قبعة القصيدة د.جواد الأسدي
|
الحديث عن محمود درويش أو معه يشبه إلى حدٍ بعيد تلاوة نص تفجري مسكون بلبس الأنا الجمعية، يخلط اللغة والأمكنة ثم يرميها في جوف البركان الشعري، يؤنسنها، يشعلها، ويتركها تحترق بلا رماد ولا ترمد.
يحيك النص الدرويشي إلى ما بعد التماس الأول والإحساس الأول، أو إلى ما بعد اللغة، يقذف القصيدة ليعيدها إلى أعيادها ومآتمها وخطورة مساراتها، يفاجئك باللا منتظر، غير المتوقع، لذلك هو مثل بحّار يُنبت على روحه وقلبه مراكب من ضباب أليف، يدفعك لتيه النص، أحياناً للتهجي، أحياناً أخرى للهرولة داخل ممرات الإيقاع العاصف، تمشي بك قصيدته على حافة الهتك، يوقظ في روحك أجراس التقاويم أو الاشتعالات المختزنة بمجهول عرافات، نبوءات ماكبثية مزهوة بالموت، محمولة على مقصلة زمنية تفتك بالأيام.
محمود درويش طفل مجنح يخربش على جدران العالم صراخه وعشقه، في فمه منقار طير، يستعصي عليه الهبوط في معلوم اللغة، يغطي جسده بثوب المشاكسة، هو ابن الحريق والنفي والنأي والنوم في الردهات الأمامية للأرصفة.
لا يستريح، في عطش الغربة، ولا في أرض العدم، يبحث في العواصم عن شهوة الليل لجياد مخضبة، متروكة في إسطبلات عالم مهجور. هل يبحث درويش عن أقنعة اللغة، يُمكيجها، يدوزنها أم يصبغها، يفبركها أم يهدم قلاعها!
يطحنها لتصبح رماد الموسيقى، بروجكتور لنهار مسرحي في حضن الليل! درويش يكتب بالحسرة، الجمر والدمع قبعة الريح، دون أن ينسى الولاء للأتربة والبيوت المفروشة على الزيتون، نقوشه، ريشته، تتمرد على الراهن، ترتفع لمشارف اللذات، النسوة المكسورات في صوته، الأذان والأناشيد العريقة أنيسته التوابيت المتخاطفة! صوت درويش وهو يقرأ شعره، يثير فيَّ فداحة الخسران وانطفاء أمة تترمد يوماً في جيوب وقمصان الجنرالات والمخبرين.
ينقش على قميص روحه فتنة الصبيات، اللوركويات، اللواتي ينتحبن لفقدان الحبيب، (عيونك شوكة في القلب، توجعني واعبدها)، أزاهير ومناديل وداع، نشوة مشدودة لروح الأم وهي في البعد، المرمية عباءتها على الحدود، بين الجند، والموتى، بين الأمنيات والوحشة.. في ارتعاش الغبشة، بجوار شجرة الدخان، تُلقي أمه الحطب في تنور الانفجارات، تلملم ضفائرها الطويلة، تكورها مثل شدة زهور الرازقي.
بين وجه الغائبة والنيران المقذوفة من مطحنة التنور، تواطؤات، مهادنات أرغفة، أسرار طحين وأقاويل زوجات مخلوعات عن أرديتهن، بداية رفرفة النور، تنهدات عشيقات.
محمود درويش، النص الأكثر اشتباكاً مع الحياة، الحاضر المضمور فيما يأتي، عربة ممثلين يجرون (يموت الحصان وحيداً، سرير الغريبة، الجدارية) النائمة في دمي.
العراق
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|