الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 07th March,2005 العدد : 96

الأثنين 26 ,محرم 1426

البناء داخل جدران قديمة
قراءة لمجموعة عبدالله الناصر القصصية (سيرة نعل)
(2 - 4)
عبدالله الماجد

إنها الحياة، فيها القوة، وضدها الضعف، فيها الحياة والموت، فيها السعادة الحزن، هذه الجدلية الدائبة الدائرية، يسكن في إهاب البشر الذين يملأون آفاقها القوة والوهن، فما الحياة إلا واهنة كوهن بيت العنكبوت، إنه المعنى الذي يستقر في فكر (أم زيد) وهي تلاحظ تناقضات الحياة والجدل الدائب فيها:
(وتطرق مسترسلة في التفكير.. فراشة تتغذى على الزهر، وعنكبوت يأكل الفراشة، وقط يأكل العنكبوت، وثعلب يأكل القطط، وذئب يأكل الثعلب، وصياد يقتل الذئب، ونوازل الأيام تأكل الصياد، يا لها من دورة، يا له من عالم، لا يفنى ولا ينتهي، ينسل وينتج ثم يدفع إنتاجه في باطن الأرض، إنها حياة هشة، وواهنة مثل بيت العنكبوت).
(خيوط العنبكوت ص25).
في قصة (أمطار العطش) تهطل الأمطار، وتدق بعنف على نافذة غرفته، لكن وقع المطر المحبب في الصحاري في بلاده، يتحول هنا إلى صوت (مخالب ذئب تنهش رأسه المفزوع) وحينما ينام ورغم أن المطر (يمارس نشاطه السرمدي في الدق على أوراق الشجر) فإنه (يحلم... يحلم بصحراء وشمس حارقة، وأرض تحرق أقدامه الغضة، والعطش يتيبس في جوفه) ها هي الصحراء المسكونة بالقحط والعطش وتجهم الحياة، تتلبسه وتسكنه في حلمه.
(عبدالله الناصر) الذي أمضى ما يقارب نصف حياته في الغرب بحكم عمله أينما حل يحمل معه صورة قريته وواديها، إن أجمل المشاهد التي يراها في غربته تتنامى مع صورة القرية والوادي والصحراء وتتغلب هذه الأخيرة على مفاتن الأولى، ها هو يذكرنا بذلك في قصته (الإيغال في ارتياد الأمكنة) من مجموعته (أشباح السراب) (ص19).
(التمعت في ذاكرته صورة للوادي، والقمر يتكئ على أعسب النخيل يبسط ضوءه على رمل الوادي.. وشبان يغنون وقد استلقوا على وسائد الرمل البارد.. ريح باردة رخية تهب، تحمل معها رائحة الماء المشبع بأرج النعناع والبرسيم، لو طوف في الدنيا ليجد مثل ذلك المكان والمناخ لقضي العمر دون العثور عليه، انتفضت في داخله يقظة الحنين.. كان مهيأً فاستجاب، انثنى على وسادته، أراقت الذكريات دموع قلبه).
وفي قصة (أمطار العطش) يولد صوت وقع المطر وهو يدق على نافذته الزجاجية في غرفته بأحد الفنادق الأوروبية صورتان في مخيلته، واحدة تجعله يحاول الاختفاء ولجم الصوت باللحاف هي هذه التي يسمعها، وفي هذا المكان البعيد عن قريته وعن صحرائه تفصله عنها آلاف الأجيال، والاخرى تجعله يصغي السمع، لأنه يتذكر ويُمني نفسه بأن يكون هذا المطر في مكانه المحبب الذي يريده، وها هو يُفصح عن مكون ما بداخله:
(يخيل إليه وهو يسمع هسيس المطر أنه حين يفتح النافذة سيرى صحراء شاسعة مبلولة، تفوح منها رائحة الأرض وشجيرات الخزامى والشيح وأن رئته سوف تمتلئ بذلك الهواء الساخن الممزوج بنكهة الأرض ونفحات الغيث، وأن عينيه ستمتدان نحو الأفق البعيد حيث الفضاء الشاسع الرحب، والرطب، المبلول).
(أمطار العطش ص13).
لكن هذه الصحراء التي تشعل نار القلوب، وتثير الوجد والهيام حينما يكون ابن الصحراء بعيداً عنها فتثير في نفسه مفاتن الطبيعة الخلابة التي يراها في سهوب النصف الغربي من هذا الكوكب، فيفزع إلى هواه الأصيل، هذه الصحراء ليست دوما هي تلك الحالة الرومانسية الحالمة الساكنة، كسكون الشمس في وديان الغرب، هذا (السكون المشمس، المنعش) له وجه آخر، إنه وجه الموت وفقدان الأمل الذي تمثله هذه الصحراء، قيعانها ذات النماء هي ذاتها في أوقات أخرى قيعان الموت، فيها النماء والعشب ورائحة الخزامى والبعيثران والنصي والقرقاص، وفيها من الأنعام ما تحمل في بطونها استمرار نمو الحياة، لكنها المهلكة، رمالها الناعمة الرائعة اللون كأنها الذهب، تتحول إلى بحر مُهلك، إن الكاتب الذي وصف مفاتن الصحراء وجمالها في القلوب، ها هو يصف وجهها الآخر المرعب الذي يحمل رائحة الموت والهلاك. قصة (أم رجوم) تصف هذا الرعب، الذي تمثله هذه الصحراء إذا ما غفل الإنسان عن دروبها:
(هذه الصحراء تلتقم من يضل في طرقاتها فتحوله شمسها المحرقة وجفافها القانط إلى عظام بيضاء خلال أيام).
(قصة أم رجوم ص75).
في هذه القصة (أم رجوم) يفتح الكاتب (صندوق الذكريات) فينهال مخزون الذاكرة المتوارثة عبر أجيال تحفظ ما لهذه الصحراء من أسرار وحكايات عبر أنثربولوجية ممتدة منذ أن بدأ تناقل الاخبار والقصص عن حياة الناس في الصحراء، لقد كان العرب الأوائل، من أهل المدن يبعثون بأبنائهم إلى الصحراء يتعلمون خشونة الحياة، ويتدربون على المشاق والصبر، ومن مخزون هذه الثقافة يقول الكاتب في إحدى قصصه في مجموعته الثانية (حصار الثلج).
(لماذا وجوه أهل المدائن البحرية مكسورة ومسكونة بسوء الظنون؟. ولماذا وجوه أهل الصحراء ينبعث منها شعاع الثقة واليقين كشمس حارقة).
(وجه خلف الضباب ص18).
لقد عرف أهل الصحراء أسرار التعامل والحياة فيها، وخبروا دروبها وعرفوا أشجارها وترابها وجبالها ومصادر المياه فيها، فأكسبتهم صفاتها، وأشعارهم تحفل بكل ألوان الحياة فيها وأسماء أماكنها وحتى طيورها وحيواناتها وأشجارها، وكان عرب الصحراء يقيمون (رجوما ) يهتدون بها للوصول إلى أماكن معينة فحين ترى (رجما ) في الصحراء فربما يدلك إلى مورد ماء أو إلى طريق يؤدي إلى آخر، والرجم (شاهد) من الحجر كعلامة مميزة، ولقد أصبح لمعظم تلك الرجوم أسماء معروفة نسبة إلى أماكنها، لكن (أم رجوم) القرية أو المحطة في هذه القصة هي العلامة الدالة على الطريق المتجه إلى المدينة وربما كان لاختيار الكاتب هذا الاسم دلالته تغيب عن المتجهين إليها، حيث تظللهم (أرنب) ظل سائق السيارة التي تحمل مجموعة من الركاب المتجهين إلى المدينة يطاردها، فها هي أصغر كائنات الصحراء وأكثرها خوفا، تتسبب في اشراف مجموعة من البشر على الهلاك في الصحراء، إنها تناقضات الصحراء هذه الغامضة الفاتنة ومفارقاتها، وهذه القصة الجميلة تصور أيضا هذه المفارقات، وتلك التناقضات، حيث يعجز الرجال الأسوياء المبصرون، الذين أصابهم فزع الضياع في متون ووهاد الصحراء، بعدم القدرة على تلمس طريق الحياة، ويأتي انقاذهم على يد رجل ضرير، لكنه بصير بأحوال الصحراء يختزن خبراته وخبرات الأجداد فهو يعرف (أنواع الشجيرات والأعشاب والحجارة وتراب الأرض)، ثم هو يعرف الاتجاهات تحددها النجوم في السماء وموضع القمر في هذا الوقت ويعرف الأرض من نباتها وحجارتها وترابها، وها هو يحدد لهم المسافة بينهم وبين اتجاههم (أم رجوم) بأربع ساعات، بعد أن تلمس نباتها وحجارتها وشم رائحة ترابها قال لهم: إن هذه الأرض ليس بها موارد ماء وليس حولها قرى، إنها (مفازة مهلكة من ضاع فيها هلك) وبعد جهاد ومعاندة مع الحياة والموت، وحينما لاح وجه الصباح كانت (أم رجوم) أمامهم.
هذه القصة المتميزة، تؤكد أن الكاتب قد بنى خيمته في جوف الصحراء، وليس على أطراف القرية المطلة على الصحراء، وتؤكد أنه كان يبني داخل جدران قديمة تحوي أسرار وأساطير متنامية مع الزمن.
ومن أغرب القصص التي تضمها هذه المجموعة، قصة (قربة القرقر) عناصر هذه القصة: راعي أغنام القرية (هاجد) الذي (يَسْرح) بالأغنام كل صباح يؤوب بها مع حلول الليل و(تمّام) أحد أعيان القرية، و(تيس) عثروا عليه بين أغنام (تمام) الذي لقي حتفه قتيلا بسكين وجدوها قائمة في صدره، رغم أنه كان مشهودا له بالسلوك الطيب، وليس له عداءات فلم يختصم في قضية مع أحد، أما (هاجد) فهو مجرد راع لأغنام القرية، وكان محط رعاية أهل القرية لضآلة قيمته الاجتماعية بينهم، لكنه في أحد الأيام عقد الدهشة في عقولهم حينما وقف في وسط سوق القرية وظل يقول بأعلى صوته:
(الله يلعنكم يا أهل قرية القرقر، تف، ثم تف، على شواربكم ولحاكم. كلكم نسوان، ما فيكم رجل واحد يستحق أن أسميه رجلاً والشجاع منكم يتقدم إليَّ!!).
(قصة قرية القرقر ص55).
ووسط استغراب الجميع لهذا الموقف الذي فوجئوا به من أضعف إنسان في قريتهم، فلم يسمع اعتراضا على موقفه، فأخذ يملأ كفيه من التراب، قبل أن يغادر مجلس سوق القرية وينثره على من حوله، لقد استسلم أهل القرية لدهشة هذا الموقف، وظن بعضهم أن (هاجد) تلبسه جان، وفي ظل تلك الأحداث الدراماتيكية) غادر قريتهم في آخر النهار، ينطوي هذا الحادث على سر غامض في حياة القرية تفجر بعد أيام بمقتل (تمام) وتعقدت الأحداث بظهور هذا (التيس) الغريب بين أغنام (تمام) فوضعوه بعد مداولات في مركز القرية (فتبين أنه تيس أصيل، فصار الناس يدخلون إليه معيزهم في استحياء، ولما ظهرت الجودة في نسله، صار أهل القرية يتقاطرون على مكانه بمعيزهم وعظم شأن التيس، وعمت شهرته آفاق القرية) وحينما سمع أحد الحكام (الكبار) بأخبار التيس، طلب من حاكم القرية شراءه، فرفض هذه الأخير، رغم مبالغة الحاكم الكبير في دفع أي ثمن، ولم يجد بداً من ذلك غير التهديد بالغزو، وجمع حاكم قرية (القرقر) وجوه أعيان البلدة يطلب رأيهم فأجمعوا على المواجهة، واصروا على أنهم أقوياء، لكن أحد الحكماء الذي ظل صامتا يهزأ بهم ويقول: (أنسيتم أن راعي أغنامكم لعنكم وحثا في وجوهكم التراب فلم تردوا عليه بكلمة، فكيف تواجهون حاكماً جباراً يملك جيشا يحطمكم) وأشار عليهم بأخذ الثمن درءاً لحرب تشردهم، لكنهم لم يأبهوا لرأي هذا الشيخ الحكيم فأعلنوا الحرب التي راحت تفتك بهم، فألح حاكم القرية على شيخهم أن يُسعفهم بالرأي، فاشترط عليهم ألا يعصوا برأيه فتعهد له الحاكم بذلك فقال الشيخ:
(تأتون بتيسكم فتذبحونه في سوق القرية بتلك السكين، تماما كما فعل راعي الغنم حينما ذبح تيسكم (تمام) لأنه انتظر نجدتكم له حينما أراد الاعتداء على شرفه فلم تنصفوه).
(قصة قرية القرقر ص59).
العناصر الفنية في هذه القصة، محكمة، بل هي غاية في الإحكام فهي تستمد صدقها وتأثيرها من هذه الأسطورة الميثولوجية، التي توشي أحداث القصة وهذه الأسطورة في هذه القصة، هي ما كنت أعنيه بخلق الكاتب لأسطورته المعادلة للأسطورة الشعبية المعروفة، إن الاحكام في خلق الكاتب لأساطيره في هذه المجموعة يتمثل في أنها نبت صادق من أساطير المجتمع الشعبية المعروفة وموازية لها، إن الكاتب في هذه الأحوال لا يبني داخل جدران قديمة وحسب، وإنما هو يبني جدرانه الموازية لهذه الجدران القديمة.
إن أسطورة (قرية القرقر) بعد هذا الثراء الفني، تقول لنا أموراً كثيرة لعل أهمها أنها تلخص الوضع العربي المزري في حقبته الراهنة هذه التي وصل فيها إلى الهوان، والاذلال، وإلى عدم تقدير الأمور ومؤثراتها، وإلى عدم فهمه الحقيقي لاستعمال مصادر قوته وحمايتها، وإلى عدم المبادرة في معالجة الأخطار قبل وقوعها.
وعلى نحو تعتبر قصة (رفرف) استمراراً لهذا الاتجاه الفني لدى الكاتب خلق الأسطورة والبناء عليها، تبدأ هذه القصة على النحو التالي (وسوف أنتقي لحمتها الأساسية، دون استطرادات الكاتب المهمة اللازمة لبناء قصته).
(حكى لي شيخ من بلدتنا قال:
كان لنا حمار اسمه رفرف)، وكان رفرف هذا حماراً قوياً عنيفاً يعض الحمير وغالباً ما يطرح من يركبه عن ظهره، إن لم يكن شديداً ومن فرسان الحمير.
قال: وكنا نفخر بحمارنا هذا على أهل القرية، وكنا نطعمه أفضل الطعام: برسيم، وشعير، وتمر، وكنا نرفه عنه، فقد وضعناه، في حجيرة خاصة، بها قسم مفتوح للهواء والريح وقسم مغطى مطموم للظلال واتقاء الشمس والمطر.
وذات يوم زارنا رجل على حمار صغير ضئيل نحيف، وعندما رآه حمارنا نهق وطاش صوابه، وصار يحاول القفز من حجيرته فلما لم يستطع، حاول أن يكسر الباب لكي يفترس حمار ضيفنا ويحطمه.
قال: فأخذنا حمار الضيف وأبعدناه قليلا خشية من سطوة حمارنا الجبار، لكن حمار ضيفنا الحقير لم يحتقر نفسه وهاج وماج وصار ينهق أيضا طالبا المصادمة والنزال، فعجبنا لجرأته وحماقته بل صرنا نضحك، وهو يرفع رأسه مزمجراً استعداداً للعراك).
(قصة رفرف ص95 96).
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved