الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

تحديق في الجدارية
محمود درويش.. دُوار الشعر
محمد علي شمس الدين

منذ (هي أغنية هي أغنية)، بدأ يغادر محمود درويش يقين الذاكرة (عن الوطن والأرض، والحبيبة، والعودة،... الخ) وينتابه دُوار الشعر، وهو الخدر الجميل الغامض والمؤلم، والذي لا يُسمى، والذي يضرب الشاعر كمرض، ويضرب قارئه به، فيدخلان في الدوار، وهو الدوخة التي تضرب الرأس من شدّة الدوران أو علو المسافة، والمرارة المتأتية مما يشبه الرحيل أو يشبه الخوف من البحر، ولا بدّ لهذا الألم أو الغموض أو الخوف من إنشاد، وفي مجموعاته الشعرية من (هي أغنية..) مروراً بلماذا تركت الحصان وحيداً وصولاً إلى الجدارية، يظهر درويش مشمولاً بمن سماهم هو في (الجدارية) (المرضى الغنائيين) الذين تضيق عليهم الأرض، وهم أشبه ما هم بأجمل غريق في العالم الذي وصفه غابرييل غارسيا ماركيز: إنهم زمرة من الشعراء والعشاق والحالمين، مثلما هم أحفاد الشياطين المساكين المجانين الذين (إذا رأوا حلماً جميلاً لقنوا الببغاء شعر الحب فانفتحت أمامهم الحدود)... وهذا الدُوار الغنائي لا يستقيم كثيراً في مجموعته الأخيرة (كزهر اللوز أو أبعد) العام 2006م حيث تعود الفكرة لتعمل عملها في قصائد الشاعر.
في الجدارية، وهي من أبدع أعماله، تظهر القصيدة خضراء عالية، وفردوسية، لكن في الوقت عينه، تطل عليه من بطحاء الهاوية: إنه فردوس جحيمي.. فردوس في الهاوية.. جحيم غير مكيف، وهو متلاطم في القصيدة في كل ثنائيات الوجود والمفردات: هاويته صعوداً.
من حوله بحارة ولا ميناء.. الواقعي هو الخيالي..الخ.. وهكذا يقود عربته الشعرية في جدال مثير وغامض في الأزمنة والأمكنة والهوية وفي الأدوار.. ووقت القصيدة المعلق بين الموت والولادة وقت موحٍ وعجيب يتفتح عن انخراط الوعي في اللاوعي، الشيء بالرمز، والشيء باللغة، والواقع بالمجاز، والمحسوس بالمجرد.. فنحن إذن هنا أمام (القصيدة- الدُوار) الشبيهة بذاك الفيلم الذي حضرناه في أيام الصبا بعنوان Vertigo ومثله جيمس ستيوارت وكيم نوفاك وأدهشنا في حينه من خلال الخوف والألم والجاذبية.. جاذبية المجهول.
وليس في الإمكان إبعاد هذه القصيدة عن سؤال مر وغنائي عن الهوية من خلال الحوار مع ظروف المكان والزمان اللذين عاش فيهما الشاعر، بما في ذلك التشرد، بما في ذلك التشرد والمتقى والوطن واحتمالاته، والطفولة المبددة والذكرى الناقصة.. والحوار بين الحلم والمتحقق.
فهي قصيدة فلسطينية إنما درويشية بإحكام.. أي كما يراها هو: (حبّة القمح الصغيرة سوف تكفيني أنا وأخي العدو - لعل شيئاً فيّ ينبذني- لعليّ واحدٌ غيري-.. وأنا البعيد أنا البعيد).
.. (من أنت؟ يا أنا في الطريق اثنان نحن وفي القيامة واحد.. خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى صيرورتي في صورتي الأخرى... ).
محمود درويش في الجدارية غائم.
فلسطيني لكنه ملتبس.
وجودي واقعي محبط.
لكنه يحاول توسيع سجنه بالقصيدة، وهو يشدُ فعل القصيدة - الغناء إلى حدود ميثولوجية كبيرة، تجعل الرعاة والمنقبين يكتشفون (البئر في الأغنية) -كما يقول- والعازفون عن الحياة يقعون على الحياة فجأةً (في جناح فراشة علقت بقافية..) وهو يقف منتصراً شاهراً القصيدة في وجه الموت الذي قهر الله عباده به فهنا القصيدة تقهر الموت الذي يقهر الإنسان.
يقول درويش: (هزمتك يا موتُ الفنونُ جميعها هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين مسلة المصري مقبرةُ الفراعنة النقوش على حجار معبدٍ هزمتك وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلودُ فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد..) وقصيدة درويش هي قصيدة الشاعر العائد من الموت على مركبة الشعر أو حصانه.
والمركبة والشعر والحصان (كلمة).. من أجل ذلك أتى نسيج القصيدة- الحياة نسيجاً أو شبكة من كلمات هي تقنية الشاعر وأداته وحيلته في ممارسة الحياة -القصيدة- الكلمات- الإنشاد...... ضدّ الموت والفناء.
ومن يرافق الشاعر في تهجئة القصيدة، سيبدأ معه من أول التهجئة، وهو في الوقوع على الاسم (اسمه: محمود) حيث تهديه إليه امرأة بيضاء في مستشفى.
والمرأة البيضاء في المستشفى حال ملتبس بين الموت والولادة.. في حين أن تسليم الاسم أو تلقينه لصاحبه هو البداية: أولى إشارات الكينونة وعلاماتها.
والاسم يتشكل من حروف: كلمة... ذلك ما سيعود الشاعر في آخر القصيدة لتفصيله والإلحاح عليه: (م... ح... م..و... د...) إذن، تبدأ مغامرة محمود درويش الوجودية والشعرية، (اللغوية) من النقطة الغبشية بين الموت والحياة.. بل من طرف الموت وأول الحياة..
وأين؟ نسأل ونجيب: في مستشفى.
(هذا هو اسُمكَ قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي) ينهض هنا في النص في بدايته (تسلم الاسم) اللون كمجاز، وهو اللون الأبيض الذي يلعب عليه الشاعر لعباً بارعاً: فالسرير أبيض في غرفة بيضاء في وحدة وحيدة بيضاء.. وحضور الأبيض هنا وتعداده: من الحمامة إلى الطفولة إلى الغمامة إلى البحر فاللاشيء فسماء المطلق فالأبدية التي هي (بيضاء..) هو حضورٌ مرتبط بذاكرة الدخول في سلام ما: إنه سلام الولادة أو الموت (سيّان)... أو القدم حيث الأبيض هو علامة ذلك كله.
وموقف محمد درويش لحظتذاك موقف واقف بين الموت والولادة واللاشيء أو العدم وهو موقف بين الوعي والغيبوبة.. (فلا عدمٌ هنا في اللاهنا- في اللازمان ولا وجود...).
إنما اللافت في هذا الانطلاق من الغيبوبة أو ما يشبهها هو أنه انطلاق يتشبث بحسّيات وأوليات ملموسة: الاسم- اللون الأبيض.. وانطلاق الشاعر المبحر أو الطائر من هذه المنطقة الملتبسة يجعله شبيهاً ببحار يخوض في بحر لجي هائج لا حدود له وليس قربه من منارة... والبحّار يتمسك بمجداف حقيقي وحسي لكنه مقذوف به في المطلق والمجهول..
ولعله أيضاً طائر في سماء مفتوحة ولا نهائية إلا أنه يملك ما لا يشكُّ فيه وهو جناحاه اللذان يخبط بهما في المطلق الوجودي ويخبط بهما خبطاً هندسياً وإنشادياً موثّقاً... إن تدوير المطلق على المحسوس والمجاز على الحقيقة والمجهول على المعلوم والعدم على الوجود يجعل من تجربة محمود درويش الشعرية في (الجدارية)، تجريداً مضمراً للحسية من ناحية، ومكشوفاً على غموضه من ناحية ثانية، ومركباً على أصل القصيدة- الوجود التي هي (كلمات).
وهذا الأمر من أعجب أمور الشعر الحديث، لا في العربية وحدها، بل في العالم.. وقد برع فيه درويش بامتياز.
درويش من أبرع اللاعبين بالكلمات.
هو يمسكها ويطلقها بقدرة قادر.. يفلتها من يديه كلاعب مدرّب شديد التدريب.
لا عب سيرك بارع بالكلمات هو. تندفع من بين يديه اندفاعات متعددة وخطيرة ويناور بها ويداور ويلعب ويبتعد حتى تكاد تحسب أنها أفلتت من يده أو فقد السيطرة عليها، لكنه ما يلبث أن يستردها... وفي هذا اللعب تظهر الكلمات وكأنها هي التي أخذت مداراتها وتداعياتها الأوتوماتيكية في ما يقترب من الكتابة الآلية التي تحدث عنها السرياليون.
إلا أن المؤكد هو أن الشاعر (كساحر) ما يزال يمسك بأصابعه أطراف خيوط الكلمات، حتى تلك الخفية الرقيقة الهوائية منها ومن ظلالها (بعبارة مالارميه) وأنه قادر على جذبها إليه في آخر كل نفس أو مناورة فالتقنية الدرويشية في كتابة القصيدة أو النشيد هي هذه: تقنية قائمة بين القصد والآلية، بين الوعي والغيبوبة، بين إعطاء الكلمات كامل حريتها في الحركة والمناورة والدوران، والإمساك بها بعصب مدرّب.
وهو يكتب كلياً القصيدة - الأناشيد.
وأساسها أو نواتُها ما نسميه (البيت- المقطع)، ويختار، أو تختار اللعبة الشعرية فيه، على الأغلب، الكلمة الجوهرية، الكلمة - النواة التي عليها وحولها، منها وإليها، ينتظم (البيت - المقطع) وتنتظم القصيدة في الإنشاد.
وهذه التقنية الدرويشية المحكمة، على سعة مسرحها، ولعبها المتمادي والمتناسل من ذاته إلى أبعد الحدود، تجعل قراءة الشاعر، بالنسبة إلينا على الأقل، متوقعة أو مقروءة.
نستطيع من أوائل الكلمات في القصيدة، التخمين بأكثر احتمالاتها ومساربها ومسارحها...
وحتى المفاجآت تبقى في حدود هذه الإمكانيات.. فإمساك محمود درويش بقوة ودراية طويلة بطرازه وإنشاده وتناسلات كلماته، وارتداداتها، تجعل منه من أكثر الشعراء العرب المعاصرين، صاحب أسلوب وتقنية.
فهو على سبيل المثال حين يختار نواة أو بؤرة أو كلمة (أعرف) للبيت المقطع التالي، يلعب بذلك ألعابه اللطيفة والمحتملة، بين السلب والإيجاب والتنويع والتفريد.. إلا أنه يبقى أسير فضائه أو تحت فضائه.
يقول: (أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف ربما ما زلت حياً في مكانٍ ما وأعرف ما أريد).
فالمعنى، وهو غالباً ما يكون ملتبساً لدى الشاعر، يترك نفسه متدافعاً في آلية المفردات، التي تتحرك بما يشي بأنها حرّة، إلا أنها في النتيجة لا تخون أو لا تستطيع أن تخون صاحبها ومطلقها (الشاعر) أو يخونها صاحبها منتظم في حلقة التباسه وإنشاده.
ومثل ذلك قوله أيضاً: كل نبضٍ فيك يوجعني
ويرجعني إلى زمن خرافي
ويوجعني دمي والملح
يوجعني
ويوجعني الوريد...
(وقوله):
(أنا من هناك هُنايَ يقفز من خطاي إلى مخيلتي أنا من كنتُ أو سأكون يصنعني ويصرعني الفضاء اللانهائي المديدُ...) وهكذ ا.. وهكذا.. بتلقائية، بولادات ميسرة ومنجزة ومكتملة يظهر درويش قدرة قادرة على الإمساك بأعناق الكلمات وتدوير زوايا اللغة بطواعية...
فقدرة درويش قادرة لدرجة تستدعي سؤالاً: لماذا؟ وأين مفاجأة الشاعر لنا ولنفسه؟... وربما هو، مع أدونيس، وسليم بركات وآخرين نعرفهم، من أقدر الشعراء العرب المعاصرين على التفريع والتدوير والشطح باللغة واللعب معها بانسجام تام بين أخذ ورفض وغمز ولمز وجناس وطباق ورمز وتورية.. وذلك لا يتأتى على الأرجح عن دراسة في قواميس اللغة (على الأقل بالنسبة لدرويش) بل عن سليقة وإحساس مبكر وفطري بموسيقى اللغة العربية، وزواج تمّ من الطفولة والصبا واستمر حتى اليوم بين الشاعر واللغة.
ومن شدة امتلاك درويش للغة، لا تشعر بأنها تشاكسه، أو على الأقل تحاول مثل هذه المشاكسة.
فهو ليس شاعر تأتأة أو لعثمة وليس مصارعاً لقرون الكلمات ونحس به وكأنه صارع هذه الثيران وصرعها.. وربما يرغب أحياناً في أن يكون صريعها، إلا أنه لا يستطيع.
ذلك ليس بيده، وهذه السمة تتجلى في كل بيت أو مقطع من قصيدة درويش: (هذه لغتي وهذا الصوت وخز دمي ولكن المؤلّف آخر أنا لست مني إن أتيت ولم أصل أنا لست مني إن نطقت ولم أقل)، (لو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد تُخضعني بحرف الياء عاطفتي......) وأنا الغريب تعبتُ من درب الحليب إلى الحبيب... يضيف الشكل يتسع الكلام.. أفيض عن حاجات مفردتي..
غبشُ التشابه بين بابين: الدخول أم الخروج ولم أجد موتاً لاقتنص الحياة ولم أجد صوتاً لأصرخ...
الوقت صفر فلم أكن حياً ولا ميتاً ولا عدمٌ هناك ولا وجود
وحين طار الموت بي نحو السديم أنا الفقيد أم الوليد ؟..
أستطيع إذن أن أقرأ الخريطة الجينية لقصائد محمود درويش الجديدة.
وفي تصوري إن شاعراً على هذه المقدرة من اللعب الواسع ، يصنع قصيدة مفتوحة على شتّى الاحتمالات وربما لا تبدأ ولا تنتهي، بل هو يعرف كيف يبدأ لعبه الشعري من جديد، وأن يقترح على نفسه مصائره.
يقول:
(سأصير يوماً ما أريد) ويطورها نحو صوت جماعي (سنصير يوماً ما نريد).
وبالإمكان تحميل هذين البيتين معنى فلسطينياً...
كما بالإمكان ما هو أبعد.
وفي جميع مصائره المقترحة على نفسه، بعد بدايته من الاسم، تراه حائراً بين لا ونعم.
تراه غبشيَّ الأحوال والكلمات والأقوال.
فاقتراحه على نفسه أن يكون طائراً ينتهي بالغياب وبالطرد في السماء.
واقتراحه على نفسه أن يكون شاعراً، يوقعه (هذا الاقتراح المزدوج) بين هنا وهناك وبين ما يصنعه وما يصرعه من فضاء.
واقتراحه على نفسه أن يكون كَرْمَاً أو كرمةً يجعله هدراً نبيذياً للعابرين.
وهكذا، وبعد أن يقترح على نفسه اقتراحات كينونته ويحاورها، نراها تتحقق بين يديه ثم تهاتر وتدور بين يديه دوراناً يجعل وجوده ومعها بلاده (فلسطين) من شدّة دورانه وانقلابه على ذاته وانتباهه للآخر (حتى ولو كان نصفه اليهودي في فلسطين) يتحول إلى كتلة مصمتة، أو مطموسة، أو ضائعة الاتجاه حيث ينصهر فيها كل شيء، المقيم والوافد والقاتل.
وهو أمر استوقفني طويلاً لدى محمود درويش.
أهو موقف مسيحي بمعنى انتصار الضحية من خلال احتضان الجزّار بوحدة دموية صوفيّة عجيبة؟ هذا المعنى لدى محمود درويش (وهو إنساني بوجهة نظر ما.. على كل حال) يجعل كينونته الشخصية والوطنية والوجودية في حال من الالتباس.
وحواره مع احتمالات كينونته الملتبسة يشمل رسمه واسمه وأهله ووطنه والوجود.
يحاور اسمه فيقول: يا اسمي سوف تكبر حين أكبر سوف تحملني وأحملك الغريب أخو الغريب.. ويطرح باسمه وعلى اسمه أسئلة حول المكان والزمان والبلاد والطفولة والهنيهة والوقت والذكرى.. إنما كل شيء لديه يموج في غسق يموج في غسقٍ.. إلى آخره.
واللغة تصوغ هذا الإنشاد المتلاطم لدى محمود درويش، في ما يشبه الدور المفتوح (لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى)... لم يبلغ الحكماء غربتهم ولم يبلغ الغرباء حكمتهم... ومن المرآة إلى الذاكرة ومن الولادة الأولى الرعويّة على أرض فلسطين إلى وقت التشرد والاقتلاع والتيه، يقول: (ولدنا في زمان السيف والمزمار بين التين والصبار... لا يصيغ قاتل إلى القتيل) ولا يتلو وصيته شهيد ومن الحنين إلى الأوليات والتواريخ القديمة (السعيدة) إلى الارتطام بمقولة أن الماضي (كالحاضر) و(المستقبل) لا يملكه سوى الأقوياء (على سلالات المدى)، يدرك درويش أنه لن يكون له شفاء من هذا (الأمل العضال). لكن نسأل: أمل ماذا؟ ولا تعرف.
أشعر أمام أشعار درويش بالإعجاب.
لكنني مقهور منه.
أحبه وأحب فنّه.
لكنْ في داخلي مسألة تقهرني في هذا الشعر.
إن محمود درويش في جداريته فلسطيني وجودي ملتبس.
فلسطيني (الراهن) والإحباطات وانكسار الأحلام وتوثيق الانكسار الفلسطيني بالمعاهدات.
ودرويش نصفان.. وأفهم معنى اليأس ونكهته العربية وكيمياءه الفلسطينية ومسوغاته العالمية، لكنني لا أفهمه كجنوبي.. ولم اعد أفهمه أيضاً وأنا أرى إلى تفجرات الدم الفلسطيني العظيم.. فحبل الوريد الحي لم ينقطع بين فلسطين والجنوب اللبناني، حسناً.. يندفع درويش اندفاعاً قوياً نحو القصيدة واللغة كخلاص من كل شيء.
وفي جميع أناشيده الوجودية والوطنية والذاتية، وبين اتساع العبارة وضيق المعنى، وانكسار الشعر بالنثر في آخر زمان، نرى الشاعر متلاطماً في نقائصه.. ما خلا موقفاً واحداً في (الجدارية) وهو موقف حديثه عن الموت.
فحوار درويش مع الموت يبدأ من قوله: (وأنا أريد أن أحيا فلي عملي على جغرافيا البركان...) وهو حوار عميق فذّ صادق وحارّ.. بل ومن أيم مالك بن الريب إلى محمود درويش، مروراً بأدغار ألن بو وأمل دنقل، يقف درويش متميزاً في هذا المقام.
إن هذا الحوار - ويا للمفارقة - يظهر وحده غير ملتبس في القصيدة، ويسلمه في النتيجة إلى اسمه وانتصاره، ويعود به إلى أول بدايات الكلام والحياة: تسلّم الاسم.. واسمي وإن أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرفٍ أفقية التكوين لي: ميم المتيّم والميتّم والمتمّم ما مضى حاء الحقيقة والحبيبة حيرتان وحسرتان ميم المغامر والمعدّ المستعدّ لموته الموعود منفيّاً مريض المشتهى واو الوداع الوردة الوسطى ولاء للولادة أينما وُجِدتْ ووعد الوالدين دال الدليل الدرب دمعة دارةٍ دَرَسَتْ ودوريّ يدللني ويُدميني وهذا الاسم لي = محمود = (م..ح..م..و..د ).
وانطلاقاً من امتلاكه لهذا الاسم يمتلك كل شيء: (الطفولة والمدن والذكرى والبلاد والسماء والأرض والوطن والمنفى والهواء الرطب والرصيف ومحلّة الباص القديمة وشيخه وصاحبه وصاحبته وآية الكرسي وآنية النحاس والمفتاح والحراس والباب والأجراس وحذوة الفرس وقصاصة الورق التي انتزعت من الإنجيل والملح من أثر الدموع على جدار البيت...).
وحين تراه وكأنه اكتسب كل شيء انطلاقاً من ذاته، يترك كل شيء للخسران بضربة واحدة: (أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل فلستُ لي أنا لستُ لي أنا لستُ لي...).
هذا عن الجدارية أما آخر مجموعات درويش (كزهر اللوز أو أبعد) (2006) فهو ديوان التأمل المّر والحكمة المقطوفة من إبر النحل وصفوة الرماد.
وله حديث آخر..


لبنان

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved