الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 07th March,2005 العدد : 96

الأثنين 26 ,محرم 1426

مقدمة في الحوار
د. أحمد برقاوي
جاء في المعجم الوسيط: (حاوره محاورة وحواراً جاوبه، جادله وفي التنزيل العزيز (قال لصاحبه وهو يحاوره).
في اللغة نكشف عن أصل الكلمة ومعناها، فالحوار يستدعي أولاً التساؤلا والإجابة في علاقة بين السائل والمجيب مع تبادل من الأدوار. والحوار بالأصل لغة تواصل بين مختلفين في الرؤية، لغة التواصل هنا لغة الاختلاف. يخلق الاختلاف الجدل، لغويا هو النقاش والمخاصمة النقاش إحاطة بموضوعه، والخصومة في إطار الجدل خصومة بين رأيين وأكثر.الحوار بهذا المعنى علاقة إنسانية، وهو بكل المعاني اللغوية ثمرة اختلاف يفضي إلى التساؤل والنقاش والمجادلة. ولأن الحوار علاقة إنسانية تتم عبر اللغة، واللغة وحدها، فإنها أي هذه العلاقة لا تقوم إلا في شرط الحق بالاعتقاد وتقديم الحجة والبرهان والنفي والدحض والقبول. كل ذلك قد ينتج اتفاقاً،أو ختلافاً، أو قد يخلق خلطاً من الاتفاق والاختلاف معاً. وفي كل هذه الأحوال الحوار طريق للوصول إلى الحقيقة. الحوار طريق للوصول إلى الحقيقة غير الواضحة بذاتها. ولا يمكن للحوار أن يكون طريقاً موصلاً إلى الحقيقة إلا إذا انصب على مشكلة. والمشكلة بالأصل لا تظهر إلا بتعدد زوايا رؤية حول أمر من الأمور يحتاج إما إلى تفسير أو فهم. أو قل المشكلة مشكلة لأنه أمام احتمالات تفسير وفهم وتأويل لأمر من الأمور سواء أكان علمياً أو اجتماعياً أو سياسياً.. الخ.
فلا تظهر المشكلة في العلم الطبيعي، والذي هو معرفة أقل احتمالية بكثير من العلم الإنساني، إلا بالاختلاف في التفسير، فتركيب الماء مثلاً ليس مشكلة علمية، لأن جميع العلماء مجمعون عن أن تركيب ذرة الماء، هو من ذرتين هدروجين وذرة أوكسجين. ولكن طبيعة النور مشكلة لأن فيها رأيين: فهناك من يقول بالطبيعة الحبيبة للنور وهناك من يقول بالطبيعة الموجبة له ، وهناك من يقول بالطبيعتين معاً. فإذا كانت المشكلة تظهر في العلوم الطبيعية القائمة على الاختيار فما بالك بالنسبة إلى العلوم الإنسانية وظواهرها!
إذاً المشكلة أساس الحوار. ولكن من شروط المشكلة القابلة للحوار، أو من شروط المشكلة لكي تكون كذلك، أمران: الأول: أن تكون قابلة لحلول وإجابات، والثاني مرتبط بالأول أن تكون مشكلة حقيقية وليست زائفة.
فالحوار لا يكون حواراً إلا حول مشكلة حقيقية قابلة للحل. فلو فرضنا أن هناك حواراً حول طبيعة الأشباح، فإننا عندها سنكون أمام لغو فارغ، لأننا لسنا أمام مشكلة، ولكن الحوار قد يقوم حول سبب الإيمان بوجود الأشباح إذ ذاك نكون أمام مشكلة نبحث عن الشروط والأسباب والظروف التي تخلق الإيمان بالأشباح. وعندها قد يختلف في أصل هذه المشكلة وأسبابها، فقد يردها واحد إلى أسباب تربوية وقد يراها آخر ثمرة أسباب ثقافية، وينظر ثالث إلى الأسباب الدينية، ورابع قد يرى في الإيمان بها حالة مرضية نفسية.. الخ.
على أية حال نقول: إن هاجس الوصول إلى الحقيقة أصل الحوار. وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك حقاً، فإن الشرط القبلي لأي حوار وحول أية مشكلة هو حصول معرفة مسبقة حول المشكلة، تكون كافية للمجادلة والمناقشة والمخاصمة حولها.. فالحوار خارج المعرفة بموضوع الحوار أصلاً أمر مستحيل نظرياً وعملياً، وإن حصل، فإن الحوار يستحيل إلى لغوٍ فارغ دون أي مضمون. ولأن المعرفة موزعة عى المتحاورين فإنها مقدمة ضرورية للوصول إما الاختلاف المؤكد معرفياً أو إلى اتفاق في العموميات واختلاف في الجزئيات، أو إلى تنوع في الفهم والتفسير.. هب أن عدداً من المتحاورين تناولوا بالتحليل والبحث مشكلة مكانة المتنبي في الشعر العربي، فبدون المعرفة المسبقة بالمتنبي وعصره ومعاصريه ومواقف النقاد منه، وبالأدب عموماً في القرن الرابع لا يكون هناك حوار حول المتنبي. أما الشرط الآخر للحوار فهو شرط الحرية. فليس حواراً إطلاقاً ذلك الذي يقوم خارج شعور كل محاور بحريته في قول ما يشاء حول المشكلة. ناهيك عن حرية طرح المشكلة ذاتها.
بل قل إن حرية طرح المشكلات الحقيقية مطلب أولي من مطالب الحوار الحق.
والحق أن مشكلات كثيرة من طبيعة سياسية وأخلاقية واجتماعية تحول ظروف سياسية واجتماعية دون تحولها إلى موضوع حوار، بسبب الخوف من طرحها.
ولكن إن حصل وطرحت المشكلة، كما حددنا طبيعتها سابقاً، أي أن تكون مشكلة حقيقية، وصارت موضوعات للحوار بين أفراد عارفين بها، فيجب أن يكون للمتحاورين حق متكافئ من الحرية، فليس حواراً ذاك الذي يقوم بين متحاورين غير متكافئين بحق الحرية، أو بين حر ومستعبد. أو بين مستبد ومستبد به.
الحوار إذاً ممكن فقط في حقل الحرية بالقول دون إكراه وفي حقل الحرية يغدو الحوار اعترافاً متبادلاً بين المتحاورين، واعترافاً بحث الاختلاف، لأن حق الاختلاف مظهر من مظاهر الحرية. والحق إني أقدم الآن على المستوى النظري صورة مثلى للحوار كما يجب أن يكون، ولكن هناك عوائق متعددة تمنع الحوار على هذا النحو الذي أشرت، فمن ناقل القول: إنه إذا كانت الحرية شرطاً أصيلاً وأساسياً للحوار فإن غيابها هو العائق الأكبر أمام أن يأخذ الحوار الصورة التي عرضت، ولست محتاجاً للإسهاب في هذه المسألة الواضحة ولكن هناك عوائق أخرى للحوار حتى ولو توافر شرط الحرية وأهمها: التعصب، والموقف الأيديولوجي، أو الانحياز الأيديولوجي الأعمى، والمصلحة الذاتية الضيقة، والتعصب هو غير الاعتقاد بحقيقة الرأي، بل إنكار مطلق لأي رأي آخر، ولأي حق آخر في الرأي؛ فالمتعصب، سجين الفكرة ذات الصحة المطلقة، لا يحاور بل يبارز وينفي الآخر نفياً مطلقا، وليس لديه أي خانة فارغة في معتقده، كي يملأها رأي جديد. وقد يكون مصدر التعصب هذا موقف أيديولوجي مسبق من المشكلات المتعددة، وغالباً ما يسجن هذا الموقف الأيديولوجي صاحبه بأفكار لا دليل عليها، سوى الإيمان المطلق بما يؤمن به.
وإني هنا لا أنكر أهمية الأيديولوجيا ولا وظيفتها بأشكالها المتعددة، ولكني أتحدث عن الأيديولوجيا بوصفها سجنا تمنع صاحبها من الاندراج في حالة الحوار الخلاق. فعندما يحاور سجين الايديولوجيا، فإنه يحاور وهو متسمر في موقعه لا يتزحزح، ولا يسمع الآخر إطلاقاً، لأنه فاقد لمنطلق إنتاج المعرفة عن طريق الجواب. وإذا كان صاحب الأيدلوجياً صادقاً فيما يذهب إليه، أقصد صادقاً مع ذاته، ومنسجماً مع أفكاره ومؤمناً إلى حد الإيمان المطلق بما يعتقده، فإن صاحب المصلحة الذاتية الضيقة لا يحاور إلا وعينه على أمر وحيد ألا وهو ما المكسب الشخصي الذي أدافع عنه، فلا هو يحاور انطلاقاً من دافع الحقيقة، ولا يحاور انطلاقاً من دفاعه عن أيديولوجيا يؤمن بها، بل يحاور انطلاقاً من انتهازية رخصية وضيقة جداً. والفرق بين المتعصب والأيديولوجي من جهة والانتهازي الرخيص من جهة أخرى فرق أخلاقي، ففي حين يحافظ المتعصب والأيديولوجي على الطابع الأخلاقي لشخصه، فإن صاحب المصلحة الذاتية الضيقة يطيح بالأخلاق. ومن هذه الزاوية، فإذا كان المتعصب والأيديولوجي لا يعترف بالآخر المحاور، فإن الذاتي الضيق لا يكترث بكل البشر.
وفي كل الأحوال إن أي حوار يتم بعيداً عن شرط الحرية ومنطلقاً من التعصب والأيديولوجيا والنزعة الذاتية الضيقة ليس حواراً إطلاقاً.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved