الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 6th December,2004 العدد : 86

الأثنين 24 ,شوال 1425

أنسام القصيدة القديمة
عبدالسلام العجيلي
ديوان شعر قديم، أوراقه قليلة، عثرت عليه يدي وأنا أبحث عن كتاب معين بين كتب أحد الرفوف في مكتبي رحت أقلب صفحاته فسقطت من بينها ورقة مطوية، بلون أخضر حائل فتحت تلك الورقة وإذا بها تحمل قصيدة قديمة، مكتوبة بخط اليد، هبت عليّ من خلال طياتها وسطورها أنسام ذكريات تعود إلى خمسين عاماً مضت.
الديوان بعنوان (أشعار في المنفى) لعبد الوهاب البياتي، والقصيدة عنوانها (صخرة الأموات) لعبدالوهاب البياتي، مكتوبة بخط عبدالوهاب البياتي ومهداة إلى (الأخ الدكتور عبدالسلام العجيلي) والورقة مذيلة بتاريخ مكتوب بخط مغاير، وهو آذار نيسان 1953.
سأروي القصة للقارئ في آخر هذا المقال ولكنني قبل ذلك أريد أن أتحدث عن أنسام الذكريات التي أثارتها في خاطري هذه القصيدة القديمة.
ترجع تلك الذكريات إلى ايام أولى زياراتي لبغداد في ربيع ذلك العام، عام 1953 ميلادي. قصدت تلك العاصمة العربية، سائحاً كعادتي في الأسفار، لأطلع على معالمها وألتقي بمن أعرف ومن لا أعرف من أبنائها. نشرت بعض الصحف هناك خبر وصولي فكثر زواري في أيام إقامتي.
كان من أوائل زواري سفيرنا السوري، ولم يكن غير الشاعر الكبير خليل مردم بك، وقد أكرمني بدعوة غداء أتاحت لي التعرف على عدد من شيوخ الأدب والفكر العراقيين كانوا مدعوين معي في مقر السفارة وتحلق كذلك حولي شباب الأدباء والصحفيين في بغداد، فأكثروا من دعواتهم لي، وتطوع بعضهم لمرافقتي في جولاتي، مع أني لم آت في رحلة أدبية ولا أحببت أن أثقل على أحد في تجوالي، وأنا المسافر المزمن المتنقل بين أصقاع الأرض القريبة والبعيدة. وفي أحد اجتماعاتي بأولئك الشباب تقدم إليّ أحدهم وقال لي:
ان الأستاذ عبدالوهاب البياتي، ولم تكن لي به معرفة شخصية، كان ذائع الصيت بين رواد شعر الحداثة في العراق، يعتذر عن اضطراره إلى السفر إلى البصرة فلم يستطع ان يلتقي بي، وانه يهديني هذه القصيدة وكانت تلك قصيدة (صخرة الأموات).
وعليّ أن أصدق هنا وأنا أتكلم عن شعر الحداثة وأقول عنه دوما أني أقبله ولا أعجب به ذلك اني بكلاسيكيتي المفرطة وتعلّقي بالتراث الذي كانت عليه نشأتي الأدبية ولا زالت، ظللت مرتبطاً بالشعر العربي بشكله العمودي، أحفظه وأنظمه وأعجب بما يستحق الإعجاب منه في القديم والجديد هذا لا يعني اني أنكر قيمة الشعر الحديث وأتجاهل ما حمل إلى الثقافة العربية المعاصرة من عناصر التلوين والتجديد. فأنا أقرأه وأتابع قراءته وتزخر مكتبتي بدواوينه من مهداة ومقتناة إلا أني أظل أرى ان تحلله من القيود الكلاسيكية جعل منه مطية لكل مدّع، فكثر غثّه وقلّ سمينه.
هذا عن الحديث من الشعر أما عن شعراء الحداثة فروابطي بالعديد منهم ليست قليلة روابط كثيراً ما تحولت إلى صداقات وإحدى هذه الصداقات تلك التي كانت بيني وبين عبدالوهاب البياتي. لم نلتق في بغداد حقاً إبان زيارتي تلك ولكننا تبادلنا مراسلات كانت، على قلتها، صلة وثقت بيننا بمتانة ثم إننا التقينا في مرات متعددة بعد زيارتي تلك لبغداد، وفي أصقاع متباعدة من العالم في ترحالنا أنا وهو بين تلك الأصقاع التقينا في مدريد، وفي عمان، وفي الرياض، ثم في دمشق التي أمضى فيها آخر أيامه وقضى فيها مأسوفاً عليه كل الأسف الأسف الكبير عليه لم يكن لمقامه الكبير في أدبنا العربي المعاصر فقط ولنضاله الفكري والسياسي، بل فوق ذلك لشخصيته المتميزة وكرم أخلاقه ونبل سجاياه.
عن الصلة التي ربطتني بهذا الشاعر الكبير وعن ذكرياتنا المشتركة ثارت أنسام القصيدة التي احتفظت بها، طوال أكثر من خمسين عاماً، بين صفحات واحد من دواوينه. ثارت تلك الأنسام عندما قلبت صفحات ذلك الديوان قبل أيام معدودات. وأنا الآن أروي القصيدة للقارئ، محتفظاً لنفسي بالقيمة الأثرية العزيزة لنصها المكتوب بخط يد مبدعها والقصيدة ها هي، فيما يلي:
وجيه الأدب والثقافة
صخرة الأموات
مهداة إلى الأخ الدكتور عبدالسلام العجيلي
نامي!
وقبّل شعرها
أختاهُ نامي
بيني وبين سمائك الزرقاء
أجيال من البؤساء
نامي !
صمّ عن الدنيا، بلون الخوف
كانوا، والرغامِ
عاشوا على الأوهام
كالديدان تنهش في الرمام
أحياؤهم موتى
وموتاهم خفافيش الظلام
لم يعرفوا نور السماء
ولا تباريح الغرام
أما نساؤهمُ
فجرذان تعيش على الهوامِ
بيني وبين سمائك الزرقاء
صخرتهم. فنامي!


عبدالوهاب البياتي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved