الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 7th June,2004 العدد : 62

الأثنين 19 ,ربيع الثاني 1425

مفهوم الوطن
ألقيت في القطيف بتاريخ
10 مارس 2004
محمد العلي

مفهومنا للوطن هو الذي يحدد موقفنا منه، وسلوكنا العملي والوجداني تجاهه.
والفرق بين المفردة اللغوية القاموسية وبين المفردة التي تتحول إلى (مفهوم) فرق كبير: فالمفردة القاموسية معناها ثابت لايتغير إلا عن طريق (المجاز). أما المفردة المفهوم فهي متطورة. أي ان المعاني التي تحملها تتراكم حسب التطور الاجتماعي واتساع الرؤية الثقافية، الأمر الذي يحولها إلى مفردة (تاريخية). وأهم ما تمتاز به الكلمة التاريخية أو المفهوم هو التأثير في السلوك الإنساني.
وحيث إن مفهوم الوطن لم يطرح للبحث بصورة شاملة وبمنهج تاريخي.. طمحت هذه الورقة إلى طرحه وتناوله من ستة محاور هي:
1 الوطن لغوياً.
2 الوطن والشعر.
3 الوطن والهوية.
4 الوطن والأدلوجيا.
5 الوطن والتربية.
6 الوطن والعولمة.
الوطن لغوياً
يقول اللسان: (الوطن المنزل يقيم به. والجمع أوطان. وأوطان الغنم والبقر مرابطها، وأماكنها التي تأوي إليها. ومواطن مكة مواقعها).
هذا التحديد اللغوي يوضح أن الوطن مجرد المكان الذي يجلس فيه الإنسان أو الحيوان. مكان لايرتبط به الإنسان بأية مشاعر، فحتى الزورق أو الجمل يعتبران وطناً إذا جلس عليهما. لذلك كثر في الشعر الجاهلي التعبير عن سهولة مفارقة المكان.
يقول الحارث بن حلزة:
لايقيم العزيز في البلد السهل
ولاينفع الذليل النجاء
ويقول الشنفرى:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
فإني إلى قوم سواكم لأميل
وقد امتد هذا حتى أبي تمام الذي يقول:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
في كتابه (مقدمات لفهم التاريخ العربي، ص10) يقول الشيخ عبد الله العلائلي: «خاصة العرب هي القبيلة بحكم البيئة. أما القومية فلا تقوم إلا في مجتمع زراعي. وكذلك فإن العمل في الأرض بالزراعة باعث لكل شعور بالوطن، إذ يورث الإنسان عشقا مبهما للأرض التي تهبه كل ما يحتاج إليه من مقومات الحياة، وتدعوه للاندماج القوي الصحيح. ونحن مهما بالغنا في تفتيش شعر العرب فلن نقع على شيء من الحنين إلى الوطن».
الباعث للغرابة هو ان هذا المعنى للوطن بقي حتى بعد ظهور الاسلام، وانتشار العرب في بيئات زراعية مترامية الأطراف، مما يجعل تعليل الشيخ العلائلي غير كامل إذ لابد له من إضافة هي: أن الشعور بالوطن والتعبير عن الحنين إليه شيء ذاتي شخصي. إنه خلجات وجدانية. والشعر العربي آنذاك لم يكن شعرا ذاتيا إنه تعبير عن مشاعر الجمع وحنين الجمع لاخفقات الفرد الوجدانية.
أول تفرقة بين وطن الإنسان وبين وطن البقر والغنم نجدها عند الفقهاء. فهم فرقوا بين (وطن الفطرة الذي هو بلد المولد والمنشأ، وبين الوطن الحادث الذي هو وطن السفر إذ اشترطوا الإقامة فيه عشرة أيام حيث يصبح وطنا) حسب سامي خشبة تجديد الثقافة ص150).
لقد كان لويس ماسنيون معذوراً حين قال: (الزمن عند علماء الاسلام ليس مدة مستمرة متصلة، وإنما هو كوكبة أو (مجرة) من الآنات وكذلك الشأن بالنسبة للمكان فليس له وجود، ولا توجد غير نقاط متقطعة) حسب محمود العالم مفاهيم وقضايا اشكالية ص:191).
الوطن و الشعر
في العصر العباسي بدأ مفهوم الوطن في التبلور على لسان ابن الرومي وهو شاعر يوناني الأصل، حيث يقول:
وطن صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العمر وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه اغصان الشباب تميد
ويقول:
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
هنا نجد الوطن ليس أرضاً عائمة، بل هو بلد المنشأ، بلد الشبيبة والصبا وهذا المفهوم على ضيقه، هو الذي بقي سائداً في أذهان الناس حتى يومنا هذا.
أما أبو العلاء فقال:
ألو الفضل في أوطانهم غرباء
تشد وتنأى عنهم القرباء
ويقول:
مُل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
هنا أضاف أبو العلاء إلى مفهوم الوطن معنى اجتماعيا: فهو يمل القمام الوطن حين يشعر فيه بالغربة إنه ينشد وطنا لا ظلم فيه، وطنا يورق فيه الحب.
بالمفهوم الحديث (فكرة الوطنية لم تنشأ إلا بعد الثورة الفرنسية نحن كنا في إطار الخلافة الاسلامية وأوروبا كانت في إطار الفكرة المسيحية المقدسة والامارات كلها كانت تتبع البابا) (يوسف القعيد هيكل يتذكر ص:346).
وحين نأتي إلى الشعر نجد أن الشعراء المهجرين هم الذين فتحوا الباب على مصراعيه للتعبير عن الوطن بمفهومه الحديث أما اكثر الشعراء الذين عبروا عن الوطن من بدء النهضة، لايتعدى مفهومهم للوطن مفهوم ابن الرومي.. وسأقتصر على نماذج محددة من الشعر الحديث:
أ مفهوم الوطن عند شعرائنا:
حسب اطلاعي يقف الشاعر الرائد محمد حسن عواد على رأس من وقفوا لا في بلادنا وحسب، بل في البلاد العربية كلها، وقفوا مشاعرهم على الوطن إن العواد في عام (1926م) أي قبل السياب ونازك الملائكة بأكثر من عشرين عاما كتب قصيدة سماها (الثائرة) يقول فيها:
العقل فوق الحس
إنك قلت ذاك
فأين ذاك؟
دعني وقم بالواجب الوطني وابتدر العراك
وابعث خواطرك الصريحة تخترق حجب السكوت
وادع البلاد إلى الحياة
هذه القصيدة العذراء هزت أكثر الشعراء لمعاناً في الحجاز بعد نشرها كما ذكر ذلك في (خواطر مصرحة) وهذا معناه أنها كانت مفاجئة للسياق الشعري آنذاك.
إنني هنا، في هذه الورقة الصغيرة لن أستطيع قراءة مفهوم الوطن في شعرنا بدءاً من مرحلة (الإحياء)، أي مرحلة العواد حتى شعر (الحداثة)، أي حتى يومنا هذا.. وذلك لسببين: الأول أن ذلك يحتاج إلى كتاب كامل أما ثانيهما فيتضح بعد الفقرة التالية:
في كتابيه المتميزين حقا (ثقافة الصحراء) و(إحالات القصيدة) وقف الدكتور الناقد سعد البازعي على قصائد كثير من شعراء الحداثة، وقد أوضح النقاط التالية فقال: (لقد اتضح لي من متابعة ما أنتجه الجيل الجديد من شعراء (...) ان خيط الوعي (...) يكاد يكون قاسما مشتركا للكثير من (إبداعاتهم) (ص:52) (بل إن اللغة تكاد تتماثل ص62) ذلك لأنه (يظل السياق الطاغي على القصيدة غنائيا أولا واسطوريا ثانيا، ويستمد مشروعيته من هموم ذاتية تعبر عنها (الأنا) أو (النحن) دون أن يكون هناك انفصال درامي مقصود بين المؤلف والموضوع ) (ص:52).
بحث البازعي إذن يركز على (الوعي المشترك) الذي عبر به شعراء الحداثة عن وطنهم أما أنا فأبحث لا عن الوعي المشترك الذي يجمع الكل في سياق عام، بل أبحث عن الهوية الذاتية للشاعر مايتفرد به..
ذلك لأنني سأوضح في فقرة قادمة ان لكل فرد هويتين: هوية عامة وهوية خاصة يكونها هو نفسه. وهذا ما أبحث عنه، أي الهوية الخاصة. وهذا ما وجدته في شعر علي الدميني وفوزية أبو خالد بصورة أوضح تجسيداً.. هذا مع الاعتذار من كل الشعراء والشاعرات من مرحلة الإحياء حتى آخر مرحلة الحداثة.
1 (المخضب بالكائنات)
اسمي علي الدميني (المخضب بالكائنات) كما عبر هو عن نفسه والتخضب يكون للفرح وللحزن معا وهو صورة تعطينا معنى واضحا لمفهوم الوطن عنده، وارتباطه بالرؤية الإنسانية التي تمحو الفواصل بين الكائنات فرحاً وحزناً:
«أنا والغبار
وكأس من الطين عتقته ليلتين
وجملته باصفرار الشجر
نشارك هذا الزمان كآبته
ونواسي الحجر»
الحجر نراه في صورة أخرى، نراه طفلا يلعب على ساعدي الزمان كما يلعب الطفل على سواعد أمه أو أبيه:
«لدوي المواليد في النخل هش الزمان
وسار على ساعديه الحجر»
هذه الأنسنة للأشياء تستمر في تصاعد متواتر في شعر الدميني:
« يتها الجاهلية في عرشها ينبت الطير
والفلوات يزغردن بالنوق
والناس
كل على فلك يسبحون»
هذه الفرحة (المزغردة) نراها في صورة جمالية أخرى:
«طربت فساقيت الحصى من صبابتي
وسلت
وكان النهر بعض صفاتي»
وأخرى أشد لمعاناً:
«حلني في سهوب العشيقات من دون ما جزع أو مواجيد في سنة رخوة يتخبط في بهوها الحلق حتى يساوي القطيع الرعاة والمساء الغد»
وأخرى:
«كهواء من معدن
تتشقق أوجاع الحائط كل صباح
أسكب بعض (الأنات) بآنيتي
فيمد الحائط كفيه إلي ويجلس قرب الطاولة البيضاء
نتحدث عن حوض الورد وعشب حديقتنا
يحضنني لكن جراحي
تتقاطر من وخز الأشواك
أحمل شنطتي (البنكية) وأغادر
فيجرجر قدميه إليها
يجلس بين الأوراق ويسألني
لم تحمل معنا هذا الشباك؟»
ألمست هذه الحميمية بين الأشياء؟ ألمست ما يسمونه (قوانين التوليد) في اللغة الشعرية. إنها هذه.
«ولي لغة كالنوافذ حين تعاقب وجه المطر»
نعم، بهذه اللغة (الربذاذية) اللغة النوافذ التي نطل منها على الاتحاد مع الكائنات، اتحاد الماء بالماء:
نجمة مطفأة
«من سيوقد ليل النهار إذا غضبت نجمة
واحتمت خلف صمت العيون؟
من سيفتح باب الحديقة للطل
ماء الينابيع للزهر
أرغفة الخبز للسنديان ومن
سوف يوقظ:
قبلتنا في الصباح
ابتسام الأساور
مس الأصابع بالنار
ضحك المرايا التي
تتعلم منا الجنون
سوف اعتذر الآن للبيت
للشجر المكتسي ظلنا
لعتاب الشبابيك
للجرح في كتف المزهرية
للعشب مبتسماً لاعتناق ملابسنا... فوق حبال الغسيل
والصمت معتكفاً في الكتابة ما بين (كاف) و(نون)
ولامرأة من أساطير رمل الجزيرة اعتذر الآن
لكنني واحد من صعاليك هذا الزمان
أحب كثيراً
وأعشق حينا
وحينا أخون»
في هذه القصيدة لا نعثر على مفردة واحدة للوطن، أو ما في حقلها اللغوي. لا نعثر على قناع تاريخي تتلبس به الرؤية لا نعثر على ما سماه البازعي (الوعي المشترك) في التعبير عن الوطن مثل القيظ الجفاف (مطر لا مطر) أو (عرافا للرمل) أو ان (وجه الشنفري يملأ الأفق) لا نعثر على هذا كله، لكن القصيدة تعبر عن الوطن أعمق من أي قصيدة أخرى. إن لغتها المائية وقوانين التوليد فيها خلقت باقة من الرموز كلها مفعمة بالوطن.
إن الناس حين يذكرون حب السياب للوطن يرددون قصيدة. غريب على الخليج) في حين ان (أنشودة المطر) وقصائد أخرى أشد حرارة وأعمق تعبيراً منها وهذا ما فعله الدميني في هذه القصيدة.
2 (ناحتة الماء)
اسمي فوزية أبو خالد (ناحتة الماء) إن لغتها الشعرية أشبه ببحيرة عذبة تجمدت قطراتها وتحولت إلى لغة. لغة تحمل رؤية فريدة للوطن. إنها تعبر عن ارتباطها بالوطن ارتباطاً تكوينياً:
«سلت أمي من الصحراء
خيط رمل
ورطبته بطرف سرتي
صرت مهما ابتعدت
كدلو
عبثا يحاول
اغتراف
القمر المنعكس على مرآة الماء من البئر السحيقة»
وهي تحاول الانفكاك أو الانفلات من هذا الرباط الوجودي ولكنها لاتستطيع:
«مازجت أحماض الحبر بملح
البحر وجروح الروح
مازجت
كتبت على قسوة الصحراء
ورحمة الورق.. أجنحة وأشواقا
جربت تطير»
نعم جريت تطير ولكن هل استطاعت؟ القصيدة أغلقت بابها عن الإجابة، غير ان مقاطع من قصيدة أخرى تجيب بأن ذلك مستحيل:
«صحونا على حب يتحدى
مصائب لم نحسب حسابها
ومن يومها لم ننم»
وتقول:
«وطن هذا
أم طوفان لم نحتط له؟؟»
وبالتأكيد، فإن الملاحق بالطوفان لاوقت عنده للإجابة ولكنها تروض حين تربطه بالطوفان الأول الذي (جمع من كل زوجين اثنين) فأنقذ الحياة:
«نستمطر الطرقات
وطنا
يبدد الوحشة المشتركة
إي رياح تخاطف الأشرعة
تمازج الطوفان بأطياف تطير
وتؤلف من كل زوجين اثنين
قهرا للمهرة الهاربة».
ان ديوان فوزية أبو خالد (ماء السراب) كله يصلح لالتقاط مفهوم الوطن المعاناة.. الوطن الأمل، بدأ من المدرسة الابتدائية، ولكني أخشى الإطالة واختتم هذا الحديث بهذه الأبيات الطافحة بالأمل:
« بابنا مقفل بألف ألف قفل
وعرق قرنفل يطرق القلب
ويدخل عنوة
بماذا وشا الحراس؟»
3 محمود درويش
الدكتور شاكر النابلسي سمى كتابه عن محمود درويش (مجنون التراب). وهي من أنجح التسميات الدالة على تعفر درويش بالوطن.
الذين كتبوا عن درويش بدءاً من رجاء النقاش حتى علي الدميني مروراً بمئات النقاد والكتاب يختلفون في الرؤية ولكنهم يلتقون على تطوره الشعري الدائم، وعلى ارتباطه الأسطوري بالوطن بمفهومه الانساني المتمثل في تحويل الوطن إلى أم، والأم إلى وطن.
درويش في نظري هو الشاعر الجاهر الذي أنسن الوطن بترابه وأشجاره وأحجاره وتاريخه ثم سلك طريقة (الحلول) الصوفية في التعبير عن ذلك كله.
إن الحلول الصوفي نجده في كل ديوان من دواوينه. ولكني سأقف على مقاطع توضح هذا الحلول انه يقول:
«اسمي التراب امتداداً لروحي
آه من وطن في جسد»
ويقول:
« رويدا رويدا تفتت وجه المدينة
لم نحول حصاها إلى لغة
لم نسجل شوارعها
لم ندافع عن الباب
لم ينضج الموت فينا»
بعد هذه الآهة الرثائية للوطن وبدون حقد على أحد نقرأ هذه القصيدة بعنوان (إلى قاتل): آخر:
«لو تركت الجنين ثلاثين يوما
إذن لتغيرت الاحتمالات
قد ينتهي الاحتلال
ولايتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار
فيكبر طفلا معافى ويصبح شابا
ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك
تاريخ آسيا القديم
وقد يقعان معا في شباك الغرام
وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة)
ماذا فعلت إذن
صارت ابنتك الآن أرملة
والحفيدة صارت يتيمة
فماذا فعلت بأسرتك الشاردة
وكيف أصبت ثلاث حمائم بالطلقة الواحدة»
هنا نحن أمام صورة جديدة في الشعر العربي كله، صورة الغضب النبيل. الغضب المتفجر نارا وماء في آن واحد. إنه الرؤية الإنسانية باختصار:
«لنا هدف واحد
ان نكون
ومن بعده يجد الفرد متسعا لاختيار الهدف
عميقا، عميقا
يواصل فعل المضارع
أشغاله اليدوية
فيما وراء الهدف»
في ديوانه الأخير (لا تعتذر عما فعلت2004) نرى صورة فاجعة إنها صورة الفارس، وقد أغمد سيفه في وسط المعركة:
«إن عدت وحدك قل لنفسك
غير المنفى ملامحه
ألم ينجح أبو تمام قبلك
حين قابل نفسه
(لا أنت أنت
ولا الديار هي الديار)
ستحمل الأشياء عنك شعورك الوطني.. الخ.
أما أنت
فالمرآة قد خذلتك
أنت.. ولست أنت تقول:
أين تركت وجهي؟
ثم تبحث عن شعورك خارج الأشياء
بين سعادة تبكي وإحباط يقهقه
قل لنفسك: عدت وحدي
ناقصا تمرين
لكن الديار هي الديار
ويقول:
«لم يبق في اللغة الحديثة هامش
للاحتفاء بما نحب
فكل ماسيكون كان
سقط الحصان مضرجا بقصيدتي
وأنا سقطت مضرجا بدم الحصان
أليس هذا فاجعا؟؟.
4 محمد الماغوط
«كاسك ياوطن»
بهذه المسرحية حصد محمد الماغوط شهرة واسعة. وحين نقرأ الماغوط وبخاصة ديوانه (الفرح ليس مهنتي) نجد أن مفهوم الوطن عنده بالغ الضيق إن الحزن فيه حزن شخصي. إنه حزن من الوطن، لا عليه لذا نجد أن قصائده في دواوينه الثلاثة تكاد أن تكون قصيدة واحدة: كأس مليء بالدمع والحسرات من الحرمان الشخصي وكأن الحرمان لايضرب كل الوطن ببساطة. إننا في شعره نقرأ بعداً واحداً:
« منذ أن خلق البرد والأبواب المغلقة
وأنا أمد يدي كالأعمى
بحثا عن جدار
أو امرأة تؤويني
ولكن ماذا تفعل الغزالة العمياء
بالنبع الجاري
والبلبل الأسير
بالأفق الذي يلامس قضبانه؟»
ويقول:
«دموعي زرقاء
من كثرة ما نظرت إلى السماء وبكيت
دموعي صفراء
من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية وبكيت
فليذهب القادة إلى الحروب
والعشاق إلى الغابات
أما أنا
فسأبحث عن مسبحة وكرسي عتيق
لأعود كما كنت
حاجبا قديما على باب الحزن
ما دامت كل الكتب والدساتير والأديان
تؤكد أنني لن أموت
إلا جائعا أو سجينا»
إن (ساكن التحول) أو أدونيس هو الذي قدم الماغوط للساحة كرائد من رواد القصيدة النثر، ولكن على الرغم من أنهما من فترة واحدة ومن بلد واحد نرى الفرق الهائل بين رؤية أدونيس للوطن وبين رؤية الماغوط يقول أدونيس:
« في بلادي تمشى أمامي حفرة»
« من سيفهم أني أعيش في جناحي يمامة
وأطير في فخ»
« لي في أرض الأساطير التي استصفيتها
وطن ضاق على خطوي لا أقدر أن أمشي فيه
أ لأني دائماً فاجأت في الفجر خطاه؟
وهو لايجرؤ أن يحضنني
عجبا هذا الوطن
كيف لايكبر في أرجائه غير الكفن؟»
إن حزن أدونيس حزن على الوطن أما حزن الماغوط فهو حزن من الوطن، وهذا هو الفرق الهائل.
الوطن والهوية
يقول الدكتور مصطفى سويف:
(الهوية الوطنية هي الذات كما تنشأ في إطار حضاري بعينه، مرتبط بموقع جغرافي بعينه).
(والهوية من حيث تكوينها هي خلق منظومة الأنا في سياق المجتمع، بكل دوائر الترشيح التي تتوسط المسافة بين إطاره الحضاري العام والفرد الناشئ، فتسمع بمرور نخبة معينة من التأثيرات، تسهم إسهاماً بعينه في تشكيل الأنا).
تحت مصباح هذا التعريف يتسع مفهوم الوطن اتساعا هائلاً، إذ لم يعد الوطن مجرد تاريخ وجغرافيا، بل أصبح مكونا للذات ومساهما عضويا في خلق الأنا، وأصبح واهب المفاهيم التي ننظر بها إلى أنفسنا وإلى العالم، أي أصبح مرادفا للثقافة.
هنا يصبح الوطن الهوية «حركة ثقافية مستمرة، ومتى وقفت هذه الحركة وقفت الهوية، بمعنى أن الغياب المعرفي عن المشاركة في انتاج الفكر هو غياب الإنسان نفسه وبالتالي غياب هويته» (أدونيسفاتحة لنهايات القرن).
وهنا يأتي السؤال: هل ثقافتنا ثابتة لتكون هويتنا ثابتة هي الأخرى، أم أنها ثقافة متحركة؟
السؤال هذا أجاب عنه كثير من المفكرين والمثقفين:
محمد عابد الجابري يصف ثقافتنا بأنها:
1 ثقافة خارجة عن المجتمع الحضري، فهي ثقافة قبلية.
2 ثقافة مجتمع ميت لأنها تمثل نظاماً فكريا مقفلا.
3 ثقافة انتفاعيين، فهي وسيلة لكسب العيش.
4 ثقافة انشطار داخلي بين ماض زاهر وحاضر معتم.
راجع خلدون النقيب فقه التخلف ص:395
وفي كتابه (الثقافة العربية أمام تحديات التغيير) يصف الدكتور تركي الحمد ثقافتنا بالصفات التالية:
1 انها ماضوية في مقابل المستقبلية.
2 انها اسطورية في مقابل الواقعية.
3 انها أحادية في مقابل التعددية.
4 انها رغبوية في مقابل التاريخية.
في مقابل مثل هذه الآراء يقف الكتاب القوميون على الضفة المقابلة تماما حيث يرمون الثقافة بباقات الورد البلاغية.
يقول المفكر محمود أمين العالم:
«إن كثيراً من المثقفين العرب عندما يعرضون للثقافة العربية الحديثة يعرضون لها على نحو تجريدي اطلاقي ككتلة صماء. واحدة متعالية فوق التاريخ، ومتعالية فوق الملابسات والأوضاع الاجتماعية المختلفة.. وهم بهذا إنما يمجدونها أو يدينونها جملة، وكلا الموقفين ينفيان إلى أمر واحد هو الغفلة عن التاريخ» (محمود العالم مفاهيم وقضايا اشكاليةص:13).
وفي نظري أنه ليست هناك هوية واحدة ولا ثقافة واحدة في أي مجتمع. هناك ثقافة عامة وهوية عامة يكونهما التاريخ والجغرافيا والتفاعل الاجتماعي.. وهناك هوية وثقافة خاصتان يصنعهما كل فرد حسب بنائه المعرفي وحسه النقدي.
إن الهوية العامة والثقافة العامة معطى طبيعي لا دخل للإرادة فيه. أما الذي يميز الفرد ويضع له هويته الخاصة فهو نضج وعيه وعمله الذاتي في النقد والاختيار في أي حقل من الحقول.
الوطن والأيديولوجيا
ميز العروي في مفهوم (الأدلوجيا) بين ثلاثة مجالات وثلاث معانٍ كبرى:
1 في مجال الصراع السياسي تعني الأدلوجيا كل تفكير خادع أو تضليلي = (الأدلوجيا قناع).
2 في مجال الاجتماع تعني مجموعة من الأفكار والقيم والمثل التي تتبناها جماعة ما والتي تحدد لها رؤيتها للواقع الاجتماعي والتاريخ = (الأدلوجيا رؤية كونية).
3 في مجال نظرية المعرفة حيث تعني الأدلوجيا المعرفة الظاهرة السطحية في حين ان العلم هو المعرفة العميقة بكنه الأشياء (محمد سبيلا الأدلوجيا ص:9).
يلتقي مع العروي في تقسيم الأدلوجيا إلى هذه المستويات الثلاثة كثير من المفكرين: فهذا انطوني غرامشي، الذي يسمى (منظر البنية الفوقية) يعرف الأدلوجيا بأنها:
«تصور للعالم هو بمثابة عقيدة تحفز لا على النظر بل على العمل). كما يختلف مع العروي كثير منهم ويعلل سبيلا هذا الاختلاف بأنه ناشئ من النظر إلى الأدلوجيا من جانب واحد.
مفهوم الأدلوجيا إذن مرادف لمفهوم الثقافة في نظر العروي وكثير عيره. ولكن طرح سبيلا سؤالا مهماً هو: هل الدين داخل في مفهوم الأدلوجيا؟
طرح السؤال، وعرض وجهات نظر متباعدة في الإجابة وخرج بدون حسم. واعتقد ان الأديان داخلة في مفهوم الأدلوجيا فإنها رؤية للعالم، وبخاصة الدين الاسلامي. فهو ليس دينا وحسب، بل دين ودولة. وحين نقول دولة نعني أدلوجية، لأن الدولة لايمكن ان تكون شرعية بدون أدلوجية.
إن الدين المسيحي دين روحي لاعلاقة له بالحياة الدنيا والدين اليهودي دين قومي يفصل المقاييس الوطنية وغيرها بهذا المنظار أما الدين الاسلامي فهو دين إنساني شامل، ولكنه بالنسبة للوطن نراه يفرق بين المسلم وغير المسلم، وما الجزية إلا دليل على ذلك.
وحسب اطلاعي فإن جميع الأديان والملل والنحل ترى ان العقيدة هي الوطن ما عدا تيارين أحدهما الصوفية والثاني العلمانية:
أ الصوفية:
«لابن عربي نظرية (الإنسان الكامل) والإنسان الكامل في اصطلاحه هو (الكون الجامع)، حيث يرى ان قيام العالم بالإنسان الكامل، فنحن هنا أمام (عولمة روحية) لنستمع إليه يقول:
«لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم أجد ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
«راجع أبو الوفا الغنيمي / مدخل إلى التصوف الإسلامي ص
:203).
ب العلمانية:
تقول موسوعة العلمانية:
«حب المرء لوطنه واحد من أكثر العواطف تغلغلاً بعمق يرسخه وجود أوطان أم منفصلة لمدة آلاف السنين».
ويقول المفكر محمد أركون:
«العلمانية إحدى فتوحات الروح البشرية وهي تواجه تحدٍ بين:
1 كيف نعرف الواقع الإنسان بشكل مطابق؟
2 كيف نوصل هذه المعرفة إلى الآخر دون ان نقيد حريته؟
(محمد اركونالعلمنة والدين ص:9).
أظن بعد هذا ان العلمانية وارتباطها بالوطن لايحتاج إلى ايضاح في ظل الأدلوجيا بقي سؤال لابد من طرحه وهو:
ما سبب الصراع الدائم بين السلطة وبين المثقف في كل زمان ومكان؟
والجواب واضح
إن الإدلوجيا التي يعتبرها المثقف رؤية كونية تحمل القيم والمثل العليا، وعلى ضوئها يجب ان يسير المجتمع هذه الأدلوجية، في نظر أي سلطة ماهي إلا قناع تمرر تحته تزييف الوعي وتضليل الرؤية وإفراغ الثقافة من مضامينها، وهل هناك بؤرة للصراع أعمق من هذه؟
الوطن والتربية
قبل ان أطرح السؤال: ماهي التربية؟ سأطرح سؤالاً: ماهي المواطنة ؟ ذلك لأن نظرتنا لمفهوم المواطنة هي التي تحدد مفهوم التربية وتقييمنا لها.
المواطنة ليست غابة من الانشاء. ليست أطيافا غامضة إنها (ظاهرة تاريخية لها مضمون يختلف باختلاف العصور) واختلاف الحضارات، ولها عناصر محددة هي:
1 الانتماء إلى وطن.
2 المشاركة في السلطة العامة.
3 المساواة: فكل مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات.
هذه العناصر واضحة، وحين ينتفي عنصر منها تنتفي العناصر الأخرى، وانتفت المواطنة. وهنا نأتي إلى الفلسفات العربية التي تقوم عليها التربية، لنسأل: هل هذه الفلسفات تقوم على مراعاة هذه العناصر حتى لا يكون الفرد مسلوباً من المواطنة؟
الإجابة سوف تتضح بعد قليل.
هناك إطارات حضارية متعددة تقوم فلسفتها على الاعلاء من شأن (الفردية) في توجيه الحياة الاجتماعية، ويسمى الفرد فيها (الأنا المحورية) وهناك إطارات حضارية تعلي من شأن (الجماعية) كفلسفة أساسية في توجيه الحياة الاجتماعية. وهو ما يتمخض عن نوع آخر من الأنا يسمى (الأنا الدور) والمقصود بهذا التعبير «أن الأنا أو الذات كما يعيشها صاحبها في هذه المجتمعات تتميز أساسا في وعيه ووعي المحيطين به بمجموعة الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها» (يراجع: فتحي سيد فرج مقالات في الهوية ص:2526).
هذا هو الذي تقوم به التربية في هذه المجتمعات أي أنها تعد الفرد لا لنفسه بل لدوره الاجتماعي والدور هذا لايختاره هو، بل يختاره له القائمون على التربية. وهذا أول شلل تقدمه التربية للإرادة والاختيار في هذه المجتمعات.
أما الشلل الثاني الذي تقوم به التربية في هذه المجتمعات فهو ربط مفهوم المواطنة بمفهوم السلطة.
الشلل الثالث الذي تنتجه هذه التربية هو إحاطة مناهجها بهالة من القداسة: فجميع المفاهيم لاتناقش وحتى من وصف اللغة العربية بأنها (اللغة الشاعرة) لم يسأله أحد: كيف ولماذا وحين يقدم عالم ما أو شاعر يكون هو أزهد العلماء والشاعر فحل الفحول.
إن هذا معناه قتل الفكر النقدي، ومحاولة حرمان الثقافة من التفتح.
من أهم المفاتيح التي لاتطرحها التربية للنقاش مفهوم الوطن إنها تقدم بصورة ضبابية عمياء فالوطن هو (خصوصيتنا) أو (مصر أم الدنيا) أو (بلاد العرب أوطاني).
بهذه اللغة الطوباوية أو الببغاوية نزرع مفهوم الوطن في أذهان طلابنا فيصبح طيفا خاليا لاعلاقة له بالسلوك.
الشلل الرابع الذي تقدمه هذه التربية هو: عدم الاعتراف أو الإشارة إلى حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل. ومعنى هذا أنها مفرغة من أي حس بالمواطنة ومفهوم الوطن.
ان مفهوم الوطن الذي تقدمه التربية مفهوم خاطئ والمفهوم الخاطئ يقود إلى سلوك خاطئ وهذا ما نلمسه الآن داخل الوطن وخارجه.
يقول ناقد انكليزي:
«إن الوطنية هي المأوى الأخير لكل وغد».
وهو يشير بهذا إلى ان الوطنية كأي مفهوم آخر حين يساء فهمه يتحول سلوكيا إلى شوفينية بل واعتدائية.
يقول أدونيس:
«الوطن؟ نعم.
شرط ان ينتمي هو أيضا إلي»
ويقول محمود درويش:
«الوطن ليس صنما ليعبد أو يكسر إنه حقل للعمل، وقابل للمساءلة المتبادلة، بمعيار كمية العلم المبذول فيه، وبمقدار ما يوفر للمواطن من كرامة وحرية ولعل الإسراف في مديح الوطن، في الوطن، هو شكل من أشكال هجاء الوطن، كما أن الإفراط في التذمر من الوطن هو ضرب من ضروب العبودية» (الكرملعدد 58).
الوطن والعولمة
في كتابه (الثقافة العربية في عصر العولمة) يشبه تركي الحمد العولمة بلعبة كرة القدم: إن لغة ملاعب كرة القدم لغة واحدة أنها قواعد تعم العالم ككل، ويفهمها فهما واحدا دون قدرة على التغيير.
والسؤال هنا: هل تصل هذه الظاهرة التي تجتاج العالم اقتصاديا وسياسياً.. هل يصل إلى التداخل الثقافي بين الحضارات، أي إلى (توحيد أنماط الحياة المادية والفكرية (..) ودمج الدوائر الثقافية المختلفة، وإنشاء حقل ثقافي مشترك، أو قائم فوق الثقافات القومية؟» (غليون ثقافة العولمة وعولمة الثقافة ص:45).
إن هذا ممكن بالطبع، ولكن بشرط واحد هو ما يتضح في المعنى (الضمني) الذي لم يشر إليه تركي الحمد حين طرح تشبيهه الرائع.
هذا الشرط هو تكافؤ القوة والمهارة إنك لايمكن ان تزج بفريق مدرسة ابتدائية إلى ملعب يكون الفريق الثاني في منتخب البرازيل.
كذلك هو لقاء أو تنافس أو تداخل الثقافات إن السيطرة ستكون للثقافة الأقوى والثقافة الأقوى «لا تحتل موقعها المتفوق بسبب تفوق منظومة قيمها الأخلاقية أو الدينية، بل لأنها ثقافة المجتمعات المسيطرة مادياً وعسكرياً وسياسياً وعلمياً.. حتى لو لم تكن ذات مضمون اخلاقي» (غليون مصدر سابق).
لقد قضت العولمة على الجغرافيا.. وهذا له ايجابياته الهائلة لكن الرعب يأتي من الرعد الذي نسمعه من بعيد، والذي ينذر بالقضاء على التاريخ والقضاء على التاريخ معناه القضاء على مفهوم الوطن ومفهوم الثقافة، بل القضاء على اللغة التي هي الجذر الأم لكل المفاهيم.
وأخيراً أكرر الصياغة المعروفة
قل لي ماهو الوطن، أقل لك من أنت
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
قضايا
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved