الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 6th October,2003 العدد : 31

الأثنين 10 ,شعبان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
ثرى الشوق معيض البخيتان
سعد البواردي

للشوق. كما للشوك أرض خصبة تنبت داخل حقلها.. أو داخل عقلها الكثير مما نلمسه داخل انفعالاتنا الوجدانية.. وداخل افتعالاتنا اللا إنسانية.. الورد بأريجه شوق ينضح بالعطر والعطاء.. وشوك يخز ويؤبر ويدمي حين ينسلخ الشوق من جلده.. ومن جلده.. ويتهاوى في مهب العاصفة..
لهذا آثر شاعرنا معيض البخيتان ان ينبش الثرى بفأس قلمه ليستخلص منه ما يمكن ان يُقدم كزاد شعري شعوري في عملية فرز حسابية بين الشوق. والشوك.. ومخزون الأرض باعتبارها المشحونة بكل الانفعالات. والافتعالات.. بكل جماليات الأرض ودماماتها.. ماذا قدم شاعرنا معيض؟
وبأي عرض أثرى الثرى الشعري.. وأضاف إليه؟
أحسب ان ديوان الجم الصفحات سوف يلهثني متابعة. وركضا.. لا ضير ان اختصر في محاولة اجتهادية لانتزاع أقوى ما فيه.. وأضعف ما فيه ان وُجد.. وبقدر من المحاولة المليئة بثرى الشوق لا بأشواكه..
«اجهاشة وتذكر» فاتحة الديوان.. لننصت إليها قبل ان نجهش بالبكاء معه لأن التذكر شرط للانتظار:
طال مشواري مع الحزن المذاب
من تحسى عمره حزنا مذاب؟!!
ربما تسألني عن وجهتي..
ولما هذا التجني والعتاب؟!
من حقنا.. بل من واجبنا انتزاع الجواب.. إذ لا سؤال دون جواب إلا اذا كان غيبيا. او غبيا وشاعرنا ليس بالغيبي ولا بالغبي وانما واقعي يحاول انتزاع الصور المغطاة داخل الثرى حتى ولو كانت شاحبة لأن شعره يغلي في فمه.. ويتفجر من دمه.. ويتلوى بين الحنايا والضلوع:
«كل ما حولي مشيب قاتم
وشخوص من رمال وسراب
ووجوه من قروح اطلقت
السنا تنهشني سما. وصاب»
كلنا يا صديقي مصاب بالصاب.. ولكن ليس إلى الدرجة اليائسة البائسة. ففي بعض زوايا حياتنا صور جميلة. وأخرى رمادية.. وجهان لحقيقة واحدة.. ولعملة واحدة لا يمكن صرفها من خزنة الواقع إلا إذا جاءت متكاملة.. حتى في الحب لابد من تذوق الصبر.. ولابد من التذرع بالصبر..
«البدوي» محطة اشتم فيها رائحة الخزامى. والعرار. والصبار.. والشموخ إلى أعلى..
«لا تلمني إذا كتبتُ بنية
فانتمائي. وفطرتي بدوية
عربي تحت الرمال جذوري
وعيوني في الانجم العلوية
عُصبت جبهتي بوقدة صبح
عُصرت بالفنائس الابدية»
لقد لملمتُ دون استئذان اطراف ابياتك الجميلة التي بعثرتها دون مبرر.. نحن في عصر نحتاج فيه إلى توحد الكلمات.. وتوحد الصفوف.. ألست معي؟..
«أنت. من أنت».. تساؤل مطروح لم يعطه له ما يستحق من علامة استفهام.. لعل عوضنا فيما يستحقه من إجابة.. ان يسائله.. واحيانا يجادله رغم اللوعة المكبوتة في دواخله.. يُعمل مطرقة التحقيق احيانا كما لو انه امام متهم لابد من استقصاء امره وسره.. ويُعمل أخرى صوته الرقيق الرفيق كمن يدله على اجابة ضائعة تنتهي إلى لقاء مثير للجدل بين الاساطير والكفن.. وأشياء أخرى كثيرة تزيد من غموض الصورة
«وشم على جبين الأرض» لمحته وتجاوزته إلى ما بعده.. فترى الأرض مليئة بالوشوم.. والهموم التي تنتظرنا على خط الرحلة.. نعود معه إلى حيث عادت. ولا عاد الجميع عنوان يثير الكثير:
«عدتِ. ولا عاد الجميع
ووجوههم هبَّا يضَيع»..
ويقسم شاعرنا بالله ان ابتذال الهوى عبودية يأباها الحر.. لأن الحب في مضامينه وجود معطر.. ويسديها النصيحة ان تدع المتلاعبين بعواطفها الذين يتوهمون الحب بابا واسعا لا رابط فيه ولا رباط معه.. إلا انه في غمرة نصائحه يشتط في غزلها دون نهاية.. لأن البداية كانت حكاية.
«نفثات قدسية» تهومات شعرية ممزوجة بالعتب والغضب المستفز لمرحلة خطابها العجز. وعنوانها الانكسار:
«أتيه. ماذا أغني؟ كل نافحة
عندي. وكل انتفاخات من اللزج
في كل يوم الاقي مذهبا. ودمى
تمذهب الصمت الوانا من النتج»
انه يحاكم الضمير الغائب او المغيب عن مأساة القدس:
«والقدس ضاربة في الجمر موغلة
منذ متى؟. وبلايا كل معتلج»
القدس ليست وحدها يا صديقي.. ففي الفخ اكبر من عصفور واكثر من عصفور.. وبعد تهوماته الجادة تأتي تنهداته الجيدة عن القدس أيضاً.. اضافة شعورية عربية تحمد لشاعرنا..
يبدو ان شاعرنا حزم أمره. واعتمر السفر.. ولكن إلى أين هذه المرة؟!
«في عروقي مسافر
من. إلى منتهى صفر»..
لا شك انها رحلة اجازة يتلهف اليها كغيره.. فهل تحقق له ما يريد؟!
«كل ما سرت خطوة
وضعوا فوقها حجر!!
وإلى الآن لم أعد
في سرى التيه. والضجر»
القصيدة ضبابية الصورة.. بدايتها تغني بالجمال.. وسطها تمني بالارتحال.. نهايتها قفلة غامضة ومهتزة:
«آه لو كان معي
قد وعى سارية عمر!!»
ماذا كنت فعلت يا عزيزي؟! القافلة تسير جاهدة لا مجهدة تستشرف ما حولها تبحث عن ظل ظليل ترتاح اليد وتحطه تحت افيائه.. «انفاس محرقة، تزيدنا سعارا».. «قحطان». وعدنان كم اشدنا بهما انهما الأصل.. ولكن الفصل يا شاعرنا يبحث عن أبناء نجباء ظيفون.. ويستظيفون.. يواكبون عصرهم تقنية. وثباتا. وقوة يحسب لها اعداؤهم الف حساب. وحساب.. نعم لنا اصل.. وفصل نفخر بهما ولكن..
لا تقل اصلي وفصلي ابدا
انما اصل الفتى ما قد حصل
ولكي ترتاح قلوبنا مع شاعرنا البخيتان نتلمس بخته مع مقطوعته «أرحْ قلبا»:
«ارح قلبا ينيب. ولا ينوب
ويدمي لا اندمال. ولا سريب
وطب نفسا تعاتب دون عتب
وترمي الطيبين. ولا تصيب»
تعاتب دون عتب عملية انتفاء ونفي لا مكان لها في قاموس اللغة مهما كان التبرير أو التمرير.. وفي مقدور شاعرنا انجاح العملية بمشرط جراحي بسيط لن يكلفه كثيرا.. مجرد كلمة مكان أخرى:
«وطب نفسا تعاتب دون كره».. أو دون حقد.. أو أية عبارة مماثلة تكتمل بها محصلات المعنى.
القصيدة كغيرها من الكثير من قصائده تسبح في فضاءات كلاسيكية ملبدة بذرات متقاطعة من الصور.. تتجاور احيانا.. وتتنافر احيانا.. حبذا لو حدد لقصائده اطارا يختصر الفكرة ولا يشتتها..
«تذكر وعدم» واحدة من قصائده التي تدور في فلك التعميمات والتهويمات.. والتساؤلات التي لا تلقى إجابة.. ولا توصل إلى نهاية.. ربما هذه المرة نصل إلى الاطلس لأن للشاعر فيها أهلاً وداراً:
«تغرب الشمس ولا يبلى النهار!
كم على المغرب من نجم يدار؟!
موئل العطر. وتاريخ الهوى
والصفيان. الدوالي. والجرار»
الصورة واضحة.. إنه يعني المغرب الشقيق بدوالي عنبه.. وجرار مائه. بل وأكثر:
«نحن والشمس اذا ما غربت
فلنا في الاطلس اهل ودار»..
وهنا مكمن الحب.. الذي اضافه إلى قصيدته نكهة محببة إلى القلب اكثر من سواها..
«يا منى الروح» قصيدة شاعرية جميلة وخفيفة الظل رغم بعض ملامح تعريفاتها العارية:
«هكذا عدنا جلودا
تتوارى بالمدارات
العرايا مثلما
كنا إلى دنيا السكينة
فإليها يا حبيبي
بعضنا لحم من الحرمان
بعض من ثرى الشوق
وبعض آه من دنيا السكينة»
هذه السكينة المسكينة كم اوجعتنا.. واودعتنا همومنا دون ان تترك لنا فرصة التنفس والبوح بما يضيق به الصدر.. وبما لا يحتمله الصبر.. مع اعتذاري لسكينة النفس وهدوئها الذي نتعرف عليه في احلام الرومانسية!
تجاوز محطة «الغروب» حتى لا يفاجئنا الغروب ونحن في منتصف الطريق. ادع مرثياته التي تنضح وفاء وحبا للراحلين طاهر زمخشري. والمليباري رحمهما الله.. ونحط معا. ونحيط معا ببغائه الجميل الذي يداعبه ويعاتبه:
«مرحبا يا ببغائي مرحبا
مات قبل الأمس تأثير النبا
لم تعد عندي صفيا حالما
تأخذ العذب. وتعطي الأعذبا»
لماذا؟ لأن ثرثرات العمر محسوبة.. الا ان ثرثرات الشاعر وببغاءه غير محسومة.. وتلك مشكلة.!
هذه المرة اخترت محطة ربما اكون احد نزلائها المعنيين بغضبة الشاعر وملامته:
«من ينقذ الشعر من نقاده الجهلة؟
لا الصبر ابقى. ولا في الجهل معتدلة
قلنا لهم. وصبرنا ريثما عرفوا
والآن قد عُرفوا بالزيف والعجلة»
نعم يا صديقي.. ان مُرَّ الشكوى من طبيب لا يملك تحديد المرض.. ومن دخيل على النقد لا يتملك ادواته.. أو من ناقد يخضع قلمه لعاطفة متأرجحة بين الحب والكراهية.
لشاعرنا مع ليالي الشتاء والصيف تجربتان.. أولاهما توصيفه للبرد والصقيع وهو يخاطب من يخاطب:
«تعالي فقد جن هذا الشتاء
وضعنا مدى رهجه المرهج
كلاصقة بالثرى قطرة
تطير. وتأتي لغير النجى»
المفردات هنا متراكمة «الرهج المرهج» «قطرة تطير» النجى» بل ويكتنفها غموض المعنى.. المسها في الكثير من مقطوعات شعره ليته ان يتخلص مما لا يُفهم.. واحيانا ما لا يُهضم.. فهو شاعر يملك قدرة الاحلال. وقدرة البعد عن الاخلال بالمفردات.. وتوظيفها حيث يجب ان تكون.. هذا عن تجربة شتائه ماذا عن تجربة ليالي صيفه وعلاقتها الوثيقة اللاصقة بتراب البدر؟!
«يا ليالي الصيف من يرثي لحالي؟
ولمن اشكو عذابات الليالي؟
كل ما املكه اني فتى
دائم التذكار. دامي الانفعالي»
في شراييني غرام. مرهق. وعرافات.. واسطار بالية.. وبقايا من طحينة مورقة كل هذا يسرده على سمع لياليه الدافئة أو الحارة.. ثم يطلب منها ان تتحدث:
«حدثيني عن سلافات الهوى؟
ولمن صبت. ومن أين قلالي؟
وامنحيني طلسما في خطفه
من رموز الشرق مدي. واعتدالي؟»
لا أدري ماذا يريد.. لعل ليالي الصيف الدافئة أذابت لديه جليد الليالي الشتوية. وسمحت لشجرة حبه ان تورق وان تعشق.. الا ان شاعرنا لم يأخذنا معه.. وانما تركنا في حيرة من امرنا دون استخلاص للنتيجة.. ربما لرغبة في ان يستفرد بها وحده دون غيره.. حتى ولمجرد وضوح ملامح الصورة الشعرية المستترة خلف ركام الابيات.. وضبابيتها..
«اتسافرين».. انه يسألها لمفردها.. اما نحن فعلى سفر لا داعي لأن ننتظر الاجابة من احد.. فالرحلة شيقة وشاقة في معظم فصولها.. كلمات الحب وحدها هي التي تكفكف عن جباهنا عرق المسيرة المتصبب:
«احبك. ما عدتُ اذكر حجم المحبة
احبك. انشودة مستمرة
وعشقة غيم
يسف بأذياله طعم الشموخ»
لماذا لم يعد يذكرها..؟ لأنه وظف كل أدواتها.. استغرقها إلى درجة الفرق.. لم يُبق مفردة الا وهي شاهدة على حبه.. خفق الروائح. الري الذي يغرغر الذهول! يا للذهول. انه يخاطبها كحمحمة متجذرة في عروق الثرى. تتحدث عن فلتات الجمال وعربدة الماء. والتقصف. والظمأ المدوي. والهزال المقرفص!! استعارات كثيرة وكبيرة لم يتسع فهمي لاستيعابها.. ربما لقصور في تصوري وعدم اقتداري على ربط هذه الحلقات بعضها بعض.. وربما لعوامل اخرى..
شاعرنا الصديق البخيتان غنى للثفلة. ولبوح وطلاقة. وللضحكات. وللطفولة وشقاوتها العذبة.
وأخيراً في تساؤله «كيف جاء؟!» ويبدو انه اكتفى من الغنيمة بالاياب وبهذين البيتين المعبرين:
«عربدي ما شئتِ يا آنستي
واشعلي دنياي حبا. عربدي
واكسري الصمت على مصراعه
واسحقيه. واجذبيني. واقعدي»
بهذه القوة.. وبهذه النهاية ودعنا شاعرنا معيض وقد عوضنا. وامتعنا بخته..


الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
المحررون
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved