الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

فلسطين كانت ذريعته الجميلة
قاسم حداد *

ناضل على أكثر من صعيد، وكما نضاله في الحياة كان نضاله في صياغة لغته أكثر بسالة. بالفعل، فهو أمهر من عملوا على التخفف من ضغط الهاجس السياسي، أو التاريخ السياسي إذا صح التعبير، ليس تفادياً لمسؤوليته الإنسانية، ولكن توغلاً أكثر نحو المعنى الجمالي لتاريخ تجربته التراجيدية، فهو يتخفف من الكثيف المستقر ليحمل عبء الشفيف الأكثر عمقاً وجمالاً. واكتسب درويش خبرة باهرة في هذا النوع من النضال، وقد شهدت ذلك بنفسي، ليس في تحولات لغته الشعرية في النصوص، ولكن في ساعة لقائه بجماهير أمسياته. كنتُ تقريباً أرصد ما كان يحدث في تجربة محمود درويش مع جمهوره في معظم قراءاته الشعرية في العواصم العربية والأجنبية، والحق أنني في كل مرة أشعر بالانتصار معه على فكرة الجماهير الضارية (على هلاميتها)، وأرقب كيف كان الشاعر يعيد صياغة تلك الفكرة في سبيل سياق مختلف من مفهوم (القراء) الجديد الذي سوف لن يقل حجماً ومساحة وعمقاً عن جمهوره السابق.
في تاريخنا المعاصر لم يتعرض شاعر عربي لمثل تجربة محمود درويش مع جمهوره بالطريقة السجالية إلى درجة الصراع الصارم. راقبته في المسرح الروماني القديم في جرش (1997م) بالأردن يقود الحضور الحماسي إلى نوع جديد من الاستماع والتبصر لتأمل الصورة الشعرية بدل الشعار السياسي. ليلتها كان بمثابة مايسترو الأعاصير؛ مثل ربان ثمل في سفينة طائشة. (كان محمود درويش ليلتها، فيما يتلو قصائده، يطلق خلالها توجيهاته بين مقاطع القصائد للجمهور لكي ينتبه لهذا المعنى هنا، وينفي المعنى الذي يذهب إليه الحماس عند هذا المقطع أو ذاك. لقد كان الأمر بمثابة الحوار الصراعي بين الشاعر وجمهوره. شاعر يحاول أن يصوغ مواقفه بمعزل عن الاستحواذ الحماسي الذي جاء بذلك الجمهور ليسمع ما يريد، في حين يؤكد الشاعر أنه (يرى ما يريد) في تلك اللحظة. ليلتها خالجني ذلك الشعور الذي يقلق الشاعر: كيف يستطيع الشعر أن يكون صوتاً لذاته الجديدة ومعبراً في نفس الوقت عن لحظته الحضارية؟! وبصيغة أخرى، أن يكون (جماهيرياً) بمعزل عن سلطة الجمهور؟! ليلتها شعرت أن هذا القلق هو ذاته الذي يتأجج في تجربة محمود درويش وهو يعمل بجهد فني ملحوظ للخلاص من وطأة الجمهور الذي لا يزال مأخوذاً بحماس الجملة المباشرة، وهي جملة - في لحظة درويش الشعرية - تتفلَّت من المعنى المسبق الذي ينتظره الجمهور نفسه. لقد كنتُ ليلتها في حضرة جمهور (متوقع) يحتدم مع شعر يقترح (غير المتوقع).
وفي تلك الأمسية تأكدت مجدداً أن المسافة الإبداعية بين تجربة محمود درويش الشعرية ووعي جمهوره هي مسافة لا يمكن تفاديها إلا بصقلها بالمزيد من النصوص المختلفة، وخصوصاً عندما نشهد الهاجس السياسي يتحكم في التجاوبات عند بعض المقاطع، في حين يعبر الجمهور على أجمل المقاطع وأكثرها خطورة التي غالباً ما تكون نقيضاً لذهابات الجمهور وهواجسه.
ولمصادفة تلك الأمسية لفترة وفاة الشاعر الجواهري شعرتُ أن جيلاً كاملاً يمثله درويش كان يناضل من أجل تفادي تكرار ظاهرة الجواهري، واستبعاد ظاهرة الجمهور نفسه الذي يتطلب خطاباً تقليدياً بالمعنى الذي سيبدو بمثابة البراثن الثقيلة لحرية الشاعر. محمود درويش بهذا المعنى يكون قد خاض النضال الأكبر لكي يجد نفسه في الطليعة الشعرية التي يسعى معها جيل جديد من القراء ناقضاً فكرة (الجماهير) السابقة. لقد بدا الشاعر متشبثاً بحقه في حرية البحث الفني بصورة لافتة الإصرار، ولم يكن أمام (الجمهور) من خيار إلا أن يتدرَّب على (القراءة) الجديدة في ضوء الاقتراحات الشعرية التي يذهب إليها الشاعر. كان الولع بالجمالي يمنح نص درويش المزيد من الأجنحة، وعلى القارئ ألاَّ يتأخر وألاَّ يكسل عن تدريب نفسه على الطيران، فهو الآن أمام تجربة لا تسعفها السياسة، ولم تعد السياسة جناحاً لكتابة الشاعر، ولكنها بعض من ريشه.
في ظني أن فكرة العلاقة الجمالية في النص قد انفجرت عند محمود درويش منذ لحظة اضطراره الأخلاقي لقبول المشاركة في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير أوائل التسعينيات. ربما كانت تلك التجربة - على رغم فترتها القصيرة نسبياً - كفيلة بوضع الشاعر في المهب الجهنمي لسطوة الشرط السياسي. لقد كان الأمر أكثر من مستحيل، أنا شخصياً لم أصدق الخبر عندما سمعته أول الأمر، وخصوصاً في عضوية اللجنة التنفيذية. لقد أشفقتُ على الشاعر فعلاً، ربما لأنني كنت أعرف جيداً طبيعة العمل السياسي، لكنني عرفتُ أيضاً ما يمكن أن تمنحه مثل تلك التجربة من استنفار ذاتي نوعي لدى الشاعر كردة فعل بالغة الوعي والحساسية لكي يتحول الشاعر إلى مناضل مضاد لسطوة السياسة العابرة فيبتكر بسليقته الشعرية أشكالاً قتالية للذود عن حرياته الجمالية التي لا تعوض ولا يمكن التفريط فيها.
الآن، يستطيع من يتأمل مسار تجربة محمود درويش أن يكتشف عمق المنعطفات النوعية في لغته الشعرية، وله أيضاً أن يلمس شفافية الصرامة الفنية التي سهر عليها الشاعر بدأب أيوب وصبره في خضم كل أنواع الضجيج السياسي العنيف الذي اجتازته التراجيديا الفلسطينية وعلى رغم كل تلك الحصارات (بمختلف تجلياتها) التي تكاد تسحق الشاعر مستنفرةً صوته الشعري بشرطها الآني، إلى الدرجة التي يجد نفسه مضطراً لأن يكتب نصاً يصرخ به في الحدث لكن دون أن يدخله في سياق شعريته الجديدة فلا يتفهَّمه الجميع، لكن دون أن يعبأ الشاعر بالجميع. فليس نضال الشكل الشعري أقل نبلاً وشجاعة وبسالة من أي نضال آخر، لذلك أحب أن أرى في محمود درويش تجربة نوعية في تجسيد تلك المقولة المتوارثة في الثقافتين العربية والأجنبية بأن الأسلوب هو الشخص. وسيكون من غير الحكمة - نقدياً - عدم التوقف عميقاً أمام هذه المسألة عندما يتعلق الأمر بدراسة تحولات اللغة الشعرية لدى هذا الشاعر المتجدد.


البحرين

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved