الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th June,2005 العدد : 109

الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1426

أنفاس الورق
أ.د محمد نجيب التلاوي*
لأنفاس الورق لغة في قلب اللغة، استطاعت هذه اللغة أن تستنطق الأوراق الشعرية وتجعل أنفاسها شاهداً على تاريخ واقعنا العربي المأزوم وذلك عبر أبيات شعرية تتنوع شكولها الفنية وموضوعاتها بقدر خبرة شاعر بحجم عبد الله باشراحيل الذي دخل الساحة الشعرية العربية منذ عام 1978م وتدفق منتوجه الشعري ليزداد توهجاً في العامين الأخيرين عندما أثرى الساحة الشعرية بخمسة دواوين متلاحقة (المصابيح بيت القصيد الجراح تتجه شرقاً المرايا وأخيراً أنفاس الورق).
والمتابع لأشعار عبد الله باشراحيل يشعر بأن ديوانه الأخير (أنفاس الورق) يمثل نقلة نوعية في تجربته الشعرية الخاصة، لأنه يرتفع بقصائده الشعرية فوق هندسة البناء التقليدي، ويستجيب لخصوصية التوغل في جوهر المشاعر الإنسانية بخيال مركب، وبصور شعرية تمثل حضوراً جمالياً خاصاً، ولا سيما عندما يفتق شرنقة الالتزام، ويثبت المرأة والطبيعة كمادتين أساسيتين يمتاح منهما صوره الشعرية، والتي ولدت بفعل الحياء الأنثوي مفاعيل اتسعت للتفسير، وإن شئت فقل للتأويل لأننا قد نظلم بعض قصائده عندما نقيدها في تفسير أحادي.. لأن المرأة عنده هي الوطن وهي الأم وهي الانتماء وهي الأنثى... والمحبوبة التي لا تُحسن الدنيا إلا بها..، يقول في قصيدته (أنثى الحياة):
(إنْ لم تكنْ أنثى الحياةِ تَضُمُّنا
فبدونها
سجنُ الدُّنا
لا يُحتملْ)
وعلى الرغم من خصوصية التجربة الشعرية لباشراحيل في هذا الديوان إلا أن صوره الشعرية المركبة والرقيقة تؤكد أن فكرة (التكرار الدوري) ما زالت قائمة تفرض نفسها، لأن ملامح الرومانسية وزمن الشعر الجميل الذي بدأ مع خليل مطران وإبراهيم ناجي وامتد عند بعض معطيات نزار يتمدد على نحو ما في بعض قصائد هذا الديوان، وكأن شعارات التفرد لكل عصر لم تبلغ من الدقة منتهاها لأننا فيما يبدو لا نقدر حجم الثوابت في الطبيعة البشرية والتي تكشف عنها قدرات الشعراء من طائفة المتميزين والموهوبين.
وقصائد الديوان تتسم بالتنوع في الشكل والمضمون معاً لدرجة قد تشعرنا بخصوصية كل قصيدة شعرية، وبينما نجد الشكل القصصي لقصائد مثل (عطر الشمس قصة عشق رائحة النوم محزون يعشق محزون غدر الغدر...) نجد من ناحية أخرى القصيدة القصيرة جداً التي تذكرنا بالقصيدة البيت نحو (ليلين في فجرين الأحلام...) ثم نجد القصيدة الدائرية البناء التي ترد النهاية إلى البداية.. ونجد القصيدة العنقودية البناء أو تلك التي تدخر مفعول النص إلى نهايته كالقصيدة التي صدر بها الديوان والتي يصرح فيها بفاعلية المحبوب الواصف للمحبوبة فهي:
(ربَّما تقطّرتْ رحيقَ نورْ
كأنّها تَكَوّنَتْ في غفلةِ الدُّجى
ثلجاً وزنبقاً و(توتْ)
فسِحْرُها منْ وردةٍ
ونسمةٍ وبسمةٍ)
وفي النهاية يصرح بالمحبوبة بعد أن شاركه المتلقي خياله الوقّاد في رسم صورة محبوبته الخاصة:
(أتعرفونَ منْ حبيبَتي؟
حبيبتي بيرُوتْ)
ومثل هذا التنوع في شكل القصيدة ليس غريباً على (باشراحيل) الذي كتب القصيدة التقليدية وشعر التفعيلية.. حتى قصيدة النثر.. في أشعاره السابقة ولكل تجربة عنده قالبها الشعري وإيقاعها الخاص.
والصورة الشعرية في ديوانه تزدان بالمرأة ومظاهر الطبيعة من انحية ثم هي تتألق بفعل المفارقة وبنية المتناقضات المؤسسة لصوره الشعرية من ناحية أخرى:
(... يا بعضَ الدّفءِ وبعضَ الثَّلجِ،
وكلَّ حنِين الشَّوقِ الثائِر
يستحيي الحظَّ أو الصدفهْ
بجمال شقَّ ستكونَ الصَمتِ
وطرفٍ يلمح مثلَ السيفِ
ومثل البرقْ،
يتأوَّهُ في لقياكِ الوعدُ
ويرحل في نجواكِ النجمْ
ولأنتِ الأعلى والأحلى
فلمنْ أشواقُكِ عبر الرِّحلةِ
سوف تكونْ
يتلظَّى في مرآكِ شعورُ الهائمِ والمفتونْ...)
ولأن المرأة مفتاح قراءة الديوان فيخص شاعرنا المرأة العربية بتعاطف مطلق لأنها المرأة الحبيسة أنفاسها في مجتمع ذكوري الملامح:
(أنا منْ وطنِ الأعراضِ البكرْ
من قَومِ يئدونَ الطِّفْلَةَ، يستَحْيونَ الطِّفلْ
اشْتَهروا بالثأر من الفكرةِ والجنسْ
فالمرأةُ حسنٌ مأسورٌ في قصرِ الملحْ
يا ويل الأُنثَى في وطنٍ ربَّاهُ الظَّنْ...
ليس لها من بعد البَعْلِ حياة إلا القبرْ
هي طَلعُ الرِّيبةِ
مذ وُلدتْ من دمعِ القسوةِ،
من خفقاتِ الضَّعْف
تَحْبِسُ أنفاسَ النظرةِ في أحداقِ الرَّفضْ)
وتثور المرأة بأنوثتها.. وتتطلع إلى الانعتاق بحب الرجل، وبحل رومانسي الملامح:
(علّمني كيفَ أعانقُ فِيكَ العشقْ
كي أتحسَّسَ فيكَ العطفْ
ولا أتوجسَ منكَ الخوفْ
نتهادى الود كؤوساً من خمر الدّهشَهْ،
نستبقُ اللهفهْ،
نعدو كالبهْجَةِ في النَّسْمهْ
نثملُ بالنَّشوة
نستلُّ من الأعماقِ جراح الأرض
ما أروع أن نحيا بجمال الحبِّ)
= = =
ولأن الشاعر صاحب قضية.. فمهما حلّق خياله الشعري فهو مرتبط بواقعه بحجم ارتباطه بدينه وقوميته العربية التي أصبحت وتراً مشدوداً يهتز للأحداث العربية المأساوية المتلاحقة، وإذا بنا في القصائد الأخيرة للديوان أمام تغليب للحس القومي في قصائد (الغنم راشيل كوري عبد العزيز عرفات من حبيبتي الوحش...) فيوثق ديوانه توثيقاً تاريخياً بالأحداث القومية الفردية، والفردية القومية، فيحدثنا عن اغتيال (رفيق الحريري)، (عبدالعزيز الرنتيسي) ثم مقتل (راشيل كوري) التي ضحت بنفسها قناعة بالحق الفلسطيني، ورفضاً للعنف والعنصرية الإسرائيلية، ثم هو يأسف لموت (ياسر عرفات):
(عرفاتُ ماتْ
والقدسُ والوطنُ السليبُ
وهَمُهُ هَمُ البلادِ
وأمةٌ تجني الشَّتَاتْ)
إننا أمام ديوان شعري غني بشكوله الفنية، ثوري بصوره الشعرية المائزة، متنوع في موضوعاته وقضاياه التي تتوغل في عمق الأحاسيس الإنسانية، وتتواصل بوشائج القربى مع الواقع العربي الفوار بأزماته ونكباته، ومن ثم اكتسبت قصائد الديوان حضوراً جمالياً، وعمقاً دلالياً بعد أن اعتصر الشاعر عروق كلماته الشعرية واتصل بدورتها الحياتية... فجاءت أشعاره فعل إضاءة نافذ إلى كل وجدان عربي معتم ومثقل بترديات واقع بائس ومقهور... وجاءت (خمس وثلاثون قصيدة) في أنفاس أوراقه الشعرية شاهداً على ما...
(أفضى للعدمْ
وتطايرت في الخوفِ
أشلاءُ المصائِر
بين أنفاسِ الورقْ)


*عميد كلية الآداب بالمنيا

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved