الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th November,2006 العدد : 175

الأثنين 15 ,شوال 1427

جماليات المغامرة
قراءة في إشكاليات القصة القصيرة جداً
*د.حسين المناصرة :

(1)
تقديم
يفضي عنوان هذه المقاربة (جماليات المغامرة) إلى أهم إشكالية جمالية تميز القصة القصيرة جداً، وهي جمالية المغامرة الفنية التي تجعل هذه القصة المتناهية في الصغر (القصر) بنية سردية بالضرورة أولاً، وأنها غير قابلة للتأطير الجمالي السردي (العناصر الفنية للسرد) كما تعودنا عليها معيارياً إلى حد ما عند قراءة الرواية أو القصة القصيرة ثانياً، وثالثاً وأخيراً أن هذه القصة القصيرة جداً يتشكل وجودها من خلال نصوصها، وأنّ ما يمكن أن يظهر على هذه النصوص من جماليات هو ما يكشف عن جمالياته الخاصة، ومن ثم يمكن الحديث عن علامات جمالية عامة تنطلق من أو تتلاءم مع اختصار (قصيرة جداً).
ولا يعني هذا النص القصير جداً أنه سهل الكتابة، وأنه من هذه الناحية قد يغري المبتدئين في مجال السرد بأفضلية كتابته؛ على اعتبار أن أي نص سردي قصير يكتب بأية طريقة هو قصة قصيرة جداً.. هذا هو الخطأ والمنزلق الخطر غير الجمالي في كتابة القصة القصيرة جداً، أي أنها ليست مجالاً لمغامرة المبتدئين وتجاربهم الضحلة... إنها الكتابة العليا إلى حد ما في المجال السردي، بمعنى أن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث.. وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات.. أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية، لا بدّ أن يسبقها على وجه العموم باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها.
وعلى أية حال، مازالت القصة القصيرة جداً لم تحظ باعتراف النقاد بها؛ لأسباب كثيرة أبرزها ما يعود إلى هذا القصر الذي يعتريها، وإلى افتقارها إلى عناصر فنية واضحة كما اتضحت كثيراً من خلال القصة القصيرة والرواية، ومن ثم قد تعد كتابة القصة القصيرة جداً في المنظور النقدي كتابة مجانية؛ يستسهلها الكتاب المبتدئون كما استسهلوا كتابة قصيدة النثر أو نحو ذلك، وبذلك يعزف النقاد عن مقاربتها!!
(2)
اللغة السردية
ليس بوسع القصة القصيرة جداً إلا أن تتعامل مع اللغة من منظور التكثيف الحاد، فتغدو لغتها محدودة جداً من حيث عدد الكلمات. لكنها في الوقت نفسه لغة تحيل إلى عالم شاسع من خلال الإيحاءات والدلالات!!
إن اللغة الإبداعية هنا، لا تحتمل التفصيلات والشروح والحوارات كما هو الحال في الرواية أو القصة القصيرة أو المقالة أو ما إلى ذلك؛ فاللغة في القصة القصيرة جداً لغة إيجاز، وترميز، وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة... إلى حد أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أو مجازاً؛ بشرط ألا يخل هذا القصر ببنية القصة القصيرة جداً شبه المتكاملة!! ولا يعني هذا التكثيف للغة أن تغدو القصة القصيرة جداً مجرد عبارات متناثرة؛ كأنها جمل مشتتة لا رابط بينها، أو أن تكون جملاً شعرية غير قابلة للسردية؛ فمن يظن أن لغة القصة القصيرة جداً مجرد ومضة أو ومضات مفضية إلى الخاطرة أو قصيدة النثر، أو النص الهذياني... فحسب، هو في الحقيقة لا يكتب قصة قصيرة جداً، ولا علاقة له بكتابتها من قريب أو بعيد... وهنا يمكن التفريق بيسر بين نصوص القصة القصيرة جداً، وغيرها من نصوص فضفاضة، لا تمتلك من القصة القصيرة جداً إلا شكلها أو تسميتها!!
* * *
ما أن نتوقف عند اللغة السردية في قصص الملف الذي أعده القاص خالد اليوسف؛ حتى نكتشف تعددية في مستويات اللغة السردية، وهذه التعددية تنطلق من كون هذه القصص القصيرة جداً تشير إلى قاصين مختلفين في القدرات؛ فبعضهم يعد من مؤسسي هذا الفن في المملكة، نذكر منهم على وجه التحديد القاص جبير المليحان رائد هذا الفن، في حين يقف على النقيض منه من نجد في قصصهم القصيرة جداَ ملامح بدايات الكتابة السردية في هذا المجال، حيث تبدو قصصهم القصيرة جداً في المستوى الفني المتواضع، هذا ما نجده لدى بعض القاصين الذين كتبوا قصصاً لا تتجاوز مجرد محاولات أولية.
يضاف إلى ذلك أن كثيراً من القاصين ليست لديهم تجارب سردية واضحة أو مؤثرة في المشهد السردي المحلي، كما أن هناك قاصين كان ينبغي أن يحضروا ضمن هذه المختارات القصصية، لكنهم لم يحضروا ? على الأقل من خلال النصوص التي لدي وأذكر على سبيل المثال لا الحصر القاصين جارالله الحميد، ويوسف المحيميد!! إذا كانت لغة السرد لدى جبير المليحان دالة على كونها ذكية وبارعة في بناء قصة قصيرة جداً متماسكة بجماليات واضحة دالة على أنموذج القصة القصيرة جداً بجدارة، فإن قصتي (اختباء) لفردوس أبو القاسم و(إصرار) لنورة بنت سعد الأحمري، على سبيل المثال، مما يخرج عن دائرة القصة القصيرة جداً إلى دائرة القصة أو الأقصوصة، وذلك لما تحويه القصتان من تفصيلات وشروح ولغة فضفاضة.
وفي الوقت نفسه نجد عند قاصينَ آخرينَ إخلالاً إلى حد ما في حجم القصة القصيرة جداً، إلى حد أن تصبح القصة مجرد جملتين كقصتي (إضراب) لسماهر الضامن، و(بكاء) لصلاح القرشي علي سبيل المثال لا الحصر...!!
هل كل ما يكتب من قصص قصيرة جداً ينضوي جمالياً تحت هذا المسمى من جهة اللغة السردية؟!
لا أعتقد بذلك، فلو قرأنا القصص من جهة لغتها، لاكتشفنا أنها في تعددية مستوياتها ما بين اللغة الجمالية واللغة الركيكة؛ لاكتشفنا أن جزءاً كبيراً من هذه القصص القصيرة جداً حظها من الفن محدود جداً، خاصة أن بعضها يميل إلى اللغة الفضفاضة، بل أحيانا ًالركاكة اللغوية وأخطائها الإملائية والنحوية والأسلوبية!!
(3)
المجاز والتكثيف اللغة الإبداعية هي لغة فوق اللغة، فإذا كانت اللغة تعني التعبير عن المعاني المباشرة التي لا تحتمل التأويل عادةً، فإن اللغة الإبداعية لغة مجازية من الدرجة الأولى، أي أنها تتكئ على الصورة الفنية والرمز والغموض الشفافين ، فتغدو بذلك لغة مكثفة، وهذا التكثيف هو ما يجعل القصة القصيرة جداً تستحضر عند تحليلها أو قراءتها من فضاء المحذوف أو الغائب أو المحتمل أكثر مما هو حاضر في لغتها ودلالاتها المباشرة الكائنة في لغتها الحاضرة!! التكثيف اللغوي، إذن ، عنصر حيوي في بناء حجم القصة القصيرة جداً من حيث الشكل العام، ولكنه في الوقت نفسه، وبما ينطوي عليه من تشبيهات واستعارات ومجازات وثنائيات ورموز... هو الأساس في كتابة هذه القصة، وهذا تحديداً ما يفرّق من حيث الجوهر بين كتابتين: إحداهما جمالية تنتمي إلى عالم القصة القصيرة جداً، وأخراهما غير فنية ولا علاقة لها بطريقة مباشرة بكتابة القصة القصيرة جداً.
إن المشكلة الكبرى تواجه قارئ القصة القصيرة جداً بصفته قارئاً ناقداً هي أن يشعر أن هذه القصة القصيرة جداً على الرغم من قصرها، تحتاج إلى أن تكون أقصر مما هي عليه، وهذا يعني أن القصة القصيرة جداً قد تكتب فضفاضة ، فيها تطويل واستطراد، وأنها حتى تبدو في مستوى القصة القصيرة جداً من الناحية الفنية، فلا بدّ من ممارسة مزيد من الحذف والاختصار!!
* * *
أزعم أن كثيراً من القصص قد امتلأت باللغة المجانية التي يمكن الاستغناء عنها بغض النظر عن تحقق اكتمال القصة من عدمه، فبعض المترادفات، والحشو، والأوصاف.. مما ينبغي التخلص منه؛ لأنه لا يخدم مجاز القصة وتكثيفها.
يمكن أن نعطي مثالاً على ذلك قصة (الماء) لسعاد السعيد، حيث يوجد فيها كثير من اللغة المجانية، وأنه بالإمكان حذف نصف لغتها على الأقل، لتصير أكثر تماسكاً وحيوية؛ لذلك يمكن أن تكتب بعد اختصارها على النحو التالي: (تعطلت وسط الصحراء... حلّ الظلام دون أن تنبعث الحياة فيها... اتفقوا على السير إلى أن يجدوا الطريق المعبد.
تخبطوا في كتل الظلام... ومع ولادة الشمس، تساقطوا من التعب... لما جفت عروقهم.. تذكروا سر تعطل سيارتهم!!)
كذلك لم تخل بعض القصص الجيدة من المفردات المثقلة لبنيتها السردية، إذ يمكن حذف عدد من الكلمات من قصة (بحر وأنثى) لفهد الخليوي، دون أن يضعف بناء القصة إن لم يزدد قوة: (كانت.... قد.... و... الرحيب.. لم يكن بينها وبين البحر حجاب.. قرب الشاطئ المقفر.... نحو البحر)!!
ومن الأمثلة الجيدة على القصة المكثفة قصة (الفخ) لهدى المعجل.. حيث لا نجد فيها أية لفظة مجانية، يضاف إلى ذلك أنها متقنة من عنوانها إلى نهايتها!!
(4)
الاحتفاء بالعادي والمألوف لا يعني المجاز والتكثيف أن تهمل القصة القصيرة جداً العادي والمألوف، فتتحول لغتها إلى لغة الصفوة وعالمها الاستعلائي... لذلك يعد احتفاء هذا الفن السردي بكل ما هو عادي ومألوف في حياة الناس من منجز عناصرها الفنية الرئيسة؛ استناداً إلى منظور أن السرد يضغط أنفه بالواقع الاجتماعي أو المعيشي، وأن هذا دور القصة القصيرة جداً أيضاً؛ أي أنها تبقي على هذه الصلة الحميمة بالواقع، ومن ثمّ تبتعد عن المجرد والأسطوري والسريالي إلى حد كبير!!
طبعاً، لا يقصد من هذا الاحتفاء أن تختنق هذه القصة بالعادي والمألوف من منظور المباشر التقريري والسرد التاريخي!! على العكس من ذلك تماماً.. إذ إن الاحتفاء بالعادي والمألوف يجعل اللغة المكثفة تميل كثيراً على بنية الأسطرة والغرائبية في ثوب الواقعية السحرية، أي أسطرة الواقع من خلال نقله من حالته العادية و المألوفة إلى حالة أخرى غرائبية أسطورية، فتتحول بذلك القصة القصيرة جداً من مستوى الحياة الواقعية المألوفة والعادية إلى حياة جديدة يكتشفها الكاتب والقارئ معاً لأول مرة، فيشعر القارئ تحديداً أنه لم يعرف هذا الواقع من قبل، أو أنه لم يتنبه إلى ما فيه من قيم الأسطرة قبل قراءته لقصة قصيرة تتناول جزئية من هذه الحياة المألوفة له، و لم تكن صادمة أو لافتة أو مثيرة لكثير من الدلالات والإيحاءات قبل قراءتها في نص سردي قصير جداً!!
هل يعني هذا الكلام أن تقتصر القصة القصيرة جداً على العادي والمألوف فقط، وأن لا تدخل دوائر المجهول أو الغيبي أو الغرائبي ؟ بكل تأكيد، برز المألوف أو العادي بصفته ملمحاً تطبيقياً من خلال جلّ ما كتب من قصص قصيرة جداً، وربما من هذه الناحية تلتقي القصة القصيرة جداً بقصيدة النثر، باعتبار كلتيهما مما يحتفل بهذا الجانب (جانب العادي والمألوف)؟؛ ولكن ليس دائماً، ففي قصص هيام المفلح على سبيل المثال رمزية تتعالى كثيراً على الواقع المباشر!!
* * *
لا يبدو أن هذه القصص القصيرة جداً قد تجاوزت الاحتفاء بالعادي والمألوف، فهي كلها، باستثناء بعض القصص المعدودة على رؤوس الأصابع، نهلت من الواقع ومن المعيشي على وجه التحديد، ولكنها في الوقت نفسه ومن خلال استخدام جمالية الرؤية، حاولت أن تضيف إلى هذا العادي والمألوف بعض الدلالات العميقة التي تحيل المشهد السردي إلى أكثر مما يتوقع منه؛ أي إلى أكثر من عاديته، ولو تفحصنا هذه النصوص لوجدنا أن القاصين كلهم بلا استثناء حاولوا أن يكونوا على وعي بضرورة أن تتعمق في ذهنياتهم هذه الآلية الحميمة إلى بنية القصة القصيرة جداً، ومن ثم فإن علينا عندما نتناول هذا الأمر أن نقرأ ما بعد اللغة، أو البحث عن المغزى الذي يهدف إليه هذا العادي والمألوف!!
لو تأملنا ? على سبيل التمثيل قصتي (النصب) و(فقاعة) لطلق المرزوقي الذي يحتفي كثيراً بالعادي والمألوف في الواقع السياسي العربي، لوجدنا تلك الحالة العميقة من السخرية التي ينتقد من خلالها ما حدث لنصب الرئيس بعد اجتياح الجيش الأمريكي للعراق، أو ما يظهر عليه الثوري الانتهازي في تعبيره عن النضال الفلسطيني في الفنادق والقصور الأوروبية!!
(5)
الذات وإثارة الأسئلة لا شك أن الذات المبدعة للقصة القصيرة جداً تحرص دوماً وبوضوح على أن تعلي من ذاتيتها الواعية تجاه العالم من حولها، ويكون هذا الحرص من خلال إثارة الأسئلة وتعميق حالتي التشكك والسخرية ؛ فتغدو الكتابة السردية من خلال إشكالية الذات وإثارة الأسئلة أقرب ما تكون إلى البنية الشعرية ، وإلى إيقاعاتها الموسيقية العليا، وتحديداً إلى إيقاعات قصيدة النثر!!
لا بد من وجود هذه العلاقة الحميمة بين لغتي القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر، وأحياناً لا نجد من يفرق بينهما من هذه الناحية؛ فالطابع الشاعري الماثل في الموسيقى الشعرية، واكتناز اللغة بدلالات التساؤل والتشكك يقرب كثيراً بين القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر من جهة اللغة الشعرية أولاً، وكذلك من جهة الجماليات السردية التي استشرت في بنية القصيدة الحديثة ثانياً!!
لا يعني هذا الكلام أن تغدو التفرقة بين القصة القصيرة جداً وقصيدة النثر غير محددة، وخاصة عندما تنعدم الفوارق فتحيل هذه التفرقة شبه المعدومة إلى تسمية كلا النصين بمسمى النص المفتوح... فمثل هذا الوضع ? على الرغم من كونه جائزاً ومشروعاً ? يجعل إيجابية ظاهرة التراسل بين الأجناس الأدبية وتداخلها إشكالية سلبية إلى حد ما، وربما يستسهلها الكتّاب المبتدئون أو الهواة، فلا (تَفْرِق) معهم كثيراً إن كانوا قاصين أو شعراء، وإن كانت نصوصهم قصصاً أو قصائد، وغالباً ما يجيء هذا الوضع المجاني في الكتابة الإبداعية عند المبتدئين الذين يستسهلون أن توصف كتابتهم بأنها قصص قصيرة جداً دون أن تتحقق فيها شروط هذا الفن السردي وجمالياته، وفي الوقت نفسه يمكن كتابة نصوصهم على طريقة قصيدة النثر؛ لتغدو في زعمهم قصائد نثرية، وحينئذ يجد الكاتب المبتدئ نفسه أكبر من الأجناس الأدبية وما تفرضه هذه الأجناس من تقاليد جمالية!!
وعلى أية حال ؛فإن الذات الساردة أو المسرودة، وما تثيره من أسئلة تعيدنا من الناحية الإيجابية إلى انفتاح السردي على الشعري بطريقة احترافية، وهذا الانفتاح بدوره يسهم في تكثيف اللغة، ويزيد من مؤثراتها الموسيقية وتوتراتها الإيقاعية لدى المتلقين، وفي الوقت نفسه يبقي على جماليات الكتابة السردية راسخة أو واضحة المعالم!!
* * *
القصص القصيرة جداً مشبعة بالذات؛ ذات الأنا، أو ذات الهو الهي أو ذات النحن.. هم.. أنتم... هنّ.. أنتن...؛ فالذات هنا بصفتها الفردية أو الجماعية تثير أعماقها وما يتردد في داخل ها تجاه العالم من حولها أو في مواجهة ذاتها المتناقضة أو الازدواجية على الأقل، ومن ثم يصعب أن تخرج القصص المختارة عن هذا السياق... أما الأسئلة الإبداعية التأملية فإن معظم القصص تثير أسئلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ثم تغدو الأسئلة أحياناً خاتمة للقصة؛ لتثير المزيد من الانفتاح على العالم من حولها ، وهذا ما يجعل الأسئلة وسيلة للتكثيف والاستعارات المجازية مما يجعل القارئ أو المتلقي أكثر حميمية في مواجهة تفاعله مع القصة القصيرة جداً، المكتنزة أيضاً بتساؤلات السخرية إلى حد كبير؟!
في قصة (مواجهة) لنورة الأحمري تتبدى العلاقة الحميمة بين الذات المغتربة عما حولها من ظلام وأصوات ، وتتعمق إثارة الأسئلة الحائرة الساخرة التي لا تبحث عن إجابات بقدر كونها تثير حقيقة المواجهة غير المنصفة أو المتلاطمة الأطراف على أية حال.
(6)
المفارقة يتكئ بناء القصة القصيرة جداً على منظومة من المفارقات السردية المتشكلة من خلال السخرية والترميز والأسطرة والهذيان وثنائية الدلالة... فنجد أنفسنا نقرأ عالماً يمتلئ بالمفارقات والتناقضات والثنائيات، ومن ثم يمكن الحديث عن مستويات لتعددية القراءة أو اللغات أو الأصوات أو الإيحاءات، وحينئذ ما يظن أنه قد فهم بطريقة ما يمكن النظر إليه من زاوية أخرى لنجد المفارقة بين دلالتين فأكثر، فما يعتقد على سبيل المثال أنه وعي يغدو تخلفاً، وما يعتقد أنه حب يغدو افتراساً، وما يعتقد أنه سلام يغدو مهانة واستسلاماًً، وما يعتقد أنه أمن يغدو رعباً... وبناء على هذا لا بد من أن تكون المفارقة حالة ملازمة للواقعي والمألوف، فما يفهم على أنه الواقع والمألوف يتحول عموماً إلى ضد الواقع؛ أي إلى الغرابة والأسطرة!! ليس القصد من هذا الكلام أن يتعقّد معنى المفارقة القائمة على تناقضات الثنائية فأكثر في الدلالة والإيحاء، وإنما نقصد من ذلك أن كتابة القصة القصيرة جداً في سياقها الجمالي الحقيقي لا بد من أن تتحول إلى عالم سردي مكتنز بالمفارقات التي لا تظهر كلها من منظور المبدع، فالمعول هنا يرتكز إلى حد كبير على قدرة القارئ أو المتلقي في إنتاج أي نص قصصي قصير جداً في سياق المفارقات، فتتحول الكتابة النقدية حينئذ إلى صفحات كثيرة؛ مما يشعرنا بأهمية القصة القصيرة جداً في ضوء التلقي الواعي لها!!
* * *
تبدو المفارقة واضحة المعالم في ثنائية البناء الأسود الساخر الذي يجعل القدر في مستوى المفارقة البسيطة يطيح برأس السياف قبل أن يمارس دوره الاعتيادي فيقطع رأس المتهم المحكوم بالإعدام في قصة (القدر) لنورة الأحمري. =. في حين تبدو هذه المفارقة عالية التعقيد في صورة العالم المعقد وهو يتحول إلى لعبة كروية بين يدي طفل في قصة (الأرض) لجبير المليحان... كذلك تبدو هذه المفارقة فاجعة وهي تتدفق عن طريق تساؤل محير لبطل قصة (خيبة) لإبراهيم شحبي، الذي يطمح في أن يغزو فتاة حسناء من لابسات البراقع؛ لكنه يشعر بالخيبة وهو يتصور تلك التي أشارت له أنها قد تكون إحدى قريباته...!!!
أيضاً تكمن المفارقة بصفتها ثنائية متناقضة في تصوير النساء أو العلاقة بهن في قصص خالد اليوسف الثلاث: (تباين) و(الفقد) و(اصطفاء)؛ حيث تغدو المرأة الحاضرة بجسدها مجرد أوهام أو تخيلات!!
إننا لو تتبعنا إشكالية المفارقة في ثنائية اللفظة أو الجملة أو النص القصصي كله؛ لما انتهينا من كتابة مجمل هذه الإشكالية في أقل من عشرين أو ثلاثين صفحة!!
هذا بدوره يعني أن القصة القصيرة جداً تنطوي تحت فن السخرية السوداء إلى حد كبير، وينشأ في ظلها أو هذا ما ينبغي أن يكون مفارقات عديدة هي في الحقيقة تبيان لمصير قاص أو سارد يشعر في داخله بالغربة والضياع العميقين، وذلك من خلال علاقته بعالم مليء بالمتناقضات المشبعة بالسخرية السوداء؛ إلى حد أن يصير البحث عن الأمن رعباً، وأن يتحول استحلاب الطمأنينة والسكينة إلى ما يشبه السجن كما يتضح ذلك من خلال قصة (أمن) لجبير المليحان!!
(7)
التجريب وعناصر السرد تعد إشكالية عناصر السرد في القصة القصيرة جداً مسألة نسبية، فما تعودنا على طرحه بصفته عناصر تقليدية لبناء الرواية أو القصة القصيرة كالشخصية، والحدث، والزمكانية، وطريقة السرد، والبداية والنهاية، والحبكة... يعد من باب الممارسة النسبية إلى درجة كبيرة في بناء القصة القصيرة جداً، ومن ثمّ يترك هذا الأمر للمتلقي أن ينتجه بطرقه الخاصة؛ لأن هذه العناصر يفترض أن تكون هامشية أو مغيبة، ولا تحضر كإشكاليات واضحة المعالم كما هو حالها في الرواية على وجه التحديد.
ومع ذلك، فإن القصة القصيرة جداً بصفتها بنية سردية لا بد من أن تحتفظ بقدر معين من جماليات السرد أو الحكي، ولا يعني هذا أن تحتفظ بعناصر تقليدية كنمو الشخصية، والبناء الهرمي للحدث، واحتفاء خاص بالمكان أو الزمان وما إلى ذلك... فهذا مما لا يتطلبه فن القصة القصيرة جداً.
لكن الفرق سيكون واضحاً بين من يدرك أهمية وجود هذه العناصر وطرق استدراجها إلى ذهنية القارئ، وبين من يكتب نصاً قصصياً ليس له من جماليات هذه القصة إلا التسمية!! هل يعني هذا أن كتابة الرواية بمفهومها العام يعد من الناحية الجمالية أسهل من كتابة القصة القصيرة جداً التي تحتاج إلى تجربة واعية في مجال السرد عموماً؟!
الإجابة تعني نعم!! أي أن من يستسهلون هذه الكتابة ، ويعتقدون أنها صالحة لقلم كل (من هب ودب) وأن بإمكان القاص أن يكتب مئة قصة قصيرة جداً في بضع ساعات، انطلاقاً من سهولة كتابتها، فمثل هذا الاعتقاد خاطئ، ولا يمكن وصف هذه المغامرة غير الفنية بأنها تقع ضمن دائرة كتابة القصة القصيرة جداً على أية حال.
صحيح أنه ليس هناك مقياس عام لجماليات هذا السرد.. لكن أية قصة بإمكانها أن تكشف في المحصلة عن مقدرة كاتبها في تحقيق عناصر السرد كلها أو بعضها من خلال قصته، أو أنه مجرد هاوٍ ومبتدئ في هذا المجال الغريب عنه. هذه هي حال القصة القصيرة جدا؛ً أن تقع ضمن دائرة المغامرة والتجريب، وأن تسير في طريق الانفتاح على الأجناس الأدبية الأخرى وعلى الحياة، وأن تتقصد جماليات التحطيم أو التكسير لما تم التعارف عليه في بناء الحكاية التقليدية أو النص السردي التقليدي، مع كون اصطلاح المغامرة والتجريب هنا لا يعني الفوضى والتلاعب بعناصر السرد الحاضرة أو الغائبة على طريقة (خالفْ تعرفْ)... ما نقصده بجماليات المغامرة والتجريب أن يكون القاص واعياً لكتابة القصة التقليدية، وفي الوقت نفسه يعرف كيف يكتب نصاً قصصياً إشكالياً يحطم البناء التقليدي للسرد؛ فيبدأ من النهاية، أو يعتمد على تيار الوعي، أو يغيب الفكرة، أو يعطل الزمن... على سبيل المغامرة والتجريب في مجال هذه الكتابة السردية الأكثر تطوراً ومعاصرة!!
في ضوء ما سبق، ينبغي أن تحضر العناصر السردية في القصة القصيرة جداً، ولكن ينبغي أن يكون هذا الحضور على قاعدة التجريب والمغامرة؛ أي أن يكون القاص مدركاً لجماليات التجريب وواعياً لمسلكيات المغامرة الفنية من خلالها، وأنه مشبع بالعناصر السردية قديمها وحديثها، بل إنَ باعه طويلة في مجال كتابة القصة القصيرة أو الرواية أو كلتيهما معاً... وهنا يمكن أن يكون للقارئ أو الناقد حرية واسعة في استنتاج عناصر السرد، وفي التفاعل مع نصوص القصة القصيرة جداً؛ انطلاقاً من أنها نصوص قصصية، وفي الوقت نفسه هناك انفتاح وتداخل للأجناس في بنيتها السردية في المقام الأول؛ لا أن تكون العناصر السردية غائبة، ومن ثم ليس للقصة القصيرة جداً أكثر من تسميتها وثوبها الشكلي، كما يظهر في كثير من قصص الكتاب المبتدئين في هذا المجال؛ وذلك عندما استسهلوا هذه الكتابة، في حين كان ينبغي عليهم أن يستسهلوا كتابة الرواية على كتابة القصة القصيرة جداً التي يخدعهم مظهرها القصير جداً...!!
* * *
عند استقراء حالة النصوص القصصية المختارة في ضوء إشكالية التجريب وعناصر السرد؛ لا بد من أن نتوقف كثيراً عند هذه المسألة التي تقسم القصص القصيرة جداً إلى ثلاث مستويات على الأقل: القصة ذات الجملتين إلى حدود خمس جمل، والقصة الوسط ذات عشر جمل إلى حدود عشرين جملة، والقصة المطولة التي تطول لتقترب كثيراً من حدود الأقصوصة أو القصة القصيرة...!!
في هذا السياق الكمي النسبي يظهر التجريب بصفته حالة ذهنية إلى حد ما؛ أي أن القصة القصيرة جداً ليس بالضرورة أن تستخدم عناصر السرد التقليدية كلها، وهذا يعني أن الحالة النقدية ربما تكون أكثر تعقيداً عند قراءة القصة القصيرة جداً في ضوء مستويات هذا الفن؛ خاصة أنه لم يعد لها بداية ووسط ونهاية على الطريقة التقليدية للحكاية، كما أن الشخصية أوالحدث أو الفكرة أو الزمان أو المكان أو أسلوب العرض أو الدلالة... لا يمكن استيضاحها كلها معاً في نص واحد بالطريقة التقليدية؛ لأن القصة القصيرة جداً لا تتجاوز أن تكون (شفرة) في تعاملها مع هذه العناصر الجمالية مقارنة بكتابة القصة القصيرة أو الرواية!!!
فلو نظرنا إلى قصة (وجه خارطة) لخالد الخضري لوجدنا علاقة حميمة بين الوجه الإنساني في مظهره السلبي والخريطة الجغرافية؛ حيث يتحول المكان في هذه الحالة ومن خلال الوجه إلى بعد نفسي حاد في توصيف حركية الزمن التي حولت الوجه إلى صحراء!!
كذلك تبدو المقارنة بين الأمكنة: وجه الموظف الآسيوي المكدود، ووجه المدير الناعم ووجه أرضية المكتب الصقيلة مما يولد المفارقة بين الأمكنة عندما تكون مجالاً للمقارنة بين الأشياء والأشخاص في سياقاتها الرمزية... على هذا النحو تصبح الإشكاليات الجمالية السردية (وقد أشرنا فقط إلى إشكالية المكان في ثلاث قصص قصيرة جداً) مجالاً واسعاً للتجريب والمغامرة في سياق كتابة سردية جديدة، لم تعد تؤمن بالصيغ أو الجماليات السردية التقليدية كما تبدو في الكتابات السردية التقليدية على العموم!!
(8)
صدمة القارئ تعد جماليات صدمة القارئ من أهم محفزات الانفعال والإقبال على قراءة القصة القصيرة جداً؛ إذ ينبغي على القاص أن يحرص على توافر هذه الصدمة في قصصه القصيرة جداً، وعلى هذا الأساس تحدث الصدمة أو الدهشة على الأقل، بدءاً من العنوان الذي ينبغي أن يكون إشكالياً وصادماً، وغالباً ما يكون هذا العنوان خلاصة القصة، ومحركها الرئيس من البداية إلى النهاية... أي أنه مفتاح القصة ومغزاها.. كذلك، من المهم أن تكون بداية القصة فاعلة في توليد هذه الصدمة، وأن تكون النهاية إشكالية مفتوحة على غرار الإيحاء بنهايات متعددة، لا نهاية مغلقة قد تفقد القصة حيويتها وقدرتها على التغلغل في مشاعر القارئ وعقليته. ولا تعني هذه الصدمة أن يحرص القارئ على الإثارة الغرائزية عن طريق الجنس والإجرام على سبيل المثال، فالفرق واضح بين صدمة القارئ وإدهاشه جمالياً وبين إثارته الغرائزية غير الفنية؛ إذ تكمن في الصدمة جماليات الإبداع الحقيقية، ومن ثم تتشكل جماليات السرد في القصة القصيرة جداً التي تحرص على هذه الصدمة أكثر مما تحرص عليها لغة الرواية أو القصة القصيرة!!
هناك مولدات للصدمة تنتج عن غرائبية الشخصية أو الحدث أو الزمان أو المكان أو الفكرة... وعلى إثر ذلك لا بد من أن تكون اللغة معبرة ودالة على مستوى الصدمة، لا أن تكون ركيكة ومباشرة وفضفاضة... ولا بد من أن تترك اللغة الصادمة آثاراً عميقة لتوليد الدلالات العميقة، وإشعار القارئ أنه الشخصية الأذكى، وأن الكتابة السردية لم تكتب كلّ شيء لتشعر قارئها بأنه غبي يحتاج إلى أن يعرّف له الكاتب كلّ شيء، وفي حال أن تكتب القصة القصيرة جداً لقارئ غبي؛ فتشرح له كلّ شيء، فإنها حينئذ لم تعد قصة ذات رؤى ودلالات جمالية!!
* * *
حرصت جل النصوص القصصية القصيرة جداً على ان تحتفي مع ما فيها من تنوع بتوليد الحساسية الانفعالية والدهشة وإلى حد ما الصدمة الجمالية في نفسية القارئ وعقليته عندما يقرأها؛ لأنه لا يمكن لأي قاص في مجال القصة القصيرة جداً أن يتجاوز هذه الحساسية أو الصدمة؛ وذلك انطلاقاً من كونها أهم مبررات مشروعية هذه القصة لدى المتلقين لها...!! ومن يتتبع إيحاءات بعض العناوين يشعر بأن هذه الصدمة توجد بداية في العنوان، ومن ثم لا بدّ من أن ينتقل هذا الوعي الإبداعي والتلقي أيضاً إلى مجمل النص وهاصة بدايته ونهايته!!
إذا قرأنا قصة (أمن): لجبير المليحان في ضوء حساسية الصدمة... سندرك كيف يتحول الأمن إلى كابوس وظلام، والمفارقة أن يحدث بعد ذلك التنفس العميق دلالة على الراحة النفسية إثر الاستعدادات الأمنية في بناء مسكن؛ ليتضح لنا في المحصلة أن المبالغة في الأمن ظاهرة كابوسية وخانقة إلى حد بعيد: (أمن عبدالله : بعد أن أتمّ ترتيب الباب الضخم لبيته، ووضع النوافذ الضيقة في أماكنها، وحماها بشبك الحرامي القوي... تنفس عميقاً، ثم شرع ببناء البيت!...........).
(9)
التركيب لم تهدف هذه المقاربة إلى أن تقدم قراءة للمختارات القصصية التي جمعها الأستاذ القاص خالد اليوسف، ولو كان هذا هو الهدف لاخترنا مدخلاً ضيقاً جداً لقراءتها في ضوء إشكالية جزئية معينة، لأنه لا يمكن على أية حال من الأحوال أن تقرأ القصص القصيرة جدا على كثرتها وتنوع مستوياتها في ضوء تجربتها السردية كلّها؛ ولو فعلنا ذلك لخرجنا بقراءة غبية بكل تأكيد!!!
هناك نصوص قصصية من بين المختارات تستحق أن يقدم عنها قراءات نقدية عديدة، خاصة أنها لقاصين لهم باعهم الطويلة في مجال الكتابة السردية، ومن ثمَ فإن من أشرنا إلى بعض قصصهم، لم يكن ذلك إلا من قبيل الإشارات العابرة. على هذا النحو، كان الهدف من مقاربتنا هذه لفن القصة القصيرة جداً أن نلفت الانتباه إلى ما يعتري هذا الفن السردي المعاصر من جماليات المغامرة والتجريب، وأنه يحتاج إلى المزيد من فاعلية الاستقراء والدرس النقدي.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved