الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

الحنين وحلم العودة المستحيل
سيف الرحبي

إلى أي مدى تتلاشى الحدود والبداهات في هذه الحقيقة المجازية، إن الشاعر الأكثر حضوراً في الجماهير والقضّية والأكثر احتشاداً وغناءً بالمعنى الملحميّ النبيل، هو الشاعر المجبول في عمق كيانه وصميم صنيعه الإبداعي، على الغياب والموت والتلاشي، من:
(خديجة لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب)
وبداياته المبكرّة على تلك الأرض التي ستتحوّل لاحقاً إلى رمز لغياب أزليّ أصيل في الكائن في كل زمان ومكان وتفيض عن شرطها التاريخي العاتي والمحدّد - وحتى (الجداريّة) وما تلاها من أعمال شكّلت مرحلة حاسمة في تاريخ الشعريّة العربيّة قاطبة.
على تلك البقعة الصغيرة الخضراء من أرض البشر ظل الحنين يكبر ويحشد أدواته وقواه الخلاقّة عبر ذلك الخيال الشعري الذي بقدرته المدهشة يحوّل ما لا يتحول قاذفاً به إلى قفار وعوالم غير مسبوقة ليبني أسطورته الخاصة المشتبكة والموازية والمتماهية مع أسطورة الوطن السليب... الغياب الذي وسَم الشاعر منذ طفولته، رغم الحضور العارم لصخب المرحلة وشعاراتها وآمالها المستقبليّة آنذاك... غياب صاعق للوطن وللعائلة والمركز الوجداني والعاطفي سيطبع جيلاً عربيّاً بكامله وستكون فلسطين هي النموذج المأساوي المكثف لما ستؤول إليه أحوال البلاد عامة (التي انفصل البحر عن مدنها) وما نحن عليه الآن حيث الإقامة في قلب الهاوية التي تبدو بلا سقف ولا قرار.
غياب الشاعر والجماعة المشوب والمخترق دائماً بحلم العودة والحنين... لكن هل ثمة إمكانيّة واقعيّة للعودة؟ أم تظل حلماً يسكن الشاعر نوعاً من دعامة روحيّة من الانهيار والتلاشي؟
****
محمود درويش الذي خبر الحياة والعالم سفراً و ترحالاً ومنافي، يسلمه الواحد إلى الآخر.
وعاش في قلب تراجيديا التيه الحقيقية التي هي اقتلاع شعب واضمحلال ما تبقى من الإرث الإنساني للعصر الحديث، اختار أخيراً الإقامة في رام الله، في قلب المجزرة والبطولة، في أعماق شعبه الذي أحبه، وكان الملهم الأول لأعماله الخالدة.
وحين رجع إلى قريته (البروه) لم يجد ما وجده أبطال الأساطير العائدون بعد مغامرتهم وأسفارهم ومحنهم، التي اختزلت محن عصور بكاملها، لم يجد حلم موطنه الأول ولا حتى بقاياه.
كانت قرية طفولته أطلالاً وحطاماً، كأنما ترفض أن توجد وتزهر إلا في مخيّلة الشاعر، لاجئةً من البرابرة إلى مخيلته ووجدانه لتظل الوقود الإبداعي والرمز.
وهل ثمة ما هو أسمى وأنبل من ذلك على قلب الشاعر الجريح؟
المبدع يسكن حريّته وخياره في الترحل والإقامة، في الحرب والسلم إن وجد، يسكن شرط ألمه وتاريخه وسط اجتياحات الزمن والتاريخ.
****
نقرأ محمود درويش الآن، محدّقين في ذواتنا الممزقة بالغيابات والجثث والأشلاء، وتلك الطفولة المضيئة ككوكب انفصل عن هذه الأرض الصدئة، ومن المستحيل استعادته إلا عبر الحلم والشعر، ونقرأ تاريخ المرحلة فلسطينياً وعربيّاً، ونقرأ تاريخ القرن العشرين، وكل قرون العذابات البشريّة.
محمود درويش وغسان كنفاني أكبر كاتبيّن وشاعريّن أنجبتهما التراجيديا الفلسطينيّة وما يليق بحجم هكذا مأساة، رد عبر اللغة المفعمة بهواجس التاريخ والجمال على عصر الفضاضة والقبح والانحطاط، وإعادة اعتبار إلى الذاكرة المنتهكة.
ما يجمعنا بمحمود درويش والفلسطينين ليس مناصرة القضيّة في بعدها المباشر الذي تجمع عليه كل هذه الأكوام من «الذباب الموسمّي» وإنما روح المتاه الذي طوّح بنا إلى أقاصي العَدَم الباحث عن جماله المفتقد، المعذَّب والمستحيل.
(ليس الوصول هو المهم وإنما المضيّ في الطريق المؤدي، ربما إلى اللاشيء. الطريق في حد ذاته أجمل من الوصول إلى الهدف).


عمان

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved