الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th March,2006 العدد : 143

الأثنين 6 ,صفر 1427

محمود درويش ناثرٌ وليس شاعراً..
عبدالله محمد الغذامي

هذه كلمة صعبة بل هي بالغة الصعوبة وربما تكون مستحيلة التصديق. وليس في مقدورنا الثقافي العربي أن نصدق مثل هذا القول ولا شك أننا سنعده إهانةً وتقليلاً من شأن رجل نجمع على تبجيله وعلى قراءته ونبادر للاستماع إليه بوصفه شاعراً وصاحب صيت هو الأكبر في ثقافتنا اليوم، وصفته الأهم عندنا هي أنه شاعر، فكيف نقول عنه إنه ناثر وليس شاعراً.
هذه مقولة لي معها حكاية أولها أنني سمعت محمود درويش يتحدث مرة في لقاء متلفز عن النثر وعن خطورة هذا الجنس الكتابي وأعطى للنثر مفهوماً نظرياً عميقاً استغرق جزءاً مهماً من وقت المقابلة، ولحظتها لم أشعر بنشوة الاستماع فحسب، بل أحسست أن درويش كان يغششني. فعلاً يغششني - ويسرب لي جواباً عن سؤال كنت فيه في امتحان مع نفسي حول تجربة درويش في الكتابة والتأويل، وكنت حينها أشعر أن النظرية النقدية في جانبها الجمالي (الشعري - البلاغي) لا توفي نصوص درويش حقها في فك أسرار تلك الكتابة، وكنت فعلاً بحاجة لكسر الحد الفاصل بين الشعر والنثر وكسر حدود التلقي والتأويل بين جنسين ظلا متوازيين على مدى ذاكرة النظرية النقدية والقرائية في تاريخها كله، وكن على قلق من تقبل درويش على أنه شاعر، وكان الحس يدعو إلى كشف شيء آخر فيه أعمق من صفة الشاعر، ولذا صار كلامه في تلك المقابلة بمثابة الفتح النظري عندي حيث رأيت فيه الشخص المشاكس لذاته ولنصوصه، وهي مشاكسة كنت على استعداد للتآمر معه عليها.
وهكذا صرت أطرح في جلساتي مع نقاد عرب أصدقاء فكرة درويش الناثر (لا الشاعر) ولم يكن الأمر سهلاً فقد سمعت سيولاً من الاستغراب والرفض بلغ بأحد الأصدقاء أن اقترح على جابر عصفور أن يقيم لنا ورشة نقدية تقام في الإسكندرية صيفاً ويقوم خمسة من النقاد في عمل قراءة لدرويش، كل على طريقته، وتعطى كل ورقة يوماً كاملاً يخصها إلقاء ومناقشة، وذلك كله بتحريض صار كأنما هو استفزاز من قولي عن نثرية درويش.
ثم جاء يوم فاز فيه صديقنا حسام الخطيب بجائزة الملك فيصل وجاء في لقاء تدشيني إلى قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود، وألقى ورقة عن درويش وكان هذا كافياً لاستفزاز رغبتي في طرح الفكرة على الزملاء الذين لم يجدوا لأنفسهم ولا لي عذراً في قبول الدعوى، ولكن الأيام دارت ليخرج ديوان محود درويش (كزهر اللوز أو أبعد)، وفيه يضع درويش كلمة أبي حيان التوحيدي التي يقول فيها: أحلى الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه النثر ونثر كأنه النظم.
وهي فاتحة تكشف النية في الدخول الجريء والمعلن على المحرم الأدبي ويرتكب درويش الردة الأدبية الكبرى ليقول إن أجمل الشعر ما كان نثراً (ولكن أي نثر.. ؟؟؟).
وأنا هنا أجد نفسي مرة أخرى مع مقولة صارت وتصير حكاية مرة تلو أخرى، إذ بعد أن كتبت مداخلتي هذه رأيت مقالة لمحمد علي شمس الدين في الرياض (19-1-2006هـ) يقف فيها على نثرية النص عند درويش مع تأكيده على نظمية القصيدة، وأنا أضيف هذه الفقرة إلى مقالتي لأشيد بذائقة شمس الدين ونباهته في التقاط الفكرة والإشادة بها، وهو يتجاوب مع درويش في تفهم هذه المسألة الدقيقة ولمحمد علي شمس الدين عموماً ملاحظات دقيقة فيها حس نقدي عميق ويتحفنا بها بين وقت وآخر، وهذه واحدة منها، ولست أرى حكاية كهذه ستنتهي خاصة في ثقافة شعرية كثقافتنا، ولكن للقصة شهوداً كباراً أولهم صاحب القضية محمود درويش وشاعر آخر له حس نقدي مرهف هو شمس الدين.
في ثقافتنا العربية فتنة نسقية بالشعر والشاعر، وفيها غفلة محزنة عن النثر وعن الناثر، ولا شك أن محمود درويش يعي وعياً تاماً خطورة النثر وأهميته، كما أشار إلى ذلك في وعي عميق.
وهو في عرفي لم يتكلم عن هذه المسألة ويقف عليها نظرياً وفكرياً فحسب، ولكنه تمثلها ومثلها في نصوصه وفي نظام تفكيره.
النثر خطير وبالغ الخطورة وهو أخطر من الشعر وأقوى مفعولية وهو أقدر على صناعة العقل وفتح آفاق التفكير، ولكن أي نثر هذا الذي نتكلم عنه..؟؟ بكل تأكيد ليس هو النثر الذي يتصوره أي قارئ أو قارئة لكلامي هذا، وليس هو الثرثرة التي تملأ صحفنا وتملأ أفواه ساستنا وإعلاميينا، أو كتب التعبير والمطالعة في مناهجنا.
إن النثر الذي نضرب باتجاهه هو نوع من الخطاب المعرفي الذي تستطيع معه الذات أن تكون إنسانية عالمية وتكون ذاتاً مفكرةً وتكون صاحبة رؤية مستقبلية عميقة وواثقة كعمق من يتكلم عن الماضي وكثقة من يقول حقائق وهي لم تقع بعد ولم تُرَ بعد ولم توصف عند الآخرين بعد.
هو ذلك الخطاب الذي كان الأولون منا يشيرون إليه بطرف بعيد وينشدونه في النصوص والمصطلحات وفي البحث عنه طرح الجرجاني نظريته في الإبداع تلك التي سماها بالنظم ولم يكن يقصد الشعر، ومن قبله طرح الفارابي مصطلح القول الشعري ويريد به شيئاً غير الشعر، وتابعه القرطاجني في تبني المصطلح ذاته. كانوا يدركون أن هناك شيئاً ليس هو الشعر ولكنه أكبر من الشعر، وليس الإنشاء ولكنه إبداع فوق ذلك تلمسه العين الثاقبة ولا تحده الكلمات. هو النص الفكري الذي نجده عند مبدعين كبار من أفلاطون وأرسطو إلى الجاحظ وإلى شكسبير وبرناردشو وراسل وبراخت وحمزاتوف، وعندنا محمود درويش، على اختلاف في تصنيف كل واحد من هؤلاء.
وهو الذي صارت النظرية النقدية تسميه اليوم بالكتابة، وقد يأخذ هذا نظام التعبير الفلسفي فنسمي أصحابه بالفلاسفة، وقد يأخذ نظام الخطاب المسرحي أو الروائي ونسميهم مسرحيين وروائيين، وصفة هؤلاء معروفة ولا أحد يستغرب من وصف الجاحظ وشكسبير بأنهم يكتبون نثراً عظيماً. ولكن الذي سيكون عجيباً هو أن نقول إن هذا الخطاب الذي نصفه بالنثر العظيم يأخذ - أحياناً - بنظام التعبير الشعري، وكما أن المسرح كان شعراً ثم صار نثراً فإننا سنقول إن الشعر كان شعراً ثم صار نثراً. ولكن كيف..؟
ليست المسألة هي في قصيدة النثر - وهذا تصور خطير سوف يقضي على الفكرة لو ظننا أننا نقصد هذا، وذلك ليس حرفاً للفكرة فحسب، بل هو تبسيط لها وقتل للمفهوم -.
إن ما يكتبه درويش ليس شعراً كما هو الشعر الذي نتوارثه وليس نثراً كما هو النثر الذي نتقارؤه، ولكنه خطاب يشبه ذلك الخطاب المسرحي عند عظماء المسرحيين الذين خلصوا المسرح من الشعر وصنعوا له لغة خاصة أتقنها شكسبير وبرناردشو وبراخت. ومحمود درويش صنع للشعر لغة حولته من الشعرية إلى نوع من الخطاب المختلف، فهو ليس فكراً بمعنى أنه حكم وليس فلسفة بمعنى أنه تحليل منطقي وليس شعراً بمعنى أنه إيقاع انفعالي، وليس نثراً بمعنى أنه إقناعي ووصفي، هو ليس أياً من هذه الصفات، ولكنه مع هذا هو فكر وهو فلسفة وهو شعر وهو نثر.
هو كل هذه الخطابات ولكن بصفات أخرى اكتسبها وأكسبها لنصه ولما يزل يكسب النص - كل مرة - صفة أو صفات لم تكن له من قبل.
هذا نثر من نوع خاص، مثلما هو شعر من نوع خاص، ولكي نعطيه حقه في لفت النظر - كل النظر - إلى خصائص هذا الخطاب لا بد أن نحدث الصدمة الثقافية الأولى بأن نقول إن درويش ناثر وليس شاعراً.
ولا بد أن ما نقصده قد أخذ بالاتضاح الآن، وصار الجدل حوله ممكناً ولن يكون مجرد دعوى انفعالية ترفض بانفعال مماثل، ولكن رفضها سيكون مثل إثباتها، أي أنه يحتاج إلى جدل عميق وخطير. والوصول إلى تقريرها كنظرية في شعرية محمد درويش سيكون إضافة نقدية وثقافية في الدرس الأدبي والفكري في ثقافتنا.
هذه - إذن - هي قيمة محمود درويش، وهي أن الحديث عنه والوقوف على نصوصه سيكون فتحاً نظرياً ونقدياً، وليس مجرد متعة أدبية ولا هو مجرد درس نقدي في خصائص الإبداع، ولكنه درس في تحولات الخطاب وتحولات الوعي وتحولات الرؤية ونظام المصطلحات.
إنك حينما تقرأ في إبداعات الشعراء تجد أنك تتقدم خطوة وخطوات في فهم الخطاب الإبداعي وفي التعرف على أنظمة التعبير، وهذا مكسب يتحقق كثيرا للنظرية النقدية، وكثير من الشعراء المبدعين يقدمون هذه الخدمة للنقاد، غير أن هناك أفراداً لديهم قدرة خاصة على خرق هذه القاعدة، ويفاجئون الناقد والمنظر بتغيير قواعد اللعبة بكاملها، وهذا مثال قليل ونادر ولكن درويش علامة على هذا وشاهد على ما أحاول قوله.
درويش مختلف واختلافه يتحدى أي ناقد أومنظر، لأنك تحتاج معه إلى أن تبدأ من المربع رقم واحد، وتطوي سجلاتك لتعيد صياغة عقلك مع نصوصه لكي تقرأه، إنه من كسر النسق وأعاد ترتيب أوراق الثقافة، ولم تخدعه لعبة الحداثة الرجعية ولا لعبة الشعبوية ولا لعبة السياسة، وهو الذي قدم استقالته من هذه جميعها، وسيظل هذا الرائع مصدراً لثقافة مفتوحة على المستقبل أبداً.


السعودية

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved