الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th June,2005 العدد : 109

الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1426

قراءة في (قامة تتلعثم) للشاعر عيد الحجيلي
د. عبدالعزيز المقالح*

1
(الشاعر الذي لا يخاف من كتابة القصيدة ليس شاعراً)، هكذا تقول الإشارات العميقة في تجارب كبار الشعراء، وهكذا يبرر أصحاب النقد الأدبي خوفهم وقلقهم الإبداعي، فالشاعر الحقيقي يخاف أولا أن لاتجيء القصيدة، ثم يخاف ثانياً بعد أن تجيء أن لا تكون قد جاءت في الوقت المناسب مكتملة ونابضة بالحيوية والحياة، وهو أخيرا يخاف أن لايكون فيها من الشعر إلا القليل أو لا يكون فيها شعر على الإطلاق.
هذه المخاوف هي التي تصنع الشعر وتصنع الشاعر أيضاً لذلك فالشاعر، بل أي مبدع حقيقي، هو ذلك الذي يخاف ويرتعد تجاه عملية الإبداع، وعند لحظة التجلي الفني، وما يصاحبها من أوجاع المخاض.
يضايقني إلى حد كبير بعض الشعراء الذين يهجمون على القصيدة من غير خوف، ولا يترددون في تقديمها إلى القارئ بشجاعة فرسان القرون الوسطى، وشعراء من هذا النوع الجريء لا يمكن أن يكون بينهم شاعر واحد يستحق الانتماء إلى هذا العالم المشحون بالخوف والتوتر، أو بالإحساس بالتلعثم، على حد التعبير الذي حمله عنوان المجموعة الشعرية الأولى للشاعر عيد الحجيلي، ابن المدنية المنورة، والعنوان الكامل للمجموعة (قامة تتلعثم)، ينطوي على لمحة دالة غير مباشرة لكل ما سبقت الإشارة إليه من خوف المبدع وقلقه من مواجهة القصيدة من ناحية، ومن مواجهة قارئها من ناحية ثانية:
وفيمَ التردد؟
ذا سمتك ال يتضوَّر عرياً
يفتش في حانة الوقت عن ظله
ال زئ ب ق ي
وهذا مسوح دّم آبق في صريف الأساطير..
والسافياتُ النوازعُ
تغرس في قامة الحدس
رمحاً طليقاً
ألستِ نجيع الرهان المدنَّس
في ملة السائمين؟
اللافت في هذا المقطع من قصيدة تحمل عنوان المجموعة، أو بالأحرى تحمل المجموعة عنوانها، أن الشاعر منبهر باللغة، واثق بما تحمله في ذاتها من قوة برهانية على الشعرية، فضلا عما تملكه قيمة استعارية، تشكل النسق الشعري المعياري في الماضي، كما في الحاضر والمستقبل، والمقطع الثابت هنا هو الثاني من قصيدة (قامة تتلعثم)، وقد تجاوزت المقطع الأول عن قصد وإصرار حتى لا أضع القارئ وجها لوجه من دلالات أوضح على انبهار الشاعر باللغة، وثقته المطلقة بما تحمله في ذاتها من قدرات شعرية وموسيقية وصوتية، وكثير هي التعابير التي يمكن التقاطها كدليل على هذا الانبهار، منها على سبيل المثال لا الحصر (شواجر يمناك)، (تنماث في بطن ليل رجيم) (شحاح النجوم)، (تشجّن في البيد)... الخ، ولا أخفي أنني اضطررت إلى العودة إلى القاموس لكي أتأكد من معنى (ينماث)، وهي مفردة قريبة أو شبيهة ب(يتماهى)، المفردة المتداولة حاليا بكثرة في الشعر والنثر على حد سواء، ربما هو الأمر الذي جعل الشاعر يتجنبها، ويفضل عليها هذه المفردة القريبة بمدلولها وبشعريتها أيضاً.
وعيد الحجيلي ليس الشاعر الوحيد المحتفي باللغة إلى هذه الدرجة العالية، فكثير من الشعراء، والشبان بخاصة، تشدهم، بل تسحرهم (هسهسة اللغة)، وهذا التعبير مأخوذ من (رولان بارت)، وهو عنوان لواحد من كتبه الشهيرة الذي يشير فيهأيضا إلى ضرورة أن تحتفظ اللغة في مجال الإبداع بمكان عال. لكننا سنرى فيما بعد كيف استطاع الشاعر عيد أن يتخلص من وطأة هذه الثقة عندما اتجه إلى كتابة قصيدة (الومضة)،تلك التي لا تحمل هذا القدر من السيطرة اللغوية، وتستبدل ذلك بالتكثيف الصوري والاقتصاد والتيكز دون تفاصيل.
2
نادراً ما يتوفر لمفردة لغوية معينة قدر من الاهتمام والمتابعة تستطيع أن تحولها إلى مصطلح، كما هو الحال من (الومضة)، تلك التي أصبحت مصطلحا بعد أن اتسع استخدامها وفرضت نفسها على الدارسين من نقاد الشعر، بخاصة هؤلاء الذين يتحدثون عن شكل جديد للقصيدة لايتجاوز عدد سطوره أصابع اليد الواحدة، وقد يصل أحيانا إلى سطر واحد، ولاريب عندي في أن الشعراء أنفسهم هم من أطلق هذه التسمية على وصف ما يكتبونه من قصائد قصيرة بعد أن كان تعبير آخر سبق هذا المصطلح قد بدأ في الانتشار وكنت من أوائل من استخدمه، وأعني به ( القصيدة البرقية)، إلا أن (الومضة) تبدو أقصر من البرقية، ولهذا شاعت وكادت تصير مصطلحا.
وما يلفت الانتباه في الومضان الواردة في مجموعة عيدالحجيلي (قامة تتلعثم) أنها تكشف عن موهبة الشاعر ومقدرته على الختزال من ناحية، كما تؤكد، من ناحية أخرى، أن الشعر في جوهر معناه اختزال وتكثيف، وأنه كلما تحرر النص من الثرثرة والترهل اللغوي زاد اقترابا من المعنى الحقيقي للشعر:
كلما ضحكت
غيمة مرجأة
أطفأ البرق
في فمها العذب
(سيجارة) مغرمة
غيمة تلك
أم مطفأة؟
بغض النظر عن الإشارة غير المتوقعة إلى (السيجارة) وما يثيره الحديث عنها من تداعيات غير محببة لدى البعض وأنا واحد منهم إلا أن الصورة تبدو بديعة ومبتكرة، كما أن الجهد المبذول لكتابة قصيدة قصيرة خالصة من عيوب المطولات، وفي مقدمة تلك لاعيوب الثرثرة المحايدة والتكرار الممل، يبدو بارزا، مما يشكل انتقاله تسترعي الانتباه من شاعر يقدم تجربته الأولى، بعد مرحلة قصيرة مع ممارسة الكتابة الشعرية، في ظل النمذجة السائدة إلى تجعل الخلاص من أسرها بالغ الصعوبة، إلى على الموهوبين وذوي الحساسية القادرة على التجاوز ومتابعة التطور أو بالأصح التمرد في المبنى والمعنى:
بين هدأة مرآتها
ولهاث الرؤى الصاخبة
ترقب العمر
يسقط
قافيةً
قافيةْ.
الحديث في هذا النص الصغير جداً عن الشاعرة، تلك التي أعطت كل وقتها للشعر، فذاب العمر في القوافي، والسؤال هو: ماذا يستطيع نص مطول أن يقول أكثر من هذا، ولكن في تعابير شائكة ومتشعبة تخلو من هذا التكثيف والتناظم في النسيج اللغوي، ولن تكتمل صورة الشاعرة والوقت إلا بالتواصل مع صورة أخرى عن الشاعر تكثفت في ثلاثة أسطر من سبع كلمات:
بعدما شربت
عمره الكلمات
قيل مات.
هل نستطيع القول إن هذا النهج، الذي يذكرنا شكله المختزل بنماذج عالمية، وفي مقدمتها النموذج الشعري الياباني المسمى ب(الهايكو)، قد أصبح النموذج المتبع في كتابة قصيدة المستقبل؟
وللإجابة عن ذلك يمكن الزعم بأن هذا ما تتكشف عنه تجربة هؤلاء الشعراء العرب الشبان الذين أدركوا أن زمنهم اشعري لم يعد قابلا للمطولات والاسترسال في الوصف، فاختاروا هذا النهج القريب من روح العصر وما يتطلبه منطقة السريع من الومض والاختزال:
كيف لي أن أسمعك
بيننا يصاح
أخدود ضابي
وأطياف شرك؟


* صنعاء

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved