الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 07th March,2005 العدد : 96

الأثنين 26 ,محرم 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم
المواجهة مع العصر!
«11»
د. عبد الله الفَيْفي

.. وحينما يذهب الخطاب القيمي إلى أنه (نابع من ضرورة اقتضتها الحياة المعاصرة)، فمؤدّى ذلك أن (القِيَم) التي تصوّرها قد نُصبت إذن في مواجهةٍ مع (الحياة المعاصرة). أوليس هذا هو المنطق الجاهلي نفسه ضد الحياة الجديدة التي جاء بها الإسلام؟!: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104)؛ {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22)؛ {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}(الزخرف: 23)؛ بل لقد يزعم صاحب خطاب كهذا أن (مكارم العرب) ثابتة منذ ما قبل الإسلام، ويحتج قائلاً إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال: (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق). وهو ما علقته (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421ه =2000م) على غلافها الخارجي، وقبل عنوانها الرئيس، ثم ذَكَرته على الصفحة التاسعة والعشرين، دون توثيق. يزعم ذلك، مع أن الحديث ورد بلفظ (بُعثتُ لأتمِّم حُسْنَ الخُلُق)، أو (حُسْنَ الأخلاق)(1). والفرق يتبدّى هنا بين عمومية (مكارم الأخلاق) ونسبيّتها المطلقة، وبين خصوصية (حُسْن الخُلُق) ومعياريّتها المرتبطة بصفة (الحُسْن)، هذه الصفة التي بوسع القارئ تتبع مفهومها من خلال الأحاديث النبوية نفسها، ليجدها ترتبطاً بالإسلام والعبادة؛ ف(الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)(2)، و(ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)(3)، كما هي مرتبطة بكل ما يضاد السيئ والقبيح، لذلك كانت (الحَسَنة) اسماً في الإسلام للدرجة الإيجابية التي يكسبها المسلم في مقابل الدرجة السلبية السيئة التي يخسر بسببها من رصيده عند الله. ومن هنا يتضح الفرق الدقيق بين كلمتي (مكارم) و(حُسْن). وعليه، فلفظ الحديث يتجه إلى إحسان التعامل السلوكي بين الناس، بينما تتجه عبارة (مكارم الأخلاق) لفتح المعنى على مصراعيه، ليستوعب كل ما يمكن أن يُتأول على أنه من (المكارم) من عادات وتقاليد وأعراف، يراها أهلوها من جملة مكارمهم. وإذا وَلَجَ المرء هذا الباب، فقد سلف في المساقات الماضية من هذه الدراسة كيف ان من مكارم الأخلاق عند العرب: (الظلم) مثلاً و(الغدر) و(التروّي من الحياة) بأي ثمن:
68 فذرني أُرَوِّ هامتي في حياتها
مخافةَ شرْبٍ في الممات مُصَرَّدِ
69 كريمٌ يُروّي نفسَهُ في حياته
ستعلمُ، إنْ متْنا، صَدَى أيّنا الصَّدي(4)
وهي عقلية تتناقض تماماً مع العقل الذي أراد الإسلام أن يؤسّسه. وحتى لو سلم لخطاب (المكارم) بروايته، فإن (الأخلاق) التي بُعث الرسول لتتميمها لم ترد منسوبة لا إلى (ما قبل الإسلام) زمناً، ولا إلى (العرب) عرقاً، بل أكثر من ذلك، فإن صفة (الجاهلية) نفسها التي أطلقها الرسول على عرب ما قبل الإسلام إنما قامت على أساس انتقاصهم دينياً وخلقياً؛ فهي صفة تنسب إلى الجاهليين البعد عن (المكارم) و(حُسْن الأخلاق)، لما كان أولئك يتصفون به من طيش، ونزق، وسَفَه، وظُلْم، وغَدْر، وترو من الحياة بأي ثمن، وقد اختزلت جميعها تحت المصطلح الإسلامي: (جاهلية).
وهكذا، فإنه لما كانت للحياة المعاصرة بالضرورة قيمها البديلة، فإن فهم القيم العربية والإسلامية على تلك الطريقة (الثبوتية) الماضوية سيجعلها ضد المعاصرة والحضارة والحياة، من حيث ارتضتْ للقيم خطاباً يجعلها في ارتباط أبدي بالموروث القديم، وبالثبات لا بالتغير والتطور. وذلك الربط بين القِيَم والقِدَم، وبين القيمة والعِرْق، هو في حد ذاته قيمة سلبية من قيم العرب العريقة، كما أخبر عنها القرآن الكريم في شواهده السابقة، تفضي في النهاية إلى ضروب من العنصرية، و(الشوفونية) الثقافية.
وهي قِيَم طالما فتّتتْ العرب أنفسهم، مجتمعاً وثقافة، من حيث إن دوائر الانتماء القيمي قابلة بنزوعها الرافض للآخر، لأن تضيق (ثوابتها) كما تسمى زماناً، حتى يلعن كل جيل لاحقه، ومكاناً، حتى ترى كل دولة، أو إقليم، أو منطقة، أو شعب، أو قبيلة، أو عشيرة، أو أسرة، ذاتها صاحبة الفضيلة الخالصة المطلقة من دون الناس. ذلك أن العصبية تُعمي وتُصمّ حينما تلابس النفس البشرية، وتقلب موازين العقل والأخلاق لأنها لا تعمى الأبصار ولا العقول ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!
لا غرابة إذن أنْ لا تلتفت ممارسة ثقافية عربية، ك(موسوعة القيم ومكارم الأخلاق)، إلى قيم إسلامية مهمة، كقيمة (العمل)، و(العقل والعقلانية) و(المساواة)، و(حقوق النساء)؛ لا سيما أنها قد اعتمدت على التراث الأدبي (الشعري بخاصة). ولا غرو، فجُلّ الباحثين في الموسوعة، إن لم يكن كلهم، من المنغمسين في هذا المجال، فاستقوا صور القيم وشواهدها من الشعر العربي. وتلك إشكالية عربية مزمنة، لا يبدو عوارها هنا لأفلاطونية ضد الشعر يتبناها الدارس، ولا لأن طبيعة الشعر تخرج عادة عن طبيعة الشرائع والقوانين التي ينبغي أن تحكم القيم الاجتماعية فحسب، بل أيضاً لأن الشعر العربي تحديداً ما انفك يدور في فلك المعايير الاجتماعية الجاهلية، وإن قاله إسلاميون. بل يمكن القول إن المجتمع العربي نفسه قد ظل يمتح من تراثه ما قبل الإسلامي تغذّيه القيم الشعرية إن كانت للشعر من قيم أكثر من تمثله القيم الاجتماعية والحضارية الجديدة التي نادى بها القرآن ومارسها الرسول وبلورتها الحضارة الإسلامية والإنسانية.
تفعل (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق) ذلك متكئة على التراث الأدبي على الرغم من تسليمها بأن الرصيد الثقافي العام، الذي تكتنزه الذاكرة الإنسانية، يسهم في تشكيل القيم، (1:39)، إن لم يكن هو الأكثر تحكماً في القيم من الرصيد الأخلاقي الذاتي، المستقى
من المجتمع المحلي للطفل. بل تفعل ذلك على الرغم من إشارتها إلى ما يذكره (زكريا ابراهيم) (5) من أن الدراسات الاجتماعية قامت على دراسة (القوانين السائدة، والعادات المتبعة، والتقاليد الموروثة، والأمثال الشعبية، والحِكَم المتواترة، والأعمال الأدبية، والتصورات الفلسفية، والمفاهيم الأخلاقية)، وأن عملها يشمل استقراء الخطاب القابع خلف تصورات الفلاسفة وعلماء الأخلاق ونظرياتهم في عصر من العصور، فمع المعرفة بأنها (لا تخلو من طابع ذاتي أو صبغة شخصية أو نبرة عاطفية، لكنه (أي استقراء الخطاب) يهتم (بها)... لما يرى فيها من تعبير عن آمال المجتمع ونوازعه الغامضة التي ما زالت في دور الاختمار). ولو كان هناك أخذ بهذا المنظور إلى القيم والأخلاق، وكان التناول يرتفع عن النزعة الوعظية التوجيهية إلى الحس النقدي لكان ذلك أولى إلى تحقيق (الموسوعة) أهدافها المعلنة، بالكتابة للأجيال العربية الحاضرة والقادمة، بما يتواءم مع أغراضها التربوية النبيلة.
(والحديث مستمر)
إحالات:
1) ونْسِنْكْ، أ.ي. (ولفيف من المستشرقين)،(1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (استانبول: دار الدعوة)، 1: 194 (بعث)، 2: 75 (خلق).
2) م.ن.، 1: 467 (حسن).
3) م.ن.، 1: 468 (حسن).
4) طرفة بن العبد، (1994)، شرح ديوان طرفة بن العبد، عناية: سعد الصناوي، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 108
5) (1966)، الأخلاق والمجتمع، (القاهرة: مكتبة مصر)، 67 وانظر: موسوعة القِيَم، 1: 37.


aalfaify@hotmal.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved