الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

كلمة في لغة..ولغة في كلمة!!
هلال الفارع

لن تجد شاعراً احتل مساحة في ذاكرة الشعر الحديث أكثر من تلك التي احتلها محمود درويش، أو فرض عليها لون وطعم الكلمة، مثلما فعل.. ولن تجد بيادر أرحب ولا أغنى من بيادر درويش التي ملأها حصاداً ذهبي السنابل التمعت به عيون القراء على اختلاف ألسنتهم، وانتشت بموسيقاه آذان جمهوره الأعرض على اختلاف عناوينه.. ولن تجد أرضاً جرّدت لساناً أجمل من الوردة، وأمضى من السيف، مثلما فعلت فلسطين؛ المكان والإنسان!
على مدى ستة عقود، وقف محمود درويش بقامته النحيلة في وجه الريح كلها، وبملامحه الوسيمة مع النسائم جميعها، وبقلبه المرهف مع جغرافية أرض مركزها قريته (البروة) من لواء عكا في فلسطين، وأقطارها كل خطوط الطول والعرض على هذه الأرض.. وقف بقلمه العالي في حدائق اللغة، وفي جحيمها، مرة منافحاً عن قضية وطن، ومرة مصالحاً عن عثرات أمة، ومرات مصافحاً قلائد الشعر، لم يهتف خلالها لأحد، ولم ينحن فيها لعاصفة.. وحده الوطن كان محج حنجرته، ووحده الإنسان كان منبت خيلائه، حتى إن المرء ليجزم أن درويش ولد وفي فمه كلمة في لغة، وبين يديه لغة في كلمة، وفي عقله وقلبه أفق واحد للعالم كله، هو الوطن!
قاتل محمود درويش بالكلمة من خلال قصائده كلها، ابتداء من عصر (سجل أنا عربي) مروراً ب(مديح الظل العالي)، و(عابرون في كلام عابر)، و(مأساة النرجس وملهاة الفضة)، وصولاً إلى قصائد مجموعته الجديدة (كزهر اللوز أو أبعد) وانتهاءً بروائع درويش التي أبدعها، والتي في طريقها إلى الإبداع.
وخلال هذه الرحلة التي لم يقف فيها في محطة دائمة، ولم يقل في ظل فكرة متسقة، ظل درويش يرى في نفسه ربيب الجمال في الشعر، وأستاذ الفعل في الكلمة، ومضى يعمل على فرز الشعر من ظله، وتخليص الذوق العربي وغيره من الاجتهادات التي كثيراً ما وقفت على حواشي اللغة، حتى وهو يهم (بإعدام قصائد كاملة له كان كتبها بحثاً عما أسماه الخلاص الجمالي من الأزمة التاريخية المعاصرة).. حتى وهو يعترف بأن عليه أن يعيد النظر في قصائد كتبها، وأخرى يكتبها الآن انطلاقاً من إيمانه بأنه (ليس للشاعر أن يقدم برامج سياسية للقارئ)، حتى وهو يفعل ذلك كله، يظل درويش قصيدة عربية أصيلة معنونة إلى الهزة في القلب العربي، وإلى الإنسانية في الضمير العالمي، بل إن شعراء كباراً ودوا لو أنهم يكونون آباء قصائده أو فقرات قصائده التي يود حذفها من نسبه، لأنها وحدها تكفي لتأطير شاعر متكامل الكلمة والتفعيلة والفكرة!
ويظل هاجس محمود درويش كتابة الشعر الذي لم يكتب، وصناعة اللغة التي تتعدى حروف الهجائية المتعارف عليها بين الشعراء، وهو في تعاطيه الشعر لا يبحث عن الدهشة المجردة، بل يحب دائماً أن يمزجها بالمفاجأة، وأن يوشيها بالجميل، بل بالأجمل من الثياب، في سياق يتعدى السهل الممتنع، ليتزيا بالممتنع السهل، وبالممتنع الممتنع!
من هنا كانت تسمية محمود درويش بشاعر القضية الفلسطينية تحجيماً لشاعريته، أكثر منها تكريماً لمكانته، فهو شاعر الشعر، أكثر من كونه شاعر الغرض.
في مقابلة شعرية أجريتها مع الشاعر محمود درويش في جريدة (القبس) الكويتية منذ سبعة عشر عاماً قال في جوابه عن سؤال: ماذا تتمنى أن تكتب: أتمنى لو أن الشعر كله قصيدة واحدة، أكتبها وأستريح، مثلما أتمنى أن أكتب نشيد فلسطين الأخير!
هذه مواصفات الشاعر الحقيقي إذن؛ البحث عن القصيدة التي لم يكتبها أحد بعد، والتي مات دونها الشعراء، وهذه هي حقيقة درويش الشاعر الذي لا يرى نفسه بالعين ذاتها التي يراه بها جمهوره الكبير، ويعرف أكثر من غيره أنه معماري لا يلقي إلى الأفق أياً من هندسياته إلا إذا قرأ ذلك التآلف الخاص بين بناياته اللغوية وأفق العالم كله من حيث اللون والطعم والنضوج.
من الصعب جداً الحديث عن محمود درويش الشاعر دون قراءة التاريخ والسياسة والثقافة والحلم، ودون وضع الخرائط الجغرافية كافة مرة واحدة على الطاولة، وتتبع الحدود الثابتة والمتحولة لتلك الخرائط، وفي مقدمتها خارطة فلسطين التاريخية والمستحدثة، فلسطين ما بين البحر والنهر، وفلسطين ما بين الخاصرة والذاكرة، سواء أكان هجرها درويش أو هاجر منها، أو هُجّر عنها، لأن هناك فارقاً كبيراً بين الغامض والمجهول في مسألة الرمز الشعري، ومثله بين المكتوب والمطروح في مسألة الفكرة المموسقة، مثلما أن هناك بوناً شاسعاً بين من يكتب الشعر، وبين من يكتبه الشعر على الورق، أو في ثنايا الخاطر الذي كثيراً ما يعجز عن الإفصاح والتعبير.
من الصعب جداً الحديث عن محمود درويش الشاعر، بل من المغامرة أن يتحدث أحد عنه، لأن ذلك يجبر على الدخول في النقد والإطراء والفلسفة والحداثة والهجرة والردة والعودة والموت والحياة والبعث والتصوف و... و........ إلى ما لا نهاية، لأن محمود درويش ظاهرة قد لا ينتهي الحديث حول تفسيرها، أو الاتفاق عليها - على الأقل - ويكفي أنه لا يختلف اثنان، في أي مكان كان، على أن درويش شاعر أوجد بالتوازي مع شعره جدلية متحولة، لكنه يظل شاعراً خارج نطاق كل الجدليات.


فلسطين

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved