الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 6th December,2004 العدد : 86

الأثنين 24 ,شوال 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
الموت مرة واحدة
عبدالرحيم نصار
سعد البواردي
الموت مرة واحدة.. أما الحياة فمرتان.. أولى قبل أن يختطفه الأجل.. والثانية بعد أن يتوسده قبره ويبعث من جديد.. ولأن ما قبل الموت رحلة قطاف وحصاد تتأتى أهمية ما بعد الموت وما قبله. فالجسد وعاء.. أما الروح بما تحمله من عمل قبل أن يعالجها الأجل لأنها المحدد للمسار.. المجدد للمصير..
وشاعرنا الفلسطيني المتوهج شعوراً كما عرفته صوت ضمير حي يخاطب الحياة بوعي الأحياء من خلال شحنة متمردة على الصمت.. والانكفاء.. والذل الذي هو الموت نفسه حتى ولو كان الجسد يتحرك. والأنفاس تتلاحق. والصوت يجلجل ويلجلج ويملأ الأفق دوياً فوضوياً لا إشباع فيه.. ولا إمتاع معه..
إلى بلاده فلسطين جاء الإهداء.. صوت فداء معمد بدم الشهداء.. وبشعر الأحياء.. إنه يقول:
لأن هواك نبض القلب
بوح المدمع في الوجدان
لأنكِ في دمي نار الحنين.
ولوعة الحرمان.
لأنك سر هذا العالم المسكون بالأحزان
لأنك أول الخيل التي انتحرت في الميدان
اليك قصائدي الأولى..
مقطع جميل استهل به شاعرنا عبدالرحيم نصار ديوانه.. واضعاً يده على جرح يتعمق ويتعمق داخل نفسه. داخل كيانه. داخل عالمه المسكون برعشة الوجل والذل والمهانة.. ماذا تراه قائل في كلماته وهو يجتر كلماته حسرة. وحيرة؟!
حينما ينفتح الجرح نوافير ألم
ويفيض الحزن شلال نغم
ليس غير الكلمات الدامغة
تسعد العين التي تنزف دم..
أحسبني على غير وفاق معه.. فالكلمات التي ترصد وجه المأساة لا تحمل مواسات ما لم يكن لها صوت يقظة حسي يفجر من خلال سطورها بركان تمرد يقوض صمت السكون النفسي ويحيله إلى عاصفة مواجهة تتحدى الخطر.. وتتصدى لها جس الموت الواحد..
إن شكواه وضيقه من الواقع المهترئ.. عصر الدواوين لا تغيره الكلمات الناقمة.. وإنما الصدمات التي ترى في الموت من أجل القضية حياة.. وهذا ما أكده شعب فلسطين العظيم عبر نضاله.. واستبساله في وجه الطاحونة الصهيونية مستسهلاً الصعب لأن الحياة في منظوره حياتان. حياة حرية.. وحياة خلود..
(بلا هوية) مقطوعته التالية.. يتحدث فيها عن مسار حياة كل لاجئ مشرد عن أهله ووطنه:
هويتي.. أنا بلا هوية.
مشرد أهيم في شوارع الزمن
كالطائر الغريب. كالأغنية الحزينة
كالموت.. لا ميعاد لي..
الهوية يا صديقي لا تُمنح.. ولا تُصادر.. إنها عنوان وجود.. ويافطة بقاء.. قد يحاول القدر استلابها ولكنه أبداً لا يملك إلغاءها.. شعوب مر بها هاجس اليأس على وقع المأساة.. أمكن لها أن تنتزح من بين براثن عدوها شهادة حياتها.. وهوية وجودها.. المكان لا يلغي الزمان. والزمان لا يجرد الإنسان من طموحاته وأحقيته ما دامت الحقيقة الحية هي الدافع لتأكيد تلك الهوية التائهة وسط ضباب الخوف.. لن يغلبك أحد.. ولن نرضى لمسمارك الذي في يدك أن ينال من فألك وأملك.. أبداً لم تدخل الكفن كما زعمتَ.. ولن تبحث عن وطن مهما قسى في وجهك الزمن لسوف تشرق الشمس.. الأمل وطن والأهل وطن. ونحن وطن.. وفلسطين الحرة وطن.. غربتك اللعينة لن تطول.. ولن تحاكمك محاكم التفتيش ما دمت تملك إرادة الرفض متمسكاً بهويتك..
الغربة في شعر شاعرنا محورية تكاد تلمسها في جل قصائده.. ومن حقه أن يبوح بوجعه. ومن واجبنا أن نتلمس ذلك الوجع. أن نمنحه دفئ المكان.. ووفاء الخلان.. فالجسد واحد.. والمصير واحد..
شعري أنا أغزله من دمي
من بؤس أيامي. وعمري الدمار
من لحم قلبي. من أسى أمتي
من رعشة الموتى. وجوع الصغار
من غربتي في وطن راعف
عيشي به ذل. وهمتي انكسار..
إحساس بالمرارة أتوجع له.. ولكن!
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
لستَ وحدك في عالمنا الذي ذاق طعم المرارة.. مُهاجراً. أو مُهجراً.. شارداً.. أو مشرداً.. ظروف الحياة القاسية ومتغيراتها تلعب دورها دون استئذان.. وأحياناً دون رحمة.. لا بد من التحمل وتقبل الواقع المر إلى حين الفرج وأخاله قريباً..
في قصيدته إلى شعراء الأرض المحتلة ينازعه الشوق والنجوى..
قصائدكم قرأناها
زرعناها بجرح القلب للجيل الذي يأتي
حفرناها على الجدران والأبواب
حملناها بليل اليأس زيتاً في القنايل
واطبقنا عليها الجفن والأهداب
بعيداً عن يد الموت..
بهذا الاحتضان الشعوري استقبل شاعرنا عبدالرحيم نصار شعر زملائه داخل الأراضي المحتلة لأن خطابه الذي يقرؤه على لوحة المستقبل في توحد معه.. وتلاقي مع مضامين ودلالاته.. حركة الأرض. وكرامة الشعب. وقدسية الحياة.. وكبرياء المستقبل.. وطموح الآتي.. ومع هذا التلاقي الوجداني لا ينسى التذكير بوحشته ووحدته وغربته..
أحبائي أضعنا العمر في المنفى وفي الجزر الخرافية
نلوك الصخر.
نلهث في صحارى الملح والشمس
نلف الجرح بالجرح.
نمد رقابنا كالبهم للذبح..
نراكم كالجبال الشم خلف النهر والأسوار
ونلمحكم حصاناً جامحاً كالبرق في جفن الدجى الفاني
لماذا كل هذا يا صديقي.. أنت تعذبنا بعذابك كل مرة.. ألا يكفيك أن شعرك صوت حياة ومشاركة تصدح به دون مساس.. ودون مصادرة.. خفف عن هواجسك الوطء والإغراق في الشكوى.. الشكاية في بعض حالاتها ضعف..
لشاعرنا مع الموت مرة واحدة.. وقفة تحمل الكثير من التساؤلات.. أخال القصيدة هي الأكثر عمقاً.. والأجمل إيقاعاً ووقعاً على النفس.. أن يرسم بريشته الشعرية لوحة تحمل معنى حياة الموت. وموت الحياة. في تزاوج وتقاطع معبر عن تصورات ما سيأتي:
اعلم ان الذي سوف يأتي
على غفلة. مثل برق الفجاءة
كي يخطفنا واحداً. واحداً من جبين الوطن
ويغتال زهو الرجولة فينا
ووجه البراءة..
ويتساءل. أليس هو الموت؟ أليس هو الغدر بعينه على أيدي الزمن؟ ويمضي محللاً ومعللاً ما قد يأتي:
الذين يموتون تحت القذائف. والنار. والردم
لم تأتِ آجالهم بعد.. لكنها المذبحة!!
حين تبدأ في الطحن يختلط اللحم بالعظم
يمتزج الدمع بالدم
تهوي طيور السماء بلا أجنحة..
ويتساءل شاعرنا عن أولئك الذين يذوبون كالملح في الماء.. وكالسمك المتعفن بين النفايات. وكالدود في الأقبية:
أكانوا يموتون لو لم يهونوا على النفس
أو يسرفوا في التنازل عن حقهم في الحياة
أكانت تدوسهم الأحذية؟!
يريد شاعرنا أن يؤكد حقيقة واحدة لا تقبل الجدل مؤداها أن الشهادة حياة.. وان التنازل عن الحق موات حتى ولو كانوا يملأون ما حولهم صخباً وضجيجاً..
ومن مقطوعة الموت إلى أخرى لا تقل عنها إشباعاً وإمتاعاً.. إنها برقيات إلى الوطن الراعن المجلود وراء القضبان.
يسأله ماذا يعرف عن قلب شاعرنا المطعون. وعن جرحه النازف. وعمره المهدور سدى.. ماذا يعرف عنه:
عشرون عاماً قبل الصلب.
والعالم يركض في عيني كالبرق الخاطف
وأنا واقف. لا أبرح قيدي أبداً
عشرون خريفاً بعد الصلب
وأنا مكسور القلب
أتعلق في صدرك كالطفل الخائف
لا أشعر أني شيء
لا أشعر أني إنسان..
ولأن شاعرنا جزء من وطنه لا يطيق لوطنه الصمت. وإنما يستعجله الحديث:
حدثني فأنا منك. إليك
حدثني عمن سملوا عينيك
عمن غرزوا الخنجر في جنبيك
حدثني عن أيام العرب السوداء
من أيار الأسود حتى أيلول الأحمر
حدثني عن تل الزعتر
تطول بشاعرنا التساؤلات عبر شريط طويل من النكبات والنكسات التي حاقت بأمته ولحقت بقضيته. ومع هذا الركام من الإحباط لا يركن إلى اليأس. أن يتطلع إلى فارس جديد منقذ:
يا وطني المحزون. إني أتنبأ.
انتظر الآن بطلاً يصعد كالنخلة.
يخرج من رحم الأرض المحتلة
يتفجر كالبركان. فلننتظر من سيكون
هذا البطل المجنون!!
لعلهم أبطال كثر يا صديقي الشاعر لا بطلاً واحداً سوف تشاد أعمدة فلسطين المحررة على أيديهم.. أبطال الحجارة الذين يواجهون مجنزرات المحتل بصدورهم العارية. ويجابهون قطعانه بأجسادهم التي لا تعرف الخوف ولا تهاب الموت.. ولا تخشى الاستشهاد من أجل كرامة الأرض وشرف العرض.
ماذا عن اسطوانته المشروخة؟ هل انها تختلف كثيراً عن اسطواناتنا التي ندندن بها صبح مساء دون أن تتغير؟!
على شفاه الناس في الشوارع
أغنية مذبوحة خرساء
يشدو بها العمال في المصانع
والكادحون في المزارع
والتائهون في موانئ السفر
أغنية كغضبة القدر
كأنها الموت. أو الفداء
أو عرشة الذهول في الأصابع
يفسرها لنا بعد مجموعة من المقاطع الشعرية:
على شفاه الناس اسطوانة مشروخة تدور
آخر هذا العام يرحل الغزاة
أو يسقط الطغاة
آخر هذا العام تصهل المدافع
ولأن اسطوانته أشبه بالحلم الغيبي الغبي فإنه يلجأ في نهاية المطاف إلى قارئة فنجانه..
بصارة الحي تقلب الفنجان
تقول: ربما أصدق النبأ
لو كان في الصدور جذوة الإيمان
لو أنهم لم يذبحوا الفداء
واحترقوا في الشمس. والظمأ
لو عرفوا السماء..
كل هذه الأغنية. أو الأمنية اليتيمة مجرد هاجس سرابي يدور في فلك اسطوانة مشروخة يتردد.. وما يلبث أن يتبدد لأن الفداء يذبح. والإيمان بالقضية يعوزه الصدق.. وتحوجه إرادة الحياة التي لا تقهر..
(غلبت الروم) و(اعتذار إلى الوطن) و(المخبر) و(نبوءات قديمة) و(حتى الآن) و(طفلة النهر) قصائد مليئة بالشجن تتعامل مع المعاناة. وتكتوي بنارها وددت لو أن الحيز يتسع لذلك.. أستسمح شاعرنا في تجاوزها إلى ما بعدها حيث قصيدته المقفاة.. والموزونة (لحظة حزن) لقد اصطفاها لأمه التي عاشت ورحلت عن حياتها وهاجسها الأول والأخير فلسطين:
سيلي ينابيع البكاء ويا جراح القلب سيلي
لا تسألي أي انفجارات الأسى هدت أصولي
رحماك. ما عرف الورى مثل التياعي أو ذبولي
فلقد خسرت حبيبتي الأولى وكل غد جميل
وشربت آخر قطرة في الكأس من همي الثقيل
كان أمام أمه لحظة احتضار.. وانكسار.. ومرار.. ماذا بيده أن يصنع لا شيء إلا بعض تشبث بالحياة.. ألا تعجل الرحيل:
أماه وارتعشت يداك فرحت أغرق في ذهولي
وصرخت آه. تمهلي لا ترحلي قبل الرحيل!
ما زال فينا الشوق للأقصى وأعراس الجليل
ها نحن نصبغ بالنجيع مجاهل الدرب الطويل
لم يبق من مشوارنا الدامي سوى شرف الوصول
هكذا كان يمنيها بالحلم كما لو أنه على الأبواب أملاً في أن تفارق دنياها بأمل قادم.. رغم شعوره بوقع الهزيمة.. وواقع الهوان.. ومن رثائيته لأمه. إلى وقفته الأخيرة.. حيث المحطة الأخيرة لرحلتنا مع شاعرنا عبدالرحيم نصار عبر ديوانه (الموت مرة واحدة).
وقيل لي:
لو قلتَ مدحاً في طغاة الأرض لأغتنيتَ
وصرت ذا فارهة!! وبيت
قلت: وكيف انحني
وكلما ذكرتهم بالسوء..أو عريت
شعرت إنني أنا الذي أعطيت
ديوان (الموت مرة واحدة) مذاقه ونكهته واحدة.. انه طبق شعري عناصره القلق. والاحتجاح. والرفض. والتمرد. وهو طبق يُعده مطبخ الخوف على المستقبل.. يتناوله جياع الإحساس بالضياع.. والمحبطون بواقع عالمهم المسكون بالتردي. والتعدي..
أقول لشاعرنا الذي أشاطره شعوره بالغبن والغضب: إن مأساتنا ليست قاصرة على المحتل وحده. ولا على الذين يمدونه بالمال والسلاح والحماية.. وإنما أيضاً وهو الأشد خطورة تكمن مأساتنا في داخلنا.. وبالذات في شريحة من أبناء فلسطين باعوا ضمائرهم للشيطان لقاء شيكلات أو دولارات رخيصة.. أعني بهم الجواسيس من داخل الأرض المحتلة.. الذين يتعاونون مع أعدائهم لاغتيال إخوتهم وأبنائهم.. ومع هذا تبقى فلسطين جرحاً نازفاً في جسدنا العربي والإسلامي يستصرخ.. ويصرخ.. وأخاله سينتصر بإذن الله لأن الحق إلى جانبه.. ولأن إرادة الحياة أقوى من الموت مرة واحدة.. عاشت فلسطين بأهلها ولأهلها حرة مستقلة متوجة هامتها بالانتصار يا صديقي الشاعر الموهوب عبدالرحيم نصار..

الرياض ص. ب 231185
الرمز 11321 فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved