الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th June,2005 العدد : 109

الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 19 الحُرِّيَّة والغيرة
د. عبد الله الفَيْفي
1
هكذا رأينا في المساق الماضي أن قيمة الجمال التي لم تخصصها (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية) (الرياض: دار رواح، 1421ه/ 2000م) بأحد مجلداتها تعلقت في الثقافة بالمرأة لا بالرجل، حتى لقد اختارت اللغة أن تسمي جمال الرجل (وسامة)، لا (جمالاً). ويقابل القيم الحسية المستحبة في الأنثى قيم ذهنية مستحبة في الذكر: ك(العلم)، و(الحكمة)، و(الفصاحة)(1). كما اختصت الذكورة بقيم أخرى، ك(البشاشة)(2)، المحظورة عن المرأة، وإن كانت تختلف في مفهومها عن (الخضوع بالقول) المنهي عنه. هذا فضلاً عن قيم تبدو ذكورية صرفة، كقيمتي (الحرية) و(الغيرة)(3). وقلنا: إنه لئن كانت (موسوعة القيم) في جزئها التاسع عشر قد تحدثت عن (حرية المرأة) في المجتمع العربي القديم مستدلة بمثل قول فتاة:
أيُزجرُ لاهينا ونُلْحى على الصبا
وما نحنُ والفتيانُ إلا شقائقُ؟!(4)
فإنما يدل مثل هذا البيت على احتجاج ضد واقع قائم من الحيف على النساء في الحرية. بل إن الموسوعة نفسها قد نسبت البيت في (الجزء الثالث والأربعين، ص54) إلى رجل لا امرأة، وهو (جثامة بن عقيل). ومن ثَمَّ فالبيت يمثل صوت الرجل لا صوت المرأة، وهو إلى هذا، وبهذا، يدل على احتجاج على واقع قائم، لا تجرؤ المرأة حتى على مجرد الاحتجاج عليه. ونسبة البيت إلى (جثامة بن عقيل)، إن صحَّت، أدلُّ على ما تعانيه المرأة من ضيم؛ وذلك لما عُرف في أسرة هذا الشاعر من تشدُّد في معاملة النساء باسم الغيرة، فأبوه (عقيل بن علّفة) مشهور بتطرُّفه المقيت في الغيرة على بناته، حتى صار مضرب المثل بغيرته، فقيل: (أغير من عقيل)(5).
أما أن المرأة العربية قد عرفت في تاريخها القديم حرية في الحكم والمشاركة السياسية، ثم الإشارة النمطية إلى نماذج؛ ك(بلقيس)، و(الزباء بنت عمرو)، وملكات الأنباط، وملكات كندة؛ ك(العمردة بنت الأعشى)، أو الإشارة إلى (هند) زوجة (المنذر بن ماء السماء)، و(حرقة بنت النعمان بن المنذر)، و(حليمة بنت الحارث بن جبلة الغسانية)، فشواهد تدل على الاستثناء الدالِّ بدوره على تحول هذه القيمة في المجتمع العربي، حتى باتت صفة (الحرية) في المرأة تعني (عدم الحرية). يشهد بهذا ما يُنسب إلى (عمر رضي الله عنه) من أنه قال للنساء اللاتي كنَّ يخرجن إلى المسجد: (لأرُدَّنَّكُنَّ) (حرائرَ)؛ أي لألزمنَّكُنَّ البيوت، فلا تخرجن إلى المسجد(6). ولا يُدرى مدى صحة هذه الرواية المنسوبة إلى الخليفة الراشد الثاني، ولا عن أي (عمر) تتحدث، أعمر الفاروق المضروب بعدله المثل، والقائل: (أصابت امرأةٌ وأخطأ عمرُ)؟ مع أن هذا القول في ذاته إن صح بصياغته هذه عن عمر أيضاً لا يخلو عند التأمل من استكثار أن تكون المرأة (شجعة) جريئة، (تُصيب الرأي) على عكس المتوقع على حين (يخطئ الرجل)، وكأنها أدنى من أن يكون لها رأي صواب وأقل شأناً! كما لا يُدرى أيضاً أيُّ عمر تعني الروايات وما أكثر الحاجة إلى تمحيصها ووضعها على محك الثابت مما يمثل فلسفة الإسلام وعدله أعمر الذي نُسب إليه في الحرية قوله: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!) أفليست النساء من الناس؟! ولكن لا غرابة؛ ف(ابن قتيبة)(7) يورد أيضاً في باب يسميه (باب سياسة النساء ومعاشرتهن) رواية أخرى لا تليق بعمر بن الخطاب تقول: (لا تُسكنوا نساءكم الغرف، ولا تعلموهن الكتاب، واستعينوا عليهن بالعُرْي، وأكثروا لهنَّ من قول لا، فإن نعم تُغريهن على المسألة!). إلا أنه إذا كان الناس قد وضعوا أحاديثَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأت المجلدات من المكذوبات والموضوعات، فهل يُستغرب أن تلجأ أنفس مريضة إلى وضع أحاديث على غيره؛ لتلبس قيمها الجاهلية لبوساً دينياً بعد أن عجزت عن أن تجد لها وجهاً من نص قرآني كريم أو حديث نبوي صحيح؟!
وإذا كانت الحرية هي كما يعرِّفها المفكِّرون الاجتماعيون ملكة خاصة تميز الإنسان من حيث هو مخلوق عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو في اختيار فعل أو استطاعة اختيار ضده، لا عن أية إرادة أخرى(8)، فإن في مفهوم الحرية من العمومية وتعدُّد أوجه النظر إليها ما يتيح فيها مثل ما أتيح في قيمة (الحياء) من خضوع لتحويرات وتحريفات تتساوق وتوجِّه الثقافة في عصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات.
2
وكذا القول عن قيمة (الغَيرة)؛ حيث اقترنت قيمةً بالرجال في مواقفهم من النساء، أو في غَيرتهم عليهنَّ، حتى قالوا في حِكَمهم: (كل شيء مَهَةٌ، ما خلا النساء وذكرهنَّ)؛ (أي كل شيء جميل ذكره إلا ذكر النساء)(9). وجاء في أمثالهم: (أغير من الفحل)، و(من جمل)، و(من ديك)(10). ولولا غيرة الرجال على النساء لما قال (حجر بن عمرو) مثلاً:
كُلُّ أنثى وإن بدا لك منها
آيةُ الودِّ حبُّها خَيْتَعُورُ
إنَّ مَنْ غرَّهُ النساءُ بشيءٍ
بعدَ هندٍ لجاهلٌ مغرورُ(11)
ولا قال (الطفيل الغنوي)(12):
إنَّ النساءَ كأشجارٍ نبتنَ معاً
منها المرارُ وبعضُ النبتِ مأكولُ
إنَّ النساءَ متى يُنْهَيْنَ عن خُلْقٍ
فإنه واجبٌ لا بدَّ مفعولُ
لا ينصرفنَ لرشدٍ إنْ دُعينَ لهُ
وهنَّ بعدُ ملائيمٌ مخاذيلُ
بل لولا الغيرة المريضة لما بلغ الأمر ببعض العرب في الجاهلية إلى وأْد البنات(13). وإذا كان الوأد قد انتهى في الممارسة بمنع الإسلام إياه فقد استمرت فكرة الوأد سارية معنوياً في بعض نفوس الإسلاميين.
(لكن هذا ما ستناقشه الحلقة المقبلة بمشيئة الله).
إحالات:
1 انظر: موسوعة القيم: المجلدات 23، 38، 44
2 انظر: م. ن، المجلد 11
3 انظر: م. ن، المجلدين 19، 43
4 م. ن، 19: 43
5 م. ن، 43: 71 ..
6 ابن منظور، لسان العرب، (حرر).
7 (د. ت)، عيون الأخبار، عناية: مفيد قميحة (بيروت: دار الكتب العلمية)، 4: 77
8 انظر: إبراهيم، زكريا، (1972م)، مشكلة الحرية، (القاهرة: مكتبة مصر)، 18
9 (1955م)، مجمع الأمثال، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة السنة المحمدية)، 2: 132
10 م. ن، 2: 66
11 موسوعة القيم، 43: 10
12 م. ن، 43: 1011
13 انظر: م. ن، 43: 7071


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved