام لا يستطيع ولا يريد التخلص منه. التزامه هذا ليس فقط التزاما بقضية سياسية كبيرة بل التزام، قبل كل شيء، بمأساة الإنسان وعذابه وكفاحه البطولي للتغلب على مأساته؛ وهذا ما يجعله شاعرا عالميا.
رغم هذا التركيز الذي لا يكل تتجدّد مقولته باستمرار، متوهجة، نابضة بالحياة، مبدعة صورا لا تناقض فيها، منسجمة أبدا مع معناها الأساسي مهما تغير التناول وتبدلت فيه الصور والتفاصيل.
لا يضاهيه في هذه التجربة مبدع عربي آخر سوى ابراهيم الكوني، ذاك العاشق للصحراء الغربية، الذي رسم، عبر الفن القصصي المتميّز، حياة فقرائها البسطاء بتركيزلا يكل هو أيضا، تخطى حدود المكان والزمان واختلاف نبض الحياة وتوجّهها ومفاهيمها الناتجة عن التجربة الصحراوية الفقيرة الشديدة المعاناة وجاء جزء من التجربة الشمولية لحياة الإنسان على الأرض، للمبادئ الأساسية التي بُنِيَ حولها مفهوم الإنسانية وأوضاعها الشمولية.
عندما يركّز المبدع على موضوع كبير هو جوهر إبداعه وحافزه الأول دون أن يستنفذه أبدا، دون أن تصبح مقولته تكرارا باردا وتعويذة متكررة خالية من رونق الفن وجرأته وقدرته على الإدهاش، فإنه يعلن عن عبقرية فريدة متفوقة، نادرة الحدوث.
هذا التعبير الجماعي/ الشخصي جوهر مقولة درويش الإبداعية، يحتله روحا وقلبا وفكرا.
غير أن هذا لا يعني أبدا أن القارئ أو المستمع يستطيع أن يتكهن من قريب أو من بعيد بما سيطلع به درويش في أي عمل أدبي جديد.لا شيء يستطيع أن يعتدي، لحظة واحدة، على تفرّده واختلافه.
يتحدّث باسم الجميع ويظل متفردا، له نكهته الخالصة وبريقه المختلف - ولذا فإن مقولته تظل هي المقولة الفريدة التي يسعى إليها الآخرون، دائما متوقعين دهشة جديدة، دائما منتظرين كشفا لم يُسبق، دائما منفتحين لذلك البُهر الذي يتدفق عليهم مع تدفق ذلك الشعر. إنهم يفاجئونك دائما بالصورة الحية المشرقة بالإيحاء والإمتاع - حتى عندما تصوّر لك عالما منكوبا يحرق القلب ويمتلك عليك الوجدان بفداحة العذاب الإنساني الغامر. هذا الشاعر هو أكبر شعراء العربية الحديثة، وأكثرهم إخلاصا، وأغناهم عطاء - لم يتحيّز، ولم يحد عن الحق قط، ولم يُدخل روح الشك بعدالة المحاولة الفلسطينية والعربية إلى الدخول إلى العالم بشجاعة وثقة، ولم يشكك قط بالقدرة الإنسانية عند شعبه وأمته جميعها على أن تؤكد هويتها من جديد، وغناها الروحي والثقافي، وقدرتها على التماسك والعطاء.
ولذا فإنه، في هذه الأزمة المزلزلة التي يواجهها العرب اليوم إزاء قضاياهم وهويتهم ومستقبلهم، يظل ذلك الصوت الجريء، الخالي من التعصب والتزمت، المترفع عن الأهواء والمصلحة.
هذا سر كبير من أسرار بروزه كشاعر عالمي، ومن أكبر شعراء العالم.
العالم لا يحترم في أعماقه المتزلفين والمساومين، حتى ولو أكرمهم، لغاية عنده، إلى حين. وهو من الشعراء القلة الذين أتقنوا المراوحة في نبرة الخطاب، ينقلك من نبرة الحزن والتفجع إلى نبرة الحنين والأمل، ثم الغضب والانفعال، ثم السخرية والترفع عن خطايا عالم لا يرحم. وفي كل هذا لا يقع قط بالميوعة العاطفية التي هي مقتل الشعر، وهو الشاعر الغنائي الأكبر.
إن الغنائية هي مرحلة الشعر الأعلى والأكثر اكتمالا، كما قال لوكاش يوما.
لا أنسى جلسة طويلة مع الفنانة الفائقة الإبداع ريم كيلاني، المكرسة هي أيضا لمأساة شعبها الفلسطيني وللمحافظة على تراثه الغنائي.
أمضيناها ننتقل من قصيدة درويشية إلى قصيدة أخرى وريم تحاول اختيارالقصيدة الأنسب والأكثر غنائية من شعر درويش، لتلحنها وتغنيها وتسجلها في ألبومها الأول.
ولكنهاعندما وجدت أن أغلب قصائد درويش، على جدها وعمقها وغناها الشعري والإنساني, تخضع للتلحين لما فيها من نبرة حميمية وغنائية رفيعة تنساب إلى اعماق النفس والروح، عادت إلى اختيارها الأول.
عندما يتبدد الدفق الغنائي عند الشعراء وتتعثّرالإيقاعات التي تحافظ، قبل عناصر القصيدة الأخرى، على استمرارية الخلق الشعري وعلى توقّد الخيال المبدع وتصبح واهية، يظل درويش أبدا قادرا على التعبير عن شعرية متوهّجة لا تعرف الفتور، و تظل تلك الإيقاعات ملكه وثروته السابغة، محتفظة بالحافز الشعري رغم عدوان الحياة حول الشاعر وقسوتها التي لا تكل.
لنقارنه بما رُوي عن شاعرين كبيرين ملآ أجواء العصر الأموي شعرا.
قال ناقد قديم عنهما: الفرزدق ينحت من صخر وجرير يغرف من بحر.
وإن عبقرية درويش الشعرية جريرية بلا شك، فهي تبدو لنا كأنها نبع يصبّ في بحر لا ينتهي.
اللحظة الدرويشية لا تموت أبدا.
إنها تستمر في خلق نفسها، تظل مورقة ومتجددة.
هذا اكتشاف مدهش للقدرة الإنسانية على الصمود أمام جنون العالم, أمام العذاب الذي لا ينتهي في مواجهة عدوان فريد، و تدخّل لا مثيل له في حياة ملايين من البشر باسم ميتافيزيكيا موغلة في القدم تحاول أن تفرض قبضتها اللاإنسانية على العالم.
وأي عالم هذا؟ إن الجزء الأكبر منه لا يؤمن بالخلفية الدينية لهذا الادّعاء ولا يهمه في قليل أو كثير هذه الرتوش الميتافيزيكية التي تهدف إلى التحكّم بمصير كل هؤلاء الآخرين وتحولّ الملايين إلى ضحايا مجانيين.
غير أن أهم ما في مقولة درويش الإبداعية هو أنه لم ينصِّب نفسه، كما فعل شعراء آخرون، معّلما للناس ومنذرا ونبيا، منفصلا عنهم، يتحدث إليهم من علٍ، بل وقف شريكا معهم بالعذاب، ضحية من ضحايا عالمه المفجّع، فجاء إبداعه أكثر حداثة وأعمق حميمية من مقولة الآخرين.
وهذا موقف حداثي بامتياز جاءه بالغريزة الفنية الأصيلة التي امتصت نبض اللحظة الشعرية ونكهة الموقف الحداثي الأصيل.
قلة هم الشعراء الحديثون الذين شاركوه في هذا الموقف، إذ إن جلهم، حتى أولئك الذين رفعوا راية الحداثة ورفدوها بالتنظيرات، بقوا أسرى لموروثهم الطويل العامر بالبلاغة الآمرة والمقولة التي جعلت من الشاعر إماما وكاهنا وعرافا.
لا أظن أن الشعر المعاصر قادر على استيعاب مواقف كهذه بعد اليوم، فقد حل فيها الإرهاق الجمالي وخرجت عن مزاج اللحظة الراهنة وما تحتاج إليه.
إن شاعر اللحظة الزمنية هذه مجبول ببلاياها ومشارك لها بالعذاب وبمرارة التجربة وفداحة الخطيئة التي أدت إلى وضعها الراهن.
وإن كان عليه أن يواجه جمهوره بالكلمة فإن كلماته لن تعبر إلا عن تحسباتهم الداخلية وعذابهم، ولكنها تستنفر بنفس القوة ما ربض في اعماقهم من إرادة التغلب والتجاوز واستعادة الخسران.


بريطانيا

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved