الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

أول شاعر سياسي عربي حديث
عباس بيضون

كنت من طائفة قليلة لم تتأثر بظاهرة شعراء الأرض المحتلة التي كانت حدثنا الأدبي يومذاك. اعتبرناها جزءاً من رطانة ثقافية وإيديولوجية شاملة.
لم يكن الباعث سياسيّاً فقد كنا قوميين أنصاراً للنضال الفلسطيني. لكننا نعتقد ان للثقافة والأدب تطلّباً أعلى من التعبئة ونبشاً وإعادة بث الكليشيه القومي والسياسي. ما كنا نبرِّئ الأدب من السياسة، لكن أدبنا السياسي يستفزنا بتصلبه وخطابيته ومحافظته وعاميته الثقافية والفنية فضلا عن قلة حساسيته وخياله وافتقاره إلى أي سؤال وبهورته وحريته المضحكة. كنا لا نجد في الشعر القومي والوطني العربيين سوى فن عليل.
أينه من شعر بابلو نيرودا الذي يخطفنا بقدرته على أن يستخرج من الموضوع السياسي خلجات ورؤى وأفكاراً نفاذة وحرة ونضرة، أينه من بعض شعر ناظم حكمت وبعض ايلوار وبعض ماياكوفسكي وبعض غييين وبعض البرتي وبعض ماشادو وأودن ويسينين. لدى هؤلاء نجد للسياسة دماً وفكرة وعصباً وانساناً حاضراً. لم نتأثر بظاهرة شعراء الأرض المحتلة.
وجدنا في أغلبها عربدة لفظية وأبواقاً خطابية وحربية وزجلاً شعبياً. الأغلب ان ما سُمّي الشعر الوطني كان تلك الآونة قاصراً عن السياسة قصور الخطاب القومي والوطني عنها وعن الحاضر وعن الثقافة والتجديد. كان علينا أن ننتظر وقتاً حتى يُفرد الزمن محمود درويش من جملة هذه الظاهرة وحتى نجد شيئا فشيئا تطلباً آخر ومغامرة ثانية. قد يجفل محمود درويش اليوم من تسييس مفرط لشعره لكن شعره يرينا ان العلة ليست في السياسة ولكنها في قصور سياسي وتخييلي وثقافي في أدبنا النضالي. أول فضل لشعر محمود درويش السياسي انه فعلاً سياسي.
أي انه ليس عراضة حربية وزجلاً وتحريضاً ومرجلة. شعر محمود درويش السياسي قادر على رد السياسة من الفخر القبلي والحماسة القبلية والخطابة الحزبية إلى الغناء. وهو لذلك قادر على رد الشعر من عموم كلامي إلى صوت خاص لا ينقل هتاف الجماعة أو تردداتها، لكنه يتمثل نداء الجماعة المفترضة ودراماها المحتملة وقدرها المتخيل.
أقول المفترضة والمحتملة والمتخيل عن قصد، فالجماعة التي يتمثلها درويش أو يعيد خلقها هي هنا الجوقة التاريخية والنشيد الجماعي الذي يتصاعد قبالة القدر التاريخي. انها قائمة حيث التاريخ شكل ونشيد ومسرح. انها هنا حيث هي جوقة الشتات والآلام والانكسارات والأعياد الجامعة، وحيث هي الهجرات الدافقة وحيث هي المعسكرات والحروب الخاسرة والذكريات المخلوقة، حيث هي المسيرة الملحمية العامرة بالتمزقات. الجماعة اذن هي الخلق الملحمي لمحمود درويش وهي اسطورته وهي مخيلته التاريخية.
من ذلك نعرف ان شيئا أبعد من الحشد والتظاهرة والخطاب الشعبي يتراءى في شعره. السياسة في شعر درويش ليست الحرب. ان ما يعرف بالشعر الوطني هو بالدرجة الأولى شعر حربي. قصيدة محمود درويش هي تماما في المقلب الآخر. ليست نفيراً لتعبئة الصفوف ولا ارتجازاً لتحريض المقاتلين. انها اذا جاز أن نبقى هنا في جو الحروب شعر الهزيمة. اذا افتقدَت قصيدة درويش شيئا فهو الانتصارات. درويش دائما في مشهد ما بعد المعركة. انه هنا بنفس شبه ويتماني ليواسي المهزومين. لا ليواسي فقط ولكن ليتقمص هزيمتهم. انه يغني المعارك الخاسرة، يغني بالدرجة الأولى المعارك المنذورة للنسيان، الآلام المهجورة والمهملة، العذابات المدفوعة بلا ثمن، الخسائر التي لن تعوض. انه هنا من أجل هذه الذاكرة السلبية التي لن تعود. القصيدة حاضرة من أجل هذا التاريخ الأسود والممحو.
ها هنا لا نجد الجماعة المحاربة الظاهرة المرصوصة المتجانسة الموحدة. اننا نجدها ممزقة مشتتة مهجورة منبوذة. لنقل إن مشهد ما بعد المعركة هو مشهد سلمي وثقافي وعالمي أيضا، فهنا نجد الأسئلة الكبرى، أسئلة النقصان والنسيان، أسئلة الغياب وأسئلة الخسارة الكينونية. هذه بالطبع أسئلة انطولوجية بامتياز.
في ما بعد المعركة نجد سؤال ما بعد الحرب، ما بعد الصراع، سؤال الذاكرة وسؤال الفشل الجوهري. في ما بعد المعركة نستكشف تفاصيل هي أيضا ذخيرة المهزومين. نكتشف زهرة وأغنية وركبة محبوبة وقهوة أم وغراماً عدوّاً. نستذكر غرفاً أثيرة وعناقات وموسيقى. نستذكر لحظات مهدورة وحباً لم يتم وحميماً ذاهباً وإشفاقات بلا حدود واعتذارات وشكراً وانساناً صغيراً وخلجات ضائعة. لعل ما يكمل ذلك وربما يلخصه أن نقول في شعر درويش انه شعر المراثي. المرثاة لا بالمعنى الحرفي للكلمة ولكن بالمعنى الأنطولوجي. شعر درويش هو هذه المراثي التي تقيم نبضاً للبطولة المكسورة كما تقيم حضوراً شاحبا لتاريخ موؤود كما تستدعي انكساراً كيانياً.
هكذا تتحول فلسطين في شعره إلى عنوان متعدد الاحتمالات. انها الآن مركز مشع لشبكة من المعاني، بل هي مركز مشع لإسطورة كونية. ليست فقط أوذيسة جديدة لكنها أيضاً اشارة لتاريخ مفقود ولنقصان محتوم ولخسارة أكيدة. اشارة لإيتاكا أخرى ولذاكرة منقوصة ولتاريخ معطوب. اشارة لحياة وأنواع مفقودة.
تتحد مع الأندلس الضائعة وأميركا الهنود الحمر. في النهاية يبقى الشاعر ليكمل أغنية عن رحلة انتهت على نحو ما، عن وطن يغدو أكثر فأكثر وطناً للروح وللتاريخ وللقلب الإنساني. يحسن محمود درويش أن يفعل ذلك.
هكذا نعثر على شاعر سياسي حقا. شاعر يدخل إلى السياسة من حيث هي قدر انساني ومن حيث هي محتدم تاريخي ومن حيث اختبار شخصي ومن حيث هي خريطة عالمية ومن حيث هي احتجاج جوهري وخسارة انطولوجية.
يدخل إلى السياسة كبوّابة على الثقافة والتاريخ والمغامرة الإنسانية، ويحمل فلسطين لتكون أكثر من عنوان قبَلي. لتكون استعارة كبرى مفتوحة على بحر من المعاني، ولتكون اسطورة خاصة.
مع ذلك فإن الشجن الفلسطيني أخّاذ في شعر محمود درويش، بل نحن لا نجد فلسطين التي طبعت تاريخنا الراهن المأسوي في شعر كما نجدها في شعره. انها تنحلّ وتذوب في شعر درويش لتغدو حساسية وشفافية ورقة خالصة، ولتغدو أيضا مغامرة الإنكسارات الثمينة التي يلمها محمود درويش ليقيم منها ايقونة، واذا كان شعر محمود درويش قد فارق نسبيا الموضوع الفلسطيني فلأن فلسطين المكتوبة مرة بعد مرة في شعره لم تعد عنوانا بل غدت اشارات مفرّقة مبعثرة. لقد انكسر الإطار وخرجت الإشارات والتفاصيل. ما صنعه محمود درويش للسياسة صنعه في الشعر وللشعر.
لقد وسّع الحيّز الشعري بل أوجد في محاولته رهانات أخرى للغة وللفكرة. دعك من الذين يخافون من السياسة أو يتوجسون من الإثم السياسي. براءة كهذه لا تصلح للشعر ولا للشعراء، اذ الشعر لا يحظى ببراءته بالهرب من الاختبار بل بالوقوع فيه.
لنقل ان الموضوع الفلسطيني في شعر درويش كان ذريعة لعالم كامل. لنقل ضد كثيرين، ان محمود درويش لذلك أول شاعر سياسي في ثقافتنا الحديثة.


لبنان

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved