الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

هبة الشعر.. هبة الحياة
إبراهيم صموئيل

في يقيني أن محمود درويش، في عالم الشعر، لا يُشهد له بل يُستشهد به فحسب. وهو، من دون شك ليس وحيداً مفرداً، غير أن شعره فرادة فذّة منذ نهار آخر الليل إلى ما هو أبعد من زهر اللوز. قصيدةً بعد قصيدة، وعاماً بعد عامٍ كان يبني درويش لنا، وفينا، صرح الشعر العربي الحديث. يشيد ذائقتنا للشعر، وينهض بها، ويعمّقها، ويفسح في المجال أمامها لتستكشف بؤر الجمال، مواطن الأسرار، دلالات المعنى، وإشارات الطريق الشعرية ورموزها التي لا تنتهي إلى، بل تكون، في ذاتها، المتعة وزوّادة الحياة في آنٍ.
ولعل أعظم ما في المسيرة الإبداعية لهذا الرجل ليس كونه شاعر القضية الفلسطينية، على الرغم من انتمائه إليها ونهوضه بها واحتضانها له، وإنما كونه شاعرنا. شاعر يمكن للقارئ العربي أن يتكّنى به، أو أن يقول ببساطة : أنا من الشعب الذي أنجب محمود درويش، تماماً كما الغبطة التي تمور فينا، نحن القراء العرب، وتتّقد حين نباهي بانتمائنا إلى شعب أنبتت أرض إبداعه الأدبي قامات مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسعد الله ونوس. . لست في مجال الشهادة لمحمود درويش، أنا في صدد الاعتراف بأنني من بين كل ما ينكّس رأسي، في الواقع العربي الراهن، ويدفعني للمداراة والتحفظ بل والتواري خجلاً مما آلت إليه حيواتنا وأوضاعنا ومصائرنا. . من بين كل ذلك المذلّ المهين والمخزي. . من بين كل تلك الانهيارات العربية والتصدعات المروّعة، أجدني مرفوع الروح بهذا الشاعر، ناهض القلب، ثابت القدمين على جزيرة إبداعه في وسط الخراب العميم. لِشعره تدين ذائقتنا بالترقي، ولِشعره يعود انفساح الرؤية فينا، وبشعره، على الأخص وعلى التفرد، تحقّقت معادلة لطالما ظلت نظريةً خياليةً مشتهاةً كُنيّت بالصعبة أو المستحيلة : التحليق بالشعر أعلى فأعلى في فضاءات الفن وآفاقه من جهة، والتغلغل أوسع فأوسع بين الناس القراء من جهةٍ أخرى. وهذا إنجاز عظيم لمحمود درويش لم يسعفه (الحظ) في تحقيقه، ولا خصّته (ربّات) الشعر به من دون غيره، بل هو ثمرة للشغل الدؤوب والعنيد على أدواته الشعرية، وكذلك للموهبة التي أفاد منها إلى الحد الأقصى وعرف، بإدراك عميق وعقل نقدي، كيف يُقيم طقوس الشعر من دون أن يقدم الأضاحي على مذبحه، سواء من تقليص مساحة القراء أو من تخفيض ذُرى الفن. هل لأن درويش وُلد (بالتقسيط) - على حدّ تعبيره في حوار معه - تمكّن مرحلة بعد أخرى من توسيع وتطوير وتعميق عالمه الشعري دون الإخلال بالتنامي المستمر لقرائه؟ هل لأنه فلسطيني ارتبط اسمه بقضية كبيرة الوزن وبالغة الحساسية؟ هل لأن الإعلام العربي أفرد له ما لم يفرده لغيره من المتابعة والتقصي؟ هل لأن النقد خصّه بالاهتمام البالغ وحايث تجربته الشعرية؟ عبثاً سنقف على سبب بعينه، وعبثاً سنضم الأسباب مجتمعةً، ففي اعتقادي أن محمود درويش، كما المتنبي وكما كل المبدعين الكبار في العالم بأسره، فرادة فذّة سنظل نحار في أسبابها وعواملها ومعطياتها، فنفسر ونحلل ونجتهد ما أسعفنا التحليل الأدبي وأغاثنا الاجتهاد من دون أن نتمكّن من وضع أيدينا على (السرّ). السرّ الغامض، الشائك، والمستعصي الذي يمنح شعباً ما مبدعاً عظيماً.
أفهل تحتاج هبة محمود درويش الشعرية الخلاقة هذه أن يُشهد لها، أم يكفي أن نستشهد بها معترفين بما وفّرته لنا من متعة في الفن ومعنى في الحياة ؟!


سورية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved