الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش.. شعريّة أخرى
منصف الوهايبي

لا أضع العنوان هنا جماعا لقول فرغت منه أو تأليفاً لمفكوك خطاب تقطّعت بي السّبل بين تمفصلاته؛ وإنّما ألقي به (ضربة انطلاق)، بلغة الرّيضيّين. (ضربة انطلاق) أجريها في كلّ مرّة يشتدّ بي فيها لهاث التّفكير أو التّخييل أو القول وأحسب أن لا ضير في ذلك وقراءة اللّوحة التّشكيليّة تعلّمنا أنّ القراءةَ ليست بالضّرورة خطّيةً في الزّمان، وتنبّهنا إلى أنّ إنشائيّةَ اللّوحةِ ليست أيضاً منجزَ زمنيًّةٍ خطّية؛ وإنّما لها زمنيّة تراوح مكانها أي نعم يخبرنا الرّسم أنّ هناك مكاناً للزّمن! بالعنوان أعود إذن في كلّ مرّة إلى مكاني إلى نقطة الانطلاق ولعلّي لا أبرح قاعداً فيها ولو بدا أنّي متباعد عنها.
والعنوان هنا يسم محمود درويش بشعريّة أخرى؛ وهل من شاعر دون شعريّة أخرى؟! فالأجدر إذن أن أقول شعريّة أخرى تماما. وحتّى أتجنبّ مكرور البداهات؛ فإنّه لا بدّ من هذه ال(تماما)؛ وذلك للوضع المفارقيّ الذي تتنزّل فيه شعريّة درويش فهي تتناضج داخل الخطاب الشّعريّ العربيّ الحديث وتسير في نفس الوقت إلى جانبه. تتناضج داخله لا لكونها تنتسب إليه نَسَبَ اللّغة وإنّما لكونها أمارةً دالّة على إعادة تشكيله داخل لغته؛ أعني أنّ شعريّة درويش لا تُحدّ بالقول إنّها تجدّد اللّغة العربيّة في منحاها الجماليّ من حيث هي تَستكتِب بها تجاربَ جديدة؛ وإن كانت كذلك في معنى من المعاني - وهذا القول يظلّ على أيّة حال مستوى أوّل في التّعاطي مع هذه الشّعريّة فضلا عن كونه ينسحب على شعريّات عربيّة أخرى محدثة ومعاصرة لشعريّة درويش - وإنّما أعني أنّها تُحدّ بأنّها أكثر من أن تقول نفسها باللّغة العربيّة وإنّما تقول نفسها في اللّغة العربيّة؛ فالشّعر الحقّ - وأنا لا أتصفّى هاهنا مفهومه أو أتسقّطه، فذاك مطلب عزيز جدّاً وله سياقات أخرى غيرُ ما أنا بصدده وإن كنت مستحضراً لا محالة مفهومَه بحسب ما تقتضيه منّي هذه الشّهادة - إنّما هو لغة أخرى داخل اللّغة فما عساها تكون هذه اللّغة الأخرى؟ إنّها بكلّ بساطة شعريّة الشّاعر أي تلك تجلّت قصائد مفردة هنا وهناك وما زالت بعدُ. ولا يمكن أن نقول هذه اللّغة الأخرى إلاّ بما قالت به نفسها لا يمكن أن نقول الجداريّة إلاّ كما عُلّقت الجداريّة ولا يمكن أن نتساءل لماذا تركت الحصان وحيداً إلاّ كما طُرح التّساؤل ولا يمكن أن نندسّ في سرير الغريبة إلاّ كما تمّ الاندساس فيه ولا يمكن أن نقيس ما هو أبعد من زهر اللّوز إلاّ كما تمّ قياسه ولا يمكن قبل ذلك أن نتشمّم أوراق الزّيتون إلاّ كما تمّ تشمّمها أو نهدي أغنيات إلى الوطن إلاّ كما تمّ إهداء تلك الأغنيات... ولا يمكن لغير ذلك أن يتمّ إلاّ كما تمّ غير ذلك وكما سيتمّ لما آمله من اقتدار لدى درويش ولما أحمل له من محبّة.. ورغم ما يقتضيه تشقيق هذه الفكرة من ثقل عبارة وتوحّش أسلوب فإنّي لا أرى بدّاً من ذلك فأواصلها قائلاً: لا يمكن إذن أن نقول هذه اللّغة الأخرى إلاّ بما قالت به نفسها؛ بل لا يمكن أن نقولها نحن وإنّما هو؛ هو الذي يعلّق الجداريّة وهو الذي يسأل لماذا تركت الحصان وحيداً وهو الذي يندسّ في سرير الغريبة وهو الذي يقيس ما هو أبعد من زهر اللّوز وهو الذي يتشمّم أوراق الزّيتون وهو الذي يهدي أغنيات إلى الوطن وهو الذي أتمّ غير ذلك ممّا أتمّ من شعره وهو الذي سيتمّ أيضاً غير ذلك ممّا سيتمّ من شعر.. وأين نحن من هذا؟ نحن في الطّرف الآخر؛ في طرف الأستيطيقا بما هي تعني - في ما تعنيه - فعل التّذوّق (تلك هي الدّلالة التي حملها مصطلح الأستيطيقا على يد بومغارتن Baumgarten حوالي 1750). وحتّى هذا النّحن لا يجوز لي أن أتحدّث عنه فأنا لا أعرفه وإنّما أحاول أن أتقصّى موقعي أنا قبالة نصّ درويش. ولمّا كان هو الذي ينشئ هذا الذي أنشأ وما زال بعد فهو الشّاعر من جهة نسبه إلى شعره ومن جهة نسب شعره إليه؛ ولمّا كان كلّ منهما لا ينفصل عن الآخر فإنّ تأويلا يغريني بالقول إنّه جهة من جهات المفهوم لكن جهة تنبض بالحياة بعد فعندما ألتقي درويش في تونس أو القاهرة أو الرّباط أو فلسطين، إنّما ألتقي المفهوم وأجالسه وأحتسي معه القهوة.. الشّعراء الحقيقيّون مفاهيم للشّعر كما الرّسّامون الحقيقيّون مفاهيم للرّسم كما الفلاسفة الحقيقيّون مفاهيم للفلسفة منهم من قضى نحبه فهو المفهوم أثراً ومجرّداً ومنهم من لايزال على قيد الحياة فهو المفهوم حضوراً ومجسّداً. كيف يقول درويش شعريّته في اللّغة العربيّة؟ أفليست تلك اللّغة الأخرى شعريّة الشّاعر؟ حتّى نتبيّن كيف تكون الكتابة الإبداعيّة لغة أخرى في اللّغة فإنّه يحسن أن نستعير لها الصّورة التّالية؛ صورة الحيّز أعني ما يحوز أعني ما يكون قابلاً لأن يكون فيه شيء ما فاللّغة هي الحيّز وما فيه هو الشّعريّة. ولمّا كانت لغة مثل العربيّة متروكة لتفقير ما فتئ يتأكّلها و(يقلّص) من حجمها والتّقليص من حجم اللّغة يعني أن تنكمش اللّغة وتضمر أن تنكمش الصّرّة التي حملها الإنسان على ظهره وطفق يضع فيها مفردات العالم التي تتحوّل في هذه الصّرّة إلى زاد من الرّموز يقطع به رحلة الوجود؛ الرّموز بما هي علامات وأمارات وإشارات وصور أشياء أو انطباعات عنها وحتّى دلالات ومعان.
والشّاعر الحقّ هو الذي يجيد التّعامل مع ثنايا اللّغة أي طيّات هذه الصّرّة يجيد طرحها وثنيها؛ يطرح الذي جعّده الكمش وشوّه مرآه، ويطوي أو يثني ما شطّ به البسطُ حتّى كادت تتمزّق حواشيه - وأنا أنوّع هاهنا بحسب الاقتضاء على مقولة الطّية Le Pli لدى جيل دولوز G. Deleuze - هكذا تقيم لغة في اللّغة أو هكذا أحسب الأمر، أوهكذا يتهيّا لي.
وشعريّة درويش إذ تتناضج في هذه اللّغة وحصراً في الخطاب الشّعريّ العربيّ الحديث فلكونها ترقّق ما اخشوشن من نسيج هذه اللّغة بفعل ادّعاءات البلاغة فإذا بها تستدعي المتنبّي في غير سياق البطولة والفخر وإنّما في سياق الضّعف البشريّ الجميل؛ الضّعف الذي يذكّر الإنسان بأنّه ما زال إنساناًَ بعد. أو تستدعي مقبل بن تميم وتلتقط حجره الجاهليّ النّابت في ذلك (الضّديد) Oxymore العجيب - على بساطته - حيث تتلاقى كلمتان متعارضتان (الحجر (و) طيب العيش) وتتزاوجان في تعارض صارخ وتتكلّمان بلسان واحد: الفجيعة بالزّمن. تلتقطه لغة درويش لتلقي به في ماء الميثولوجيا الفلسطينيّة الحديثة. وقد سبق أن قلت في شهادة أخرى بشأن درويش إنّه وإن كان يستنبت نصّه في تربة الميثولوجيا الفلسطينيّة فإنّ نصّه يفيض عن هذه الميثولوجيا فنرى فيضه يغطّي سرير الغريبة بل ويصل إلى أبعد من زهر اللّوز.
هذه اللّغة إذ تتناضج في هذا الخطاب الشّعريّ العربيّ الحديث فلكونها تمتّن ما بلي من نسيج هذه اللّغة وكاد يتمزّق بفعل الفصل المريب بين نظامي الشّعر والنّثر. وأحسب أنّ درويش قد فلح أرض الشّعر فلحا آخر؛ فلحا يُجري مياه النّثر في هذه الأرض. وهذا نفس (الحلّ - الحيلة) الذي ما فتئ الفكر البشريّ يلتجئ إليه كلّما ضاق عليه نسق من الأنساق؛ نسق هو في الأصل مِن تخيّره هو. وأعني بالحلّ- الحيلة التجاء النّسق أو الخطاب إلى آخَرِه إلى خصمه يستمد منه عناصر قوّته ويتغذّى بها. هذا ما نتبيّنه في الفكر البشريّ وهو يتعيّن فلسفةً حيث العقلانيّة تضيق ذرعاً بصرامة العقل فتنفتح على التّجريبيّة. وهذا ما نتبيّنه في الفكر البشريّ وهو بستغرق في المقدّس إلى حدّ الرّهبة التي لا بدّ لها من أن تتليّن وليس لها ما تتليّن به غير الفنّ من جهة كونه يجعل المدنّس يَمْثُلُ جميلا. وهو أيضاً ما نتبيّنه في الفكر البشريّ وهو يتورّط في ثنائيّة الأنا والآخر فإذا به لا يخلص من هذه الورطة إلاّ بمصالحة بينهما يصون فيها الأنا إنّيته من التّلاشي... وغير من ذلك ممّا يتجلّى فيه الفكر البشريّ من الأنساق والخطابات التي كلّما ضاقت على أصحابها توسّعوا إلى ما يضادّها من الأنساق والخطابات أو ما استقرّ في الفكر البشريّ على أنّه ضدّ؛ توسّعوا إليها دون أن يتخلّوا عن استخدام أدواتهم التي ألفوا استخدامها. والأداة هي نفسها وغيرها في نفس الوقت؛ وهي غيرها إذا ما اسْتخدِمتْ في غير ما أُلف استخدامُها وهذا الاستخدام الآخر هو الذي يكسبها معنى لم يكن لها من قبل؛ فإذا هي عندئذ تتجدّد كمثال العصا يُهشّ بها على الغنم ويمكن استخدامها أيضا لإبعاد حجر من الطّريق أو غير ذلك... وإنّ شعريّة درويش وبخاصّة في تجلّياتها الأخيرة لعلى نفس الطّريق: تنفتح على النّثر لا لتقوله نثرا وإنّما لتقوله شعرا؛ وإن كانت تقوله في نفس الوقت نثرا لكنّها لا تقوله كذلك وهو في موضعه المألوف وإنّما في غير موضعه كما الأشياء في غير سياقها المألوف. لكن كيف يفلح درويش أرض الشّعر بالنّثر؟ ما زالت قصيدة درويش (قصيدة تفعيلة) - على قلق هذه التّسمية الفجّة - والتّفعيلة هي ها هنا من جهة القياس أداته المألوفة؛ لكنّه ما كفّ بها هو وغيره عن قول عمود الشّعر من أجل أن يقولوا بها القصيدة الحرّة، دون أن تكفّ هي عن أن تكون تفعيلة ولكنّها تفعيلة في منظوريّة perspective جديدة باصطلاح فلاسفة الفينومينولوجيا إذ يتلفّت بها ناحية النّثر فيطعّم قصيدته بسرديّة خاطفة أو مطوّلة وبمفردات اليوميّ والمعيش، ويخلّصها من الإسراف في التّنغيم دون أن يمنعها ذلك من أن تكون نصّاً شعريّاً إنشاديّاً. إنّ ما نسمّيه (قصيدة النّثر) - على قلق التّسمية أيضاً، والغريب أن نحتفظ بها نحن العرب، على حين أهملها واضعوها من الأروبيّين، إذ وجدوها غير لائقة بهذا الشّعر المكتوب خارج الأوزان المأثورة - يمكن أن يكتب داخل الوزن أو الإيقاع، كما نجد عند سعدي يوسف مثلاً أو عند درويش في مجاميعه الأخيرة حيث تتخفّف (الشّعريّة) من شعريّتها أو ما زاد منها على الحاجة أو من فضل القول بعبارة أسلافنا. فدرويش يكتب (قصيدة النّثر) بامتياز ولكن في حدود شعريّته الخاصّة!
***
قلت في مستهلّ هذه الشّهادة إنّ شعريّة درويش تسير أيضاً إلى جانب الخطاب الشّعريّ العربيّ الحديث استكمالاً للمفارقة التي تراءت لي في تجربته حيث هي من جهة أخرى على ما كنت أذكر تتناضج ضمن أفق الشّعريّة العربيّة عموماً والمحدث منها تخصيصاً. إنّها تسير إلى جانب هذا الخطاب لكونها اختراقا لما استقرّ مفهوما للشّعر عند العرب المحدثين بعد أن ظنّوا أنّهم استوفوا نقلة الشّعر إلى القصيدة الحرّة وحتّى إلى قصيدة النّثر؛ كأن هي صدى لما مثّلته شعريّة أبو تمّام من اختراق لما استقرّ مفهوما للشّعر عند العرب االقدامى. إنّها تسير إلى جانب الشّعريّة العربيّة الحديثة وهي أيضاً منتسبة إليها لأنّها قد خطّت لنفسها كلاسيكيّتها ضمن تاريخ الشّعر العربيّ.، بل هي تقتحم تلك المناطق التي لم يقتحمها كثير من شعرنا، لتعقد شوابك قرابة بينها وبين الشّعر العالميّ، في نماذجه الأحدث، كما قال لي غير واحد من أصدقاء أجانب قرؤوا درويش في لغتهم الأمّ. أعني ب(النّماذج) تلك التي تتمثّل مراسم (الكتابيّة)، وتضيق بالمعنى الأوحد، وتفتح في غير موضع ما يسمّى نشوة الكلام في (اللاّمعنى)، وهي عند درويش مواربة محجّبة تفسح المجال رحباً للّغة كي تتكلّم عن ذاتها بذاتها ولذاتها حيث تلوح الأشياء وكأنّها تستأنف لحظة ميلادها أو هي تستعيد طزاجتها وسرّ دهشتها، ومثال ذلك هذه المجاميع الثّلاثة الأخيرة: (لماذا تركت الحصان وحيداً؟) و(لا تعتذر عمّا فعلت (و) كزهر اللّوز أو أبعد). ومهما يكن فالشّعر نصّ كونيّ، أو هو( اللّغة الأمّ للجنس البشريّ)، ونحن لا نقع عليه في ثباته الفنّيّ أو ما نتوهّم أنّه ثبات وأصل، وإنّما هناك حيث يضرب بجذوره في هذه (اللّغة) التي تمنحه الثّبات والصّلابة أعني اللّغة التي تنهض في الشّعر بوظيفتها الأساس: التّسمية.
والمقصود بها هذا (الهواء) الذي يلفّ كلّ شيء، ويتضمّنه ويخترقه، بعبارة (إبسن) الجميلة، والإنسان إنّما يتنفّس هذا الهواء، ويتنفّس كلّ ما يدور به. ومن ثمّ يغدو التّنفّس مسموعاً عند الزّفير حيث الأصوات تحوي أسماء الأشياء، كما يقول إبسن. واللّغة، إذ تسمّي، لا تختلف من حيث الدّوام والاستمرار، عن التّنفّس والزّفير، بل هي شأنها شأن هذا الهواء، كلّية القدرة والوجود.


تونس

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved