الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش.. حصان الحرية ..وجموح الخاسر!
سهام القحطاني

(ألّفت عشر قصائد في مدح حريتي ههنا أو هناك.
وألّفت عشرين أغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيه.
حرّيتي: أن أكون كما لا يريدون لي أن أكون)..
..محمود درويش
من (عصافير ولا أجنحة) 1960م إلى (كزهر اللوز أو أبعد) 2005م/ يتجاوز محمود درويش في ذاكرة المكان والزمان والأشخاص مجرد التجربة الشعرية التي تعرّف بمجانية الأسماء، الثورة والمقاومة والتمرد، تتجاوز تجربته الشعرية التقويم الماضوي له بشاعر القضية وشعر ا في تكوين جوهر تقويم تجربته الشعرية، ولذلك رفض جوهر ذلك التقويم بقوله (ولكن لا أستطيع أن أقبل بأن أعرّف بأنني شاعر القضية الفلسطينية فقط، وبأن يدرج شعري في سياق الكلام عن القضية فقط وكأنني مؤرّخ بالشعر لهذه القضية).
المتأمل للأعمال الشعرية لدرويش منذ عام 1993م (أحد عشر كوكبا) إلى (كزهر اللوز أو أبعد) نجد أن مجملها ظل! يتدرّب ليتمرد على جوهر التقويم السلفي، باديا من الكفر بالماركسية ونظرية (ظاهرية الماضوية) في إمكانية تفسير النشاط الإنساني في الحاضر والمستقبل، إضافة إلى توسيع محتواه الممتلئ بالواقع التاريخي مما عكس على تجربته سيمياء التعددية عبر انفصاله المعلن على استحياء عن الصوت الأيديولوجي الممتلئ بالواقع التاريخي، والاعتماد في التركيز على الدائرة الإنسانية، وهذا الأمر نجده عبر تحليل نبرة اللغة في ديواني كزهر اللوز أو أبعد ولا تترك الحصان وحيدا، فابتعدت نبرة اللغة الشعرية عن الانفعالية والعاطفية والطوباوية والشعاراتية وتهيج الوعي الجمعي للالتفاف نحو فردانية المكان والهوية، ليخّلص تجربته الشعرية من هيمنة جوهر التقويم المعدّ سلفا عند النقاد، وإن لم يستطع درويش من التحرر المطلق من تلك الهيمنة والمرجع الجوهر، بسبب النظام الموضوعي الذي يمارسه درويش في أعماله الشعرية المعتمد على التراكمي أو ما يسميه نظام (السلالة)، والذي بدوره أسقطه في مأزق التكرار، كما يعني ذلك أن الارتفاع لا التطور وفق قاعدية التراكم يصبح مجرد صيرورة مرئية وعملية مدروسة، وهذا بدوره يدخل التجربة الشعرية والشعورية ضمن نظام النمو البيولوجي الذي عبر عنه درويش بالسلالة، وهو ما يعني أن التطور في هيئة الارتفاع يتضمن دائما ارتباطا طبيعيا بمعنى أن الخطاب وفق تطور الارتباط التاريخي عادة ما يضّمر أشياء من التناقض، والمعطى يتجاوز موقع الأهمية كلما كان هناك تحرك مستمر للمستدعى التاريخي فيه كإنجاز يدخل ضمن الجديد والمتغير، وبقدر ما ينتفي كل جديد ومأمول وتغير لقطع الشطرنج من فوق المساحة ذاتها، لا يكون ثمة تاريخ للارتباط، بمعنى عدم إمكانية التنبؤ المطرد، وهو ما يعبر عن درويش في ديوانه لماذا تركت الحصان وحيدا (كل شيء هادئ في ملتقى البحرين... لا تاريخ للأيام منذ اليوم،.. لا موتى ولا أحياء. لا هدنة.. لا حرب علينا أو سلام) فمفهوم التطور يشمل التعبير بالاختلاف بين الثابت والحوادث المتقلبة وظروف الإنسان في تجربته المعيوشة، وكلما كان ناتج الارتباط يعاكس خطاب التوجيه زادت حيرة الدلالات المستقاة من الأشياء وطبيعة ماهياتها وهذا ما يعبر عنه درويش بقوله في إحدى مقابلاته عام 1997(ما نحياه ملتبس الدلالات، لا هو عودة ولا هو زيارة ولا هو إقامة، وشروط كل هذه الأسماء محاصرة باحتلال ملموس وربما اشد قسوة الآن، الاحتلال تحول من احتلال كامل الأرض إلى نوع من الحصار لأجزاء من الأرض غير مترابطة وغير متصلة بعضها ببعض، أي أن وجودنا الإنساني هناك يشبه وجود كائنات في داخل أقفاص، وبالتالي الإحساس بالاحتلال وبالحصار يتأزم أكثر وأكثر، لذلك من السابق لأوانه تماما الاحتفاء بالعودة أو حتى استخدام هذا التعبير).
* ما يميز تجربة محمود درويش الشعرية أنها تشمل كل شيء، هناك أرض وتاريخ وذاكرة وهوية ولغة وأزمنة وحب وكره وموت وحياة وطفولة وشيخوخة ونساء وسماء ومطر وفصول أربعة وتين وزيتون وزعتر ولوز وأسماء علياويّة الصيغة ومفاهيم وتصورات وأحلام وقصص حب وحكايات شهداء وزوايا لمتضادات أجزاء الصورة المعكوسة تتحايث فيها وتتواجد ليحمل الشعر عند محمود درويش تصورا جديدا للمفاهيم، مفاهيم لارتياد عالم من الكشوفات والأبداع، وولوج عالم الممكن باندفاع واقعي، واستثمار الحلم بوصفه أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع المعترَض عليه.
ذكرت مسبقا أن التجربة لشعرية عند محمود درويش من 1993م بدأت تعيد صياغة ملامحها القديمة، فكانت الميتافيزيقية والصوفية قاعدتين جوهريتين لدلالات التجربة الشعرية عند درويش والتخفيف من الواقع التاريخي لتجربته الشعرية الماضوية، ولعل لهذا التحول أسباب منها ما يتعلق بقناعاته في (مسلّمات) القضية الفلسطينية ومنها ما يتعلق بقناعاته الإنسانية نحو التيارات الفكرية، (أنا منتوجُ كلّ هذا وأَقْبَلُهُ وأضطلع به).
هكذا يعبر درويش عن هويته الجديدة، لعل هذه القناعة التعددية في الأنا الفردية لدرويش دفعته نحو إعادة إنتاج مفهوم الهوية بصورة مختلفة عن الفردانية التي صدح بها قديما (سجل أنا عربي..) وقناعته نحو مفهوم وعي (الخاسر والضحية) الذي يعبر عنها من خلال لقاء صحفي معه عام 2006 (وأنا كَشَاعِر أبحثُ عن هذا الصوت. الضعفاءُ يتوجَّب عليهم أن يُقَدِّموا رواية التاريخ، ولا يجب، أبداً، الاكتفاءُ برواية الأقوياء.
وعلى كل حال، فإنّ الأدبَ الجَيِّدَ هو أدبُ الضعفاء والمهزومين ومن يُعانون، ومن فضائل الأدب أن تُتِيحَ لنا التحسيسَ بِالأَلَم والجِرَاح، وبالتالي إيصالَنَا إلى إنسانِيَتِنَا).
وبذا فالشعر أو الأدب الفلسطيني وفق فكرة درويش يجب أن يتطور من الدور الذي واكب نشوئه كسجل للواقع التاريخي، إلى دور إنساني يركز على التجربة الإنسانية المعيوشة لا الطوباويّة، وهنا ينتقل المبدع الفلسطيني من دور الشاهد الذي حبس داخله درويش إلى دور المبدع كسيمياء تعددية غير مؤد لجة، لتفتح للمبدع الفلسطيني آفاق مختلفة (هو الحبّ... يفتح أَبوابه للجميع). إنها صيغة السلام اللغة الجديدة لشاعرية درويش، إضافة إلى خوف درويش من الموت ذلك المجهول، الذي يعبر عنه درويش في إحدى لقاءاته 1997م بأنه وهم جميل عندما سئل (أليست الفنون قادرة على هزم الموت كما قلت في قصيدتك (جدارية)؟ فقال هذا وهم نختلقه كي نبرر وجودنا على الأرض، إنه وهم جميل.
(وكأنني قد متُّ قبل الآن... أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني.. أمضي إلى ما لستُ أعرفُ.
رُبَّما.. ما زلتُ حيّاً في مكان ما، وأعرفُ.. ما أريدُ... سأصير يوماً فكرةً. لا سيفَ يحملُها.. إلى الأرض اليباب، ولا كتابَ..)
* يخبرك شعر درويش، عن أشد الأشياء استتارا وأعقدها تداخلا وأغمضها اللافهما داخل اللاوعي، فتصرخ تلك الحنجرة وهي تدفن (ريتا) في حقل القمح المتفّجر فيخرج الخبز محترقا من جوف الأرض لتبتلعه صغار الديدان، وتموت أفراخ أهل القرية فتغلق السماء أبوابها حدادا على موت الطيور البيضاء، ويشق البحر إلى نصفين ويضيع طريق العودة إلى بساتين الكرم، ويخبرك شعره أكثر من ذلك، عن طفل تسلل في منتصف الليل إلى ذراعي شجرة الزيتون في الوادي المحرم ليلعق من فوق كتفيها بقايا العسل فغضبت عليه الشجرة وحبسته داخل طائر غريب الألوان فهام على وجهه يحمل (مفتاح الأساطير وآثار العبيد) ليكتشف التغييرات في الاتزان المتأصل في الكائن، وفق ما يفرضه الناس للأشياء أشكالا منفصلة تتقابل معهم في الواقع بأسماء مختلفة، ليتم تقسيم الأشياء في قوى مستقلة، إنه الخطأ البشري الأول الذي ضلل الحيرى فأضاعوا طريق العودة إلى بساتين الكرم والزيتون.. مرة أخرى وكأن التاريخ سيظل عبدا أسودا.
يخبرك عن التشابه بين الذات وهوية الوجود وتجانسه وحتى نفهم هذه الثنائية لا بد أن يتقابل الإدراك الحسي مع مطلقية الفكر، كون الإدراك الحسي بمعنى معين هو إدراك واع، يشترك بهكذا معنى مع قصيدة الفكر، في ضوء صياغة المثول، عندما تميل حواسنا إلى ما يماثلها، فمساحة الموجود لا تتجاوز في فكرنا الحاضر مساحة الوضوح العامة للموجود الماضوي في مثول ظاهر وفق عشب الذهن الجمعي، ( سجل!.. أنا عربي.. أنا اسم بلا لقبِ.. جذوري... قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ... وقبلَ تفتّحِ الحقبِ) (سأبحث في الميثولوجيا وفي الأركيولوجيا.. وفي كل جيم عن اسمي القديم.... ستنحاز أحدي إِلهات كَنْعَانَ لي، ثمَّ... تحلف بالبرق: هذا هو ابني اليتيم).
والذي يوهمنا دوما بأن إعادة البدايات النظيفة أمر يمكن تحقيقه دائما عبر (الحاضر الحي) عندما نبني مشروعية حاضرنا من خلال نقطة ظاهرية في الماضي، فالنشاط الإنساني مرهون بالبدايات الراسخة ظاهريا، فدائما تظل هناك نقطة ما في الزمان أو المكان تشير إلى بداية الأشياء المتتالية، هكذا تتالي تشير إلى حاجة المفكّر إلى وحدة لاستيعاب الواقع وفق عدد من الظروف والأنظمة المتسلسلة التي تُبذر في نهايات تجربتها بدايات التجربة اللاحقة، والعمل على التنبؤ بالحاضر والمستقبل من خلال إمكانية ما في الماضي، والنتيجة عادة ما تكون مراحل من الإمكانيات في تسلسل مستمر، بقصد تحويل الشيء البعيد القائم (هناك) إلى موضوع تفكيري، وحينما نتصور الأشياء وفق ذلك ينتج تسلسلا يمارس على المتلقي سلطة تفرض إيجاد أهمية متأصلة وجوهرية لإمكانية الماضي في تكوين الحاضر والمستقبل، (لأن الوعي هنا ليس معرفة بشيء مقابل هناك فإن فعل كون الإنسان واعيا يقلب الشكل الموضوعي للشيء) -لوكاش- إنها القاعدية الماركسية التي اعتمدها الشاعر محمود درويش منذ بدء تجربته الشعرية، ضمن ما يسميه قانون (السلالات) والتي حجمته وحجمت تجربته الشعرية ضمن مفهوم خاص لتحصيل التقويم، لكنه بدأ يتمرد على تلك الماركسية نحو ميتافيزيقية وصوفية غير مسقفتين، عندما بدأت تجربته الشعرية تتخطى تفكيرها كمفهوم وجودي كصياغة أقلّمة أو أرضّنة متفقة مع ما يجري فوق عشب الذهن الجمعي لنقطة ظاهرة، متجهة نحو لغة تتناسل من لغته الخاصة، متشظية معها صور الواقع في انعكاس مرايات مهشمّة بدأت من (جداريته) (يا اسمي: أين نحن الآن؟.. قل: ما الآن، ما الغدُ؟.. ما الزمانُ وما المكانُ... وما القديمُ وما الجديدُ؟.. سنكون يوماً ما نريدُ (...) -محمود درويش-.
إنه توزيع السواد من العماء كما يصفه ابن عربي والسديم والتشرذم والانكسار والانشطار والهباء واللايقين (سيري ببطء، يا حياة، لكي أَراك.. بِكامل النقْصَان حولي. كم نسيتكِ في.. خضمكِ باحثا عني وعنكِ. وكلَّما أدركت.. سرا منك قلت بقسوة: ما أَجهلَكْ!.. قل للغياب: نَقَصْتَني.. وأَنا حضرت... لأكملك!) (قال لي صاحبي، والضباب كثيف.. على الجسر:.. هل يعْرَف الشيء من ضدهِ؟.. قلت: في الفجر يتَّضح الأمر.. قال: وليس هنالك وقت أَشد.. التباسا من الفجر، ... فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل،.. ولا الكائنات هي الذكريات.. أنا اثنان في واحد.. أم أنا.. واحد يتشظى إلى اثنين.. يا جسْر يا جسر.. أيٌ الشَّتِيتَيْنِ منا أَنا؟... هو الزمن الآن؟ جسر يطول.. ويقصر.. فجر يطول ويمكر. ما.. الزمن الآن).
هكذا يرشد الشاعر أتباعه إلى هذا العماء مفسحا لهم عوالم من الأسئلة الشكيّة والظنيّة ملغيا جوهر اليقين الذي يبعثره عبر الأشياء المتضادة والمتناقضة لخلخلة بنيات الموروث اليقيني المصاغ لعشب الذهنية الجمعية، إن النزعة الريبية التي تكسّر حواجز اليقين من أجل تأسيس قاعدة جوهرية بالظن الشامل من أجل معرفة وثوقية تعيد إنتاج اكتشاف منطقة المجاهيل المغمورة والمسكوت عنها في اللاوعي وفي أبنية الأسطورة وعالم الخيال، وإن كان درويش مازال يتدرّب على هكذا منحى، ليوحي بزمن يميت فيه الشاعر المنطق والمعنى وأرضّنة الحقيقة، وهو اتجاه برز عند أدونيس الذي هجر الماركسية من أجل ميتافيزيقية وصوفية تجيز له فكر التيه وفعل الموت (هل أنسى نفسي من أجل الشيء؟ أأنسى الشيء وأذكر نفسي؟ هل ما ألمسه يغني عما لا ألمسه؟) -أدونيس-.
وبهكذا تجاوز تحاكي تجربة درويش تلك المنطقة التي زاغت في قصيدة الفانين لبارمنيدس (إثبات الوجود هو ذلك الذي يعلن عن نفسه في نسبة الإدراك) وعنده الوجود ينطلق من ذات الجوهرانية (أنا وحيدُ... أين (أيني) الآن؟ أين مدينة.. الموتى، وأين أنا؟ فلا عدم.. هنا في اللا هنا... في اللا زمان، ولا وجود) -درويش-.
وهكذا تتفضّح عند درويش نداءات التكينن من خلال انتصاب الأشياء أمام الرؤية في تخيّلها العام، فتتخذ بعد التمظهر في فضاء التجلي والبينونة، ليتخولق الشعر كإشارة للانفتاح الكوني، والتجوهر الإنساني كوجود تأصيلي في الهنا والآن، وهو ما يصيّر به الوجود اختفاء باعتباره فعلا للتيه.
والتيه (هو مجال فعل ذلك الاضطراب الذي ينسى الإنسان فيه الانفتاح المنغلق) - هدغر - (لا تحبكَ أو تحبُّكَ/.. أو تحسَّ وأنت مُسْتَنِد إلى دَرَجٍ../ بأنك كنتَ غيرك في الثنائياتِ/ فاخرج من ((أنا)) كَ إلى سواكَ.. ومن رُؤَاكَ إلى خُطَاكَ.. فالإمكان هُوَ المكيدةُ،) (إن عُدْتَ وَحْدَكَ، قُلْ لنفسك:.. غيرَّ المنفى ملامحه.. الم يفجع أبو تمّام قَبْلَكَ.. حين قابل نفسهُ:.. ((لا أَنتِ أنتِ.. ولا الديارُ هِيَ الديارُ).. أمّا أنت.. فالمرآةُ قد خَذَلتْكَ,.. أنت..... ولَسْتَ أنتَ، تقولُ:.. ((أين تركت وجهي؟)).. ثم تبحثُ عن شعورك خارج الأشياءِ، ... هل وجدت الآن نفسك؟.. في بيت أُمي صورَتي ترنو إليّ.. ولا تكفُّ عن السؤال:.. أَأَنت، يا ضَْيفي أنا؟.. كان ثُقْب في جدار السور يكفى.. كي تعلّمك النجومُ هوايةَّ التحديقِ.. في الأبديّ...... ما الأبدي؟ قُلتُ مخاطباً نفسي.. ويا ضيفي... أأنت أنا كما كنا؟.. فَمنْ منّا تنصّلَ من ملامِحِه ريشة العنقاءِ؟.. قلت: يا هذا، أنا هُوَ أنت.. وقفزت عن هذا الجدار لكي أرى.. ما لا يُرى.. وأَقيسَ عُمْقَ الهاويةْ) -درويش-.
وبذلك تصور يتاح للشاعر أن يعيش كل حدث في علاقة مزدوجة مرة يتعايش معه كشيء مفهوم ومدرك ذي ارتباط نهائي بقيمة واحدة، ومرة يتعايش معه كشيء مخفي عليه يتفلّت معه الإحساس بتجربة الأشياء، وهكذا تصبح التجربة الهيرمينوطيقة انفتاح مشروع على فائض الشيء في محاولة لجوهرته، وبذا فدرويش في تجربته الشعرية الحديثة ما بعد 1993م يدفع تجربته نحو الالتصاق بالتجربة الصوفية التي تطلق الأنا من قيود التناهي الحسي للتغامر مع الوجود في أبعاد لامتناهية، وطرح الاحتمالات في صيغ المفارقات من خلال التعارض، والتي هي بديل للمواضعات في فعل نفي لها، وبذا يجيز لفعل خرق الأبنية المألوفة للعالم في صياغات التكننّ، وهنا تتخذ الكلمات دورا متغايرا فهي تدل على الأشياء في ذاتها لا دالة على العالم الوضعي، والأشياء هاهنا تتشخصن مع الذات ليسهل تهشيمها وإعادة تكوينها أيضا عبر الأنا كسيمياء تعددية لمعطى تعريفي مع الآخر، أي تعني أن الأشياء تصبح قادرة على اكتشاف ذواتها خارج دائرة المألوف والمعقول، وهو ما يعني تخليص الذات من العقل الأداتي أو العقلانية التقنية، وهنا تبئير يتماهى فيها صوت الأنا بالآخر، بوصفه فضاء من مكتنزات متعددة الأصوات بتداخلات ضمائر الفاعل بمستوياتها الإنتاجية للخطاب كونه يحمل وعياً معرفياً خاصا على أرضية من وضوح الهوية والانتماء، لتجديد الخلق المندمج في الصيرورة، إنه نداء تتجدد معه الأصوات ضمن نشيدية التصالح والتسالم مع كل أنوات فواعل الخطابات المختلفة، وهذا لا يعني أن التماهي هاهنا تعني حالة استلاب وإلغاء للذات المستقلة، بل هي تحفير مستمر لاستكشاف رؤى أخرى للعالم في بحثه عن إيجاد كينونة وإثبات قدرة على استشراف إمكانيات الوجود، وحدسيات المناديات المستترة التي تحتفظ الآنية فيها برؤى تدرك الوجود من خلالها باعتبارها صيرورة تتوالد من سلسلة من التأويلات المجازة عبر شفراتها، وهنا تختلف طبيعة القيمة من خلال محتواها أي الكيفية لا الماهية، على مستوى الفعل المنظور الموجه لمحتوى القيمة مثل قول درويش (لَمَّا تحررتِ المدينة عدت من.. منفايَ.. أبحث في وجوه الناسِ عن.. أبحث في وجوه الناسِ عن.. فلم أَعْثر على أحَدٍ.. فسألت عن أهلي، وعن دارِ لنا.. فاستغرب الناس السؤالْ.. فابتعدتُ.. وهم أمامي يتبعون تراجعي بخطي ثِقالْ.. حتى خرجت من المدينة مثقلا بحقائبي.. وانهرت مثل عمودِ ملح ٍ.. في الرمالْ) ومستوى التجربة السلفية الموجهة لمحتوى القيمة (يقول: أنا من هناك.. أنا من هنا.. ولست هناك ولست هنا.. ليَ اسمان يلتقيان ويفترقان.. ولي لغتان نسيت بأيهما كنت أحلم.. والهوية قلت.. قال دفاع عن الذات.. إن الهوية بنت الولادة.. لكنها في النهاية إبداع صاحبها.. لا وراثة ماض.. أنا المتعدد.. في داخلي خارجي المتجدد) (منفى هو العالم الخارجي.. ومنفى هو العالم الباطني.. فمن أنت بينهما؟ فمن أنت بينهما؟.. لا أعرّف نفسي لئلا أضيّعها.. وأنا ما أنا.. وأنا آخري في ثنائية تتناغم بين الكلام وبين الإشارة) (أدافع عن فكرة كسرتها هشاشة أصحابها.. وأدافع عن بلد خطفته الأساطير.. هل تستطيع الرجوع إلى أي شيْ؟) ويستمر التعبير عن التناقض كإحدى وظائف الشعر صاخبا في تجربة درويش لتقوم بتعرية جسد التلاؤم والانسجام في نظام المعرفة التيولوجية عبر تقنيتي التخيل والترميز، وهكذا فسلطة التناقض في الشعر هي سلطة معارضة ضد سلطة الدال الثابتة في تشكيلاتها المختلفة بما فيها الموروث كولاية ثابتة على العقل الجمعي، التناقض كصراع مع أنساق العقل الأداتي لتوليد التوتر بين الرؤية وبين الواقع الوضعي، ضمن عناصر الخطاب والتأويل الحرفي من قبل المتلقي وإشارات الخطاب الاستعاري.
وأخيرا: لاشك أن المرور السريع - مجرد المرور - على تجربة درويش الشعرية، تعني الكثير من العناء للمار بجوارها، فإضافة إلى عمرها التاريخي الطويل، هناك اختلاف التجارب الشعورية، هناك تغاير قواعد التجوهر للمفاعيل الدلالية للتجارب ذاتها، التي منحتها كثافات ترميزيّة، هناك تطور اللغة والتوزيع الموسيقي والخطابات الاستعارية، هناك التدميج النثري مع الشعري، هناك أيضا الوقائع الخطابية، وهناك شيء فوق كل تلك الأشياء وهي الأحاسيس، تلك الكائنات الجميلة التي لا تكبر إلا في ضوء القلب.


السعودية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved