الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th June,2005 العدد : 109

الأثنين 29 ,ربيع الثاني 1426

جريمة رخوة
سهام صالح العبودي
بعد المدخل الرئيس للجامعة يتمدد أوّل دوّاراتها إذا اتجهت يساراً سيوصلك الطريق للمشفى الجامعي بعد أن تتجاوز مبانٍ متوأمة معدّة لسكن الأساتذة والموظفين، كان الجو خانقاً، والهواء الساخن يموج فوق غطاء السيّارة، ورائحة الجلد المنبعثة بفعل الحرارة تجعل المزاج في هذا الوقت من السنة في أسوأ حالاته، يمكن بكلّ سهولة في هذا الوضع أن ترتكب جريمة.
بعد عدة أمتار من الدوّار، وأنا في حالة خدرٍ ضحويّ مألوف اصطدم شيء بمقدمة السيارة، يصعب أن تميّز ماهيته إذا كنت تسير بسرعة غير معتادة في هذا المكان، كلّ ما أمكنني ملاحظته كتلة سوداء صغيرة هبطت فجأة من أعلى عمود الإضاءة على الرصيف الأيسر، بعد عدة أمتار من مكان الاصطدام عدّلتُ المرآة العاكسة لتكشف عن تلك الكتلة متكوّرة فوق الإسفلت.
خمَّنت لحظتها بأن الجناية كانت من نصيب طائر سيئ الحظ..
ليس غريباً أن تشاهد جثثاً مسحولة على الشوارع، تبدأ الصورة بقطرات دم، ثم بضعة أشلاء، ثم جثة، ويمكن طبعاً تخيّل السيناريو الأسود: اصطدامٌ أول يطيش معه شيء من دم الضحية، وربما تعلقت بكاملها بإطار السيارة، أو مقدمتها فتسحب بضعة أمتار قبل أن تتآكل قطعة اللحم التي تشدّها لأداة الجريمة ثم تقع بشكل عادي، وباعتبار السلخ لا يضرّ بعد الذبح فإن أحداً لا يتبرّع بحمل هذا الجثمان الصغير بعيداً عن الطريق، فتبصم كلّ السيارات المارة على الجثّة غضب القائلة.
انتهى مشواري وعدت للبيت، مارست حياتي بالشكل اللائق تماماً كما ينبغي لإنسان لم يخطئ قط.
كان صوت اصطدام السيارة بجسم الطائر الرخو مشوّقاً نوعاً ما، هذا الصوت مميّز بشكل غريب، الأشياء الرخوة لا تصدر صوتاً موغلاً في الإزعاج، كان أشبه بطلقة من مسدس كاتمٍ يسمعها المجرم، والضحيّة لكنها ناجعة بدرجة فائقة، ناجعة لحدّ الإحساس بأن شيئاً ضرورياً قد انفثأ برقّة.. كنت قد بدأت أتساءل.. أيُّ أجزاء الطائر اصطدم بالسيارة؟؟
تبعاً لاتجاه السير فإن الطائر قدم من جهة اليسار وربما خطط للهرب من الحرّ بالاختباء في شرفة أحد المباني التي كانت على يميني، أو تحت ظلال شجرة من أشجار الرصيف المجاور، انخفض بمسافة غير مدروسة كما يبدو، واقترب من السيارة أكثر مما يجب، اصطدم بالسيارة جانبه الأيمن، لا أعرف أي أعضاء الطيور تقع في هذا الجانب، لكنه عضوٌ مهمُّ حتما لأن الطائر حين نظرت إليه من المرآة العاكسة كان جثة فعلية.
لماذا يشغلني هذا الأمر كثيراً؟؟
بدا لي الموت اليوم سهلاً جداً، سهلاً لدرجة أن الكائن يمكن أن يموت بهذه السهولة ويعود قاتله وهو محظيّ بالاهتمام والترحيب، هل تعرف زوجتي الآن بأنها تقدم الطعام لقاتل؟ يبدو أن الأمر لا يهمّها حتى!!
هل يعرف جاري أنني مارست القتل هذا النهار، وأنني استمتعت بتحليل الجريمة، حتى لو عرف سيظلّ مصرّاً على دعوتي لتناول القهوة وسرد حكاياته المملّة!!
كان صوت الاصطدام غريباً.. شيء رخو ورطب، أنا رخوٌ ورطب وكل يوم أعبر الشارع..!!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved