الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

تمويه النثر بما يشبه الشعر
حسن طلب

ليس هناك من خلاف على أن شعر محمود درويش شأنه شأن الشعراء الكبار في كل مكان وزمان يدل عليه، بل يدل كذلك على نفسه فأنت تستطيع أن تتعرفه حتى من غير أن يكون ممهورا باسم صاحبه، ولاشك في ان محمود درويش يشترك في هذا مع رواد الشعر العربي المعاصر وأعلامه ممن حفروا في ارض العربية طريقة تخصهم وحدهم، وستظل آثار أقدامهم ماثله أمام كل من يتقفاها أو يتتبعها ليستكشف معالمها ويصل إلى مداها، كتب محمود درويش قصيدة مشتركة مع الشاعر الراحل معين بسيسو في أثناء حصار بيروت عام 1982م، كانت عين القارئ الذكي قادرة على أن تميز في القصيدة بين ما يخص محمود درويش وما يخص صاحبه غير أن ما يكاد ينفرد به محمود درويش عن أقرانه من الشعراء الكبار المعاصرين هو انه صاحب طريقة في كتابة النثر لا تقل في تميزها وإشراقها وفرادة شخصيتها وكذلك في جرأتها وغناها وبساطتها وتركيبها ووضوحها وغموضها عن طريقته في الكتابة الشعرية.
نعم، نحن قد نعجب بنثر احمد عبد المعطي حجازي في مقالاته الأسبوعية المحكمة البليغة في جريدة الأهرام وقد يروق لنا أحيانا نثر ادونيس في المقالات القصيرة خاصة غير ان طريقة محمود درويش في الكتابة النثرية تختلف عن صاحبيه تماما إلى الحد الذي قد يصبح عنده مصطلح النثر غير ملائم بالمرة لوصف هذه الطريقة أو يصبح غير قادر على استغراقها كما يقول المناطقة، ولا أعرف أحدًا من الشعراء في الأجيال التالية لمحمود درويش نجح في أن يروض النثر على هذا النحو فيجعله مسرحا للخيال وللدهشة باستثناء الشاعر عبد المنعم رمضان.
وإني لأعرف أن كثيرين غيري سيصرفهم شعر محمود درويش عن نثره ولهذا فقد اخترت أن اقف عند هذا الجانب المنسي في إبداع الشاعر الكبير لكن إبداع درويش النثري هو من الغنى والتنوع إلى درجة يصعب معها أن يحيط به مقال صغير كهذا فهناك رسائله وحواراته وافتتاحياته لمجلة الكرمل وهناك ما جمعه درويش بين دفتي كتاب وهناك أيضا ما لم يجمعه، وهذا النتاج الكبير كمًا وكيفاً يحتاج إلى باحثين أكاديميين ونقاد متفرغين ينهضون بهذا العمل غير المسبوق او على الأقل يحرضون تلامذتهم في الجامعات على أن يجعلوه موضوعا لرسائلهم الجامعية بدلا من تلك الموضوعات العقيمة المكررة التي يمنحون أصحابها درجات الماجستير والدكتوراه كل يوم بل كل ساعة، وإنما قصدي هنا أن أشير إلى رحلة درويش في كتبه الثلاثة (يوميات الحزن العادى) التي صدرت طبعته الأولى عام 1973م، وداعا أيتها الحرب.. وداعا أيها السلام الصادر عام 1974 في طبعته الأولى أيضا، و(ذاكرة للنسيان) الصادر عام 1987م في كتاب يوميات الحزن العادي تطالعنا محاولات درويش الأولى في ترويض النثر فمقالات هذه الكتاب تعود إلى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات وليس لنا ان نتوقع ان تكون طريقة درويش المبتكرة في الإبداع بالنثر قد تبلورت منذ الوهلة الأولى في هذا الكتاب تتغلب الثقافة وتسود الأفكار وتعمم المفاهيم، أما اللغة والأسلوب فتظل عند المستوى الذي ننتظره من شاعر كبير ينثر، إن طريقة درويش في التعامل مع النثر لا تزال هنا في تجاربها الأولى تظهر بعض سماتها على استحياء لكى تختفي تحت ضغط الفكرة وإغراء الجدل والحجاج العقلي وتبقى فائدة الكتاب محصورة أو تكاد في رصد آراء الشاعر المباشرة في القضية الفلسطينية الأم وما يتفرع عنها من قضايا فرعية على المستويات السياسية والفكرية والأدبية كافة.
ولاشك أن القارئ المهتم يستطيع أن يجد زادا ثقافيا وفيرا حول قضايا ووقائع كثيرة وثيقة الصلة بالموضوع الأساسي فهو يستطيع مثلا ان يتابع تحليلا جديدا لمذبحة كفر قاسم كما رواها للشاعر الراحل توفيق زياد أحد الناجين منها وهو صالح خليل عيسى كما بوسعه أن يتابع تحليل درويش المتعمق لظاهرة الصقور والحمائم في إسرائيل ليعرف كيف أن من نسميهم الحمائم كانوا اشد حرصا على دفع الشبهة التي ورطهم فيها هذا اللقب فراحوا يبارون الصقور في سياساتهم وآرائهم المتطرفة بدءا من صقر الصقور (يسرائيل الداد) الأشد تطرفا فما دون وإذا كان القارئ أميل إلى الثقافة والأدب فبوسعه أن يجد كذلك بغيته لا سيما في التحليل المهم لآراء الفيلسوف اليهودي الأشهر مارتن بوبر Martin Buber (1878 - 1965) الذي أقام في كتابه الذائع الصيت (أنا أنت - I-thou) تفرقة حاسمة بين الدين الذي يقيم علاقة الإنسان بالله على أساس الحوار الحاضر أو الحضور الحواري بين المخلوق والخالق وهو ما يميز الدين اليهودي وحده دون الأديان كافة وبين الأديان الأخرى التي تقيم هذه العلاقة على أساس الغياب الذي يجسد ضمير الغائب هو فتصبح علاقة الإنسان بالله معادلا للاغتراب الذي تعبر عنه علاقة (أنا- هو) التي تقابلها علاقة الحضور الحي (آنا-أنت) من اليهودية وحدها وكذلك يستطيع هذا القارئ المثقف أن يتابع آراء محمود درويش حول الشعراء الإسرائيليين المعاصرين من ذوي الميول المعارضة أو المستنيرة مثل الشاعرة الحسناء - والتعبير لمحمود درويش- (داليا رابيكوفيتش) التي كتبت قصيدة بعنوان (حطين) أيضا (يهودا عمياى) في قصيدته (رحلة بنيامين) وغيرها من القصائد الفوائد في هذا الكتاب عديدة ولكن أقلها تلك التي تتصل بطريقة درويش الجريئة الفاتنة في كتابه (النثر) ربما لن نجد في هذا الكتاب غير شواهد قليلة تبشر بميلاد تلك الطريقة في الكتب التالية ومنها مثلا قوله عن غزة ونظلم غزة لو مجدناها لان الافتنان بها سيأخذنا إلى حد انتظارها وغزة لا تجئ إلينا.. غزة لا تحررنا.. ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصى سحرية ولا مكاتب في العواصم.
أن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد وحين نلتقي بها ذات حلم - ربما لن تعرفنا لان غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار (في الكتاب النثري التالي) (وداعا أيتها الحرب.. وداعا أيها السلام) يعيش القارئ أجواء حرب أكتوبر 1973م وما بعدها بعد أن عاش في الكتاب السابق أجواء هزيمة يونيه 1976م، غير أن هذا اجو الذي تغير من هزيمة كبرى صادمة إلى نصر غير مكتمل ليس هو بيت القصيد وإنما بيت القصيد هنا هو نثر درويش الذي بدأ يقيم لنفسه معالم هوية جديدة تقف به على الحدود بين الشعر والنثر بل إن هذه الحدود تكاد تمحى أمام بكارة الصور وسعة الخيال ومرونة اللغة منذ بداية الكتاب تطالعنا صورة (سرحان) رمز الأسير السجين الذي يرسم بما تبقى له من اظافر خيوطا صاعدة هابطة على جدران الزنزانة وحين نرى هذه الصورة تطالعنا من جديد في الخطوط الصاعدة الهابطة التي ترسمها نسمة تهب هونا على وجه الماء، وتطالعنا مرة ثالثة في الخطوط الصاعدة الهابطة نفسها وقد نقشتها هذه المرة أدوات التعذيب الوحشية على جسد الأسير السجين، حين تتواتر الصور على هذا النحو المكثف سنشعر بالتأكيد أن تلك الخطوط الصاعدة الهابطة ليست على جسد الأسير الضحية وإنما هى قد أصبحت بجرة قلم -ولكن أي قلم - محفورة في وجداننا موشومة على جلودنا الحية ونحن حين نقرأ شيئاً من اعترافات (سرحان) في هذا الكتاب لا نستطيع ان نفلت من حالة الدوار الخفيف التي تهزنا بعد سماع قصيدة عظيمة يقول سرحان: بين الليل والليل فاصلة أتربص بها، تفلت من أطراف أصابعي وتسقط في الماء.
وهذه قطرة من دمي، أقدمها مساحة تفصل بين يومين فيتحولان إلى عهدين.
قطرة دم واحدة منذ هذا التاريخ، تجعل اليوم الذي يسبقها عهدًا ينزل إلى الماء لا يغتسل، بل ليغرق، وهذه قطرة أخرى أقدمها لكي لا تبقى الخارطة ورقا بلا نبات وجداول، وهذا دمي كله أصبه للشجرة التي ما زالت نائمة في التراب فثبتت الشجرة وأتحرر من دمي القديم الذي جاء من القمح الكندي والجبن الهولندي قابل من شئت من الشعراء في هذا الكتاب من (اونيس) إلى (يرواد) واقرأ فيه ما شئت عن تحالف الطغاة مع الغزاة وعن الحرية الزائفة التي تدعيها أمريكا شعارًا لها أو ترتديها قناعا وعن حرب أكتوبر 1973 التي كسرت غرور إسرائيل وهزت ثقتها في نفسها حتى وان لم تحقق للعرب النصر الكامل المنشود وعن .. وعن ..وعن.. لكن لا تدع الأهم يفلت من بين يديك، الأهم هنا هو الأسلوب الجديد الذي طوره درويش وعبّد به طريقا جديدة في الكتابة النثرية، أنها كتابة تتماهى مع الشعر أحيانا وتتغلب عليه أحيانا وتخرج عنه أحيانا لكنها في سائر الأحيان تعلن عن نفسها عروساً رشيقة جذابة فاتنة عذراء حوراء نجلاء عروسًا تغار منها عرائس الشعر وتغبطها، وأنا أحيل القارئ هنا إلى لوحات شعرية مفعمة لا يملك المرء إلا أن يطعن في شرعية انتسابها إلى النثر الذي عرفناه وألفناه، أحيل القارئ مثلا إلى اللوحة التي ابّن فيها الشهيد (غسان كنفاني) ص18 أو إلى اللوحة التي أبّن فيها الشهيد (كمال ناصر) واختتمها بقوله ما أجملنا شهداء .... وما أقبحنا لاجئين! ص 13 واللوحات الفاتنة الباهرة كثيرة بطول الكتاب وعرضه أنها طريقة درويش الجديدة في تمويه النثر بما يشبه الشعر أما الكتاب الثالث (ذاكرة للنسيان) فهو درة الثالوث واقنومه الأسمى، إن طريقة درويش التي تبلورت في الكتاب الثاني نمت ونضجت فأصبحت في الكتاب الثالث بلورة صافية تخلب الألباب، كل شئ موظف ليجلو هذه البلورة ويجعلها تشع في كل اتجاه فمن التناص مع الكتب المقدسة إلى التناص مع التراث الشعري والنثري، مثلا (الكامل في التاريخ) لابن الأثير و (البداية والنهاية) لابن كثير إلى التناص مع تراث الشاعر نفسه منذ سجل (أنا عربي) إلى قصيدة (بيروت).. النصوص كلها موظفه لصالح هذه البلورة الصافية النثر يخدمها والشعر يسهر عليها وينازع ليستأثر بنسبتها إلى نفسه وليت المقام كان يتسع لنماذج من الصفحات الفاتنة التي توحد فيها سحر اللغة بالخيال الفينو مينولوجي الطليق خاصة ما كتبه درويش عن القهوة والماء لقد خدعنا محمود درويش برأيه المعلن في قصيدة النثر حين أعلن أنه ضدها، ولكنه يخشى المافيا من اتباعها فاذا به يقدم لهذه المافيا اجل خدمة واعظم معونة ففي ذاكرة للنسيان من الكنوز النثرية الشعرية ما لا نكاد نجده في دواوين شعراء النثر كافة.


مصر

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved