الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th November,2006 العدد : 175

الأثنين 15 ,شوال 1427

كيف قاوم اليهود الاضطهاد
د. سعد البازعي

أثناء كتابة المقالين اللذين سبق نشرهما في هذا المكان حول الفيلسوف ليو ستروس (وقد يلفظ شتراوس لألمانيته) تذكرت نماذج مختلفة من الاضطهاد الفكري غير تلك التي يذكرها ستروس في كتابه، وأود استكمالاً للموضوع أن أعرض لبعض تلك، علماً بأن الانتماء إلى العالم الثالث والعربي بشكل خاص كافٍ بحد ذاته لملء الذاكرة بالكثير من تلك الأمثلة، فما أسهل أن نجمع المجلدات حول تاريخ الاضطهاد الفكري في تاريخنا العربي الإسلامي الخاص. لكن حتى لو فعلنا فلن يكون من السهل أن نصل أن نخرج من تحليل تلك المجلدات برؤى تماثل في العمق ما نجد لدى الفيلسوف اليهودي.
الأمثلة التي تذكرتها لم تكن على أية حال مستقاة من التاريخ العربي الإسلامي على كثرة الأمثلة فيه، وإنما من تاريخ اليهود أو الجماعات اليهودية في التاريخ الأوروبي، التاريخ الذي قضيت سنوات في قراءته ومحاولة فهمه وأرجو أن يطالع القراء ما وصلت إليه قريباً في كتاب بات مهيئاً للطباعة. من تلك الأمثلة ما حدث لفيلسوف عاش في ألمانيا أثناء القرن الثامن عشر اسمه موسى مندلسون. وقصة مندلسون هذه فيها من الطرافة ما فيها من المأساة على مستوى الاضطهاد.
عاش مندلسون في عصر يعرف بعصر التنوير وكان اليهود من أكبر المستفيدين منه، فقد أدى تغير التفكير لدى الأفراد والحكومات بازدياد معدل التسامح تجاه الأديان الأخرى والجماعات الإثنية المختلفة إلى فتح الباب لليهود في مختلف الدول الأوروبية للاندماج في الحياة العامة بعيداً عن الغيتوات، أو المحاجر، التي كانوا يعيشون فيها لقرون والقيود التي كانت مفروضة عليهم. هذا مع أن قيوداً كثيرة ظلت دون تغيير، مثل المشاركة في الحياة السياسية والتعليم. في تلك الظروف استطاع مندلسون أن يحقق مكانة مرموقة في الوسط الثقافي والفكري في ألمانيا جعلته يلقب بألقاب منها (سقراط اليهودي) و(أفلاطون برلين) وأن يحظى بصداقة بعض أعلام الثقافة الألمانية مثل الكاتب المسرحي والناقد غوتهولد لسنغ الذي وصلت به الصداقة والإعجاب بمندلسون حد تأليف مسرحية بعنوان (ناثان الحكيم) جعل سمات بطلها (الحكيم) على قياس مندلسون. وللعلاقة بينهما تفاصيل ليس هذا مجال التوسع فيها. ما أود الوقوف عنده هو حادثة مثلت الاضطهاد الذي كان اليهود ما يزالون معرضين له.
في عام 1771 أرسل عالم لاهوت سويسري يدعى لافاتير إلى مندلسون كتاباً يدافع عن المسيحية وطلب من مندلسون الباقي على دينه اليهودي أن يبرر استمراره على دينه على الرغم من قوة الحجة المسيحية التي تضمنها الكتاب: كيف تبقى يهودياً والحق أمامك واضح؟ وبالطبع فقد وجد مندلسون نفسه في مأزق في مجتمع جاءت الظروف لتثبت أنه ما يزال منطوياً على الكثير من العداء على الرغم من تسامحه المفترض. وما كان من مندلسون إلا أن انكب على مواجهة التحدي بالعودة إلى تراثه ثم تأليف كتاب عنوانه (أورشليم: القوة الدينية اليهودية)، دافع فيه عن الدين اليهودي من زاوية تنويرية أراد منها دحض التحدي بما هو أقوى منه. فاليهودية، كما يبرزها مندلسون، دين عقلاني لا أهمية للوحي فيه ولا دور يذكر للماورائيات، أي أنه جرد اليهودية أو كاد من كونها ديناً سماوياً ليحولها إلى دين مناسب لعصر التنوير. وكان الذكاء هنا هو قلب الطاولة على لافاتير وأمثاله بإثبات تفوق اليهودية وكونها هي الأنسب لعصر التنوير من دينهم المسيحي. كأنه يقول: لماذا لا تصيرون أنتم يهوداً؟ غير أن هذا الرد القوي لم يخل من النتائج السلبية على مندلسون شخصياً، فقد أصيب في تلك الفترة نفسها بانهيار عصبي نتيجة التوتر الذي عاشه بعد تلقيه التحدي، وهو توتر دام لمدة عامين يبدو أنها كانت فترة تأليفه للكتاب. ومع ذلك فإن تأليف الكتاب نفسه لم يكن متصوراً قبل عصر مندلسون بنصف قرن. فلم يكن ممكناً مثلاً لفيلسوف يهودي آخر مثل سبينوزا، الذي توفي قبل مندلسون بخمسين عاماً تقريباً، أن يؤلف كتاباً يصرح فيه برأيه بغض النظر عن طبيعة ذلك الرأي، ناهيك عن أن يكون من النوع الذي اشتهر به سبينوزا وهو نفي القداسة عن الأديان بالكلية. ففي عصر مندلسون كان يمكن لمثله أن يبرر يهوديته وأن يتعدى ذلك إلى تحدي الآخرين إن لم يكن مباشرة فضمناً. لكن بالنسبة لسبينوزا لم تكن هناك وسيلة سوى الالتفاف والمراوغة اللغوية، كما نجدها في أحد أشهر كتابين له، وهو (رسالة في اللاهوت والسياسة)، كما يقول الناقد الإسرائيلي يرمياهو يوفل في كتاب ضخم عن سبينوزا جاء في مجلدين. فسبينوزا، الذي ادعى الدخول في المسيحية وغير اسمه نتيجة لذلك، هاجم الأديان من خلال اليهودية والتوراة تحديداً، ليتجنب غضب محيطه المسيحي (بعد أن طرده اليهود طرداً نهائياً). لكن قارئ الكتاب سيتبين سريعاً أنه يرفض قداسة الأديان وماورائياتها بشكل مطلق انتصاراً لحلوليته الشهيرة كما عبر عنها في كتابه الآخر (الأخلاق).
ما حدث في حالة الفيلسوفين يتكرر بالطبع في ثقافات كثيرة أخرى، كما يذكرنا ستروس الذي يعد من أبرز دارسي سبينوزا. لكن الحديث عن أولئك طويل وقد يدخلنا في دهاليز لا تختلف كثيراً عن تلك التي نتحدث عنها.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved