الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش: التعاقد الشاقّ والخلاق
صبحي حديدي

يحتل محمود درويش موقعاً فريداً قلّما حظي به شاعر في الثقافة العربية الحديثة، ولا يُقارن نفوذه الأدبي إلا بالنفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء العرب في أطوار ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بضمير الأمّة المفوَّض، والناطق المعبّر عن كيانها، ورائيها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة أو حتى تلك التي ما تزال كامنة في المجهول. ولقد تكررت في ثقافات الأمم تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر واحد مهامّ كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة؛ واستشراف أقدارها في السموّ والانتصار كما في الانكسار والهزيمة؛ وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية. ولقد توفرت لدرويش أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أن كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري كحصيلة متطوّرة متكاملة، كما حدث أحياناً أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول.
لكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.
وفي طليعة الأسباب الموضوعية يأتي انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت قد تطوّرت في فلسطين المحتلة مطلع الستينيات على يد شعراء مثل توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران ودرويش نفسه، واكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967 فأطلق عليها تسمية (شعر المقاومة) في غمرة الحاجة الماسة إلى بدائل خَلاصية تخفف وطأة الاندحار وتعيد الأمل إلى روح تعرّضت لجرح عميق. ورغم أن هذه الحركة الشعرية لم تكن منفصلة عن التيارات العامة في الشعر العربي آنذاك، فإنها مع ذلك حملت نكهة خاصة مختلفة، نابعة جوهرياً من موضوعات ذات حساسية وجدانية (الأمل، المقاومة، الأرض، الهوية الوطنية)، وكذلك من أشكال في التعبير لم تكن مألوفة في الشعر العربي آنذاك. في هذه المرحلة كان شعر درويش جزءاً من (شعر المقاومة)، وكان يتطوّر ضمن المنطق ذاته والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة بينها غزارة إنتاجه (أصدر في الداخل خمس مجموعات شعرية بين 1960 و1971)، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحُسْن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أَسْطَرة الحدث اليومي والارتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانسية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.
ولقد أسفر ذلك كله عن مزيج ناجح من شخصية الفلسطيني الحاضر الحيّ والمقاوم، وشخصية الشاعر الذي تتصف قصائده بمستوى فنّي رفيع، فاجتذب درويش القارئ العادي والقارئ المثقف على حدّ سواء، وظلت أمسياته الشعرية بمثابة أعراس احتفالية يزحف إليها الآلاف. ومنذ هذا الطور في تجربة الشاعر، ثمّ بعد خروجه من فلسطين المحتلة سنة 1970 واستقراره في القاهرة وبيروت، وخصوصاً حين أخذت سلطته الأدبية تتعاظم وتترسخ، أدرك درويش أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني عقائدي شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى مصاف الرائي، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحقّ في تكييف الميول وردود الأفعال.
وهكذا سوف يواصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي شاقّ وخلاّق: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارئ عنيد عريض يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره الأثير لأنه يجد فيه الملاذ والسلوى والجمال. ولقد حدث مراراً، بعد خروج الشاعر إلى العالم العربي، أنّ الجمهور كان يطالبه بقراءة قصيدة (بطاقة هوية)، المعروفة أكثر بسطرها الأول الشهير: (سجّلْ أنا عربي)، والتي كتبها داخل الأرض المحتلة وظلت طيلة عقد كامل أشبه بالتعويذة السحرية التي تشعل الحماس والفخار الوطني. ولكنه بدل الاستجابة لهذا الإلحاح (الشرعي في الواقع)، كان يتعمد قراءة قصائده الجديدة، وكانت هذه تبدو للوهلة الأولى جديدة صادمة، بمعنى غرابتها عن صورة الشاعر في أذهان جمهوره، وكانت في معظم الأحيان تبدو صعبة على الذائقة الراهنة.
ذلك لأنّ قارئ درويش كان، وما يزال بدرجة كبيرة، مدمناً على النصّ الدرويشي الذي بين يديه، مؤمناً ومستمتعاً وسعيداً به إلى درجة الخشية من الإنتقال إلى سواه من النصوص الجديدة. تلك كانت، وتظلّ اليوم أيضاً في تقديري، معضلة محمود درويش إزاء تحقيق التوازن بين دور الشاعر ودور الرائي. والمفارقة أن درويش، وإلى جانب عناده الشخصي وإصراره على تطوير برنامجه الجمالي، حظي بمساعدة القارئ ذاته في مواصلة هذا التطوير، لسبب بسيط هو أن ذلك القارئ كان في الآن ذاته رفيع الاستجابة، ولا يتردد طويلاً قبل أن يلاقي الشاعر في الطور الجديد من مساره الشعري.
ولقد تبدّى هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري على القصيدة التي بين يديّ القارئ، والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات شعرية قادمة في قصيدة جديدة. وعلى سبيل المثال اكتسبت قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا)، 1972، وظيفتها الأيقونية حين استجمعت دلالات التراجيديا الفلسطينية في شخص سرحان بشارة سرحان قاتل روبرت كنيدي، واستقرّت في الذائقة. وحين كتب درويش قصيدة (أحمد الزعتر)، 1977، التي تصف حصار الفلسطينين في مخيم تل الزعتر قرب بيروت، ظلّت هذه القصيدة تتماهى في وعي القارئ مع (سرحان...)؛ قبل أن تكتسب وظيفتها بدورها، وتتحوّل إلى أيقونة بالنسبة إلى قصيدة (مديح الظل العالي)، 1983، التي تتحدث عن خروج الفلسطينيين من بيروت إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وهذه بالنسبة إلى (قصيدة بيروت)، 1983، ثمّ قصيدة (أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي)، 1992، التي استكملت فصلاً جديداً ودراماتيكياً في مسار الشاعر الرائي لأنها - ببساطة مذهلة - تنبأت بالمنعطف الأخطر ربما في التاريخ الفلسطيني المعاصر، أي اتفاقية أوسلو. وهكذا.. ودرويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية العربية، وأنها لم تُستهلك بعد إلى درجة طيّ صفحتها نهائياً والاقتصار على كتابة الشعر في شكل قصيدة النثر فقط. شعره يشتغل، بالتالي، على التطوير المرن والمعمّق للطاقات الموسيقية الكامنة في التفعيلة، عبر تطويعها ضمن تشكيلات إيقاعية مرنة طليّة تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر (ونلمس هذا التوجه، على نحو خاصّ، بوضوح اشدّ واكتمال أعلى، في مجموعات الشاعر الثلاث الأخيرة: (سرير الغريبة)، (لا تعتذر عما فعلت)، (كزهر اللوز أو أبعد).
وهو يبدي الكثير من الترحيب بالتجارب الشابة، ويراقب تطوّر شكل قصيدة النثر عن كثب وبإعجاب صريح بنتاجات أبرز شعرائها، خصوصاً وهو الناثر الممتاز الذي اتصفت مقالاته السياسية والوجدانية بسحر خاص على الدوام، وحفر نصّه النثري السردي الفاتن (ذاكرة للنسيان) موقعاً في ذاكرة النثر العربي لا يمحوه النسيان. والمراقب للمشهد الشعري العربي المعاصر لا يجد صعوبة كبيرة في ملاحظة السلطة الأدبية الكبيرة التي يحظى بها شعر محمود درويش في مسألة الشكل والتجريب بصفة خاصة.
والشعراء الذين يقلدونه (شعراء التفعيلة إجمالاً) لا يجدون حرجاً في وضوح وصراحة هذا التقليد؛ والذين يزعمون الاستقلال عن منجزاته (شعراء قصيدة النثر خصوصاً) لا ينجحون غالباً في إخفاء الضغوطات الداخلية التي يمارسها شعره على خياراتهم الأسلوبية واللغوية والمجازية، مثلما على تجاربهم الشكلية. والواقع أن مشروع درويش الشعري يمارس في الحالين تأثيرات إيجابية تصبّ في صالح تطوير تيارات الشعر العربي المعاصر.
وإذا كان مشروع درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأن (وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن) كما يقول، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع. لقد حاول (إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، وللبحثٍ عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات). إنه، في نهاية الأمر، المشروع الوحيد الذي يليق بشاعر أُلقيت على كاهله - شاء الأمرَ أم أباه، سَعِدَ به أم كرهه - أثقال التقاط الوجدان الجمعي لأمّة بأسرها.


فرنسا

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved