الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 7th July,2003 العدد : 19

الأثنين 7 ,جمادى الاولى 1424

المصطلح المضحك
عبد السلام العجيلي
يكثر في كتابات النقاد التنظيرية في هذه الأيام تردد كلمة المصطلح، وأنا اعترف بأن ما يقال عن هذه الكلمة يتجاوز فهمي في أحيان كثيرة، ولست أدري إذا كان الباحثون فيها قد تطرقوا إلى أثر البيئة وأثر نوعية الوسط الاجتماعي التي يستعمل المصطلح فيها على فهم هذه الكلمة، ومهما يكن، فإني سأدلي بدلوي بين الدلاء في هذا المجال، متحدثا عن كيفية فهم المصطلح عند من يستعمله، بحسب مستواه الفكري أو الاقتصادي أو السياسي، وذلك من خلال محادثاتي وعلاقاتي في الوسط الذي أعيش وأمارس مختلف نشاطاتي فيه.
أروي للقارئ في البداية ملخص حوار دار بين أحد زملائي الأطباء في بلدتي، وهي معروف عنها انها مركز منطقة زراعية وبدوية واسعة، وان الزراعة وتربية المواشي فيها هما الشاغل الرئيسي لأبنائها، ومعروف كذلك عن منطقتنا ان نسبة الأمية والبعد عن التحضر فيها أكبر مما هي عليه في مناطق قطرنا الأخرى، كان لزميلي الطبيب، وقد غادر دنيانا هذه إلى رحمة الله منذ سنوات عديدة، مشاركة في النشاط الزراعي، وبسبب هذه المشاركة كان يملك جرارا ميكانيكيا يسميه مزارعونا باسمه الفرنجي، "تراكتور"، يستخدمه في مزرعته ويؤجره أحياناً لمن يطلبه من المزارعين الأخرين، في ذات يوم جاءه أحد هؤلاء المزارعين وقال مخاطباً اياه: يا تراكتور، أريد أن تؤجرني دكتورك لأفلح عليه عشرة دونمات من أرضي المعدة لزراعة القمح.
قال له زميلي الدكتور في الطب مصححا: انا يا اخي دكتور وأملك تراكتور، وأنا مستعد ان أؤجرك تراكتوري لتفلح عليه أرضا، اصر الرجل على صيغة سؤاله وقال للطبيب الزميل: لا تضحك علي يا تراكتور.. انت تراكتور وعندك دكتور تفلح عليه، انا اريد منك الدكتور!
في مساء اليوم الذي جرى فيه الحوار قص زميلي علي حكايته، وعليه آثار غيظ من اصرار الرجل على تسميته تراكتورا وتسمية الجرار دكتور، ضحكت أنا يومها وقلت له: يجدر بك ان تشكره بدلاً من ان تغتاظ منه، لقد أعطاك قوة خمسين حصانا بخاريا باعتباره اياك جرارا زراعيا لا طبيبا نطاسيا، ترى اي دكتور منا يستطيع ان يحفر ثلما بطول امتار قليلة في أرض زراعية، مثلما يفعل التراكتور الذي يفلح مساحة خمسة دونمات في أقل من ساعة واحدة؟!
لم يملك الزميل، رحمه الله، إلا ان يجاريني في الضحك حين اقر معي بفضل الجرار الميكانيكي على الطبيب البشري، على الأقل من ناحية القوة الجسدية..
وفي إحدى الأمسيات، وفي مضافة الأسرة، مال أحد الأقرباء البسطاء علي وقال: أريدك يا ابن اختي ان تفيدني عن كلمة اسمع عنها، وتقع عيني عليها احيانا في الجريدة، ولا افهمها، كلهم يسبونها ويهاجمونها، لماذا؟ لا أدري، قلت له: ما هي الكلمة؟ قال الامبريالية. ما هي الامبريالية، ولماذا يسبونها ليل نهار؟ كان هذا الكلام بيني وبين قريبي البسيط أيام كان المعسكر الشرقي في ذروة قوته وكان تعاملنا معه كبيرا، ابتسمت وانا اجيبه محاولاً تقريب معنى مصطلح الامبريالية إلى ذهنه، قلت له: الامبريالية تعني تسلط الأجانب، ولا سيما الغربيين منهم، علينا نحن الضعفاء في الشرق، كان تسلطهم قبل اليوم بالجيوش الجرارة والأسلحة الفتاكة يستولون بها على أوطاننا وينهبون ثرواتنا، الآن أصبحوا يفعلون ذلك بقوة الاقتصاد وأسلحة العالم وما يسمونه بالتكنولوجيا، هذه هي الامبريالية، هز محدثي رأسه كأنه لم يفهم، أو كأنه لم يقتنع بتفسيري للمصطلح الذي يسأل عنه وقال: أقول لك الصحيح؟ كان عندي في الضيعة محرك مضخة شطح، يعني افقي، ماركة امبريال، صنع الانكليز، كان احسن محرك اقتنيته، ليس مثل هذه المحركات الواقفة، يعني العمودية، السريعة العطب التي تأتينا من بلغاريا وهنغاريا والبلاد الأخرى التي لا أعرف اسمها، لماذا إذاً يسبون امبريالية ما دامت له صفاته الجيدة التي تحققت بالتجربة والتعامل الطويل؟
ما الذي كنت استطيع قوله لمحاوري عن تفاوت المعنى في مصطلح مشتق منه كلمتان متباينتان؟ لم أملك في ذلك الوقت إلا الابتسام مؤثراً السكوت على الإجابة عن سؤاله الأخير هذا، وكذلك لم أملك سوى الابتسام، بل والضحك، على ابهام المصطلح في واقعه مستني شخصياً وأرويها فيما يلي:
فقد مرت بنا فترة ارتفع فيها شعار الدعوة إلى صراع الطبقات في قطرنا، جاري القديم، صطوف الإبراهيم، الذي يعمل دلالا في أحد مرائب السيارات في بلدتنا، كان أحد الأصوات العالية في تلك الدعوة، علاقتي به جيدة، وما قصرت يوما ما في معونته حين كان جاراً لي، ولا في معونة ذويه الذين ظلوا جيرانا لي بعد ان سكن هو في حي مبعد عني، تناهى الخبر إلي بأن الحديث دار عني في أحد الاجتماعات التي حضرها وتكلم هذا الجار العزيز فيها، فقال، متباهيا باطلاعه الواسع على تصنيف الطبقات السياسية والاجتماعية وانتماء المواطنين إليها: اعرفه جيداً.. انه ارتوازي!
ارتوازي، انه مصطلح زراعي يكثر تردده على ألسن الناس عندنا حين يدور الكلام عن سقاية الأراضي الزراعية بالآبار الارتوازية، كان صطوف الإبراهيم يريد ان يعرف ساميعه بطبعي الليبرالي وانتمائي إلى الطبقة البرجوازية بين طبقات المجتمع، غاب عن ادراكه ومعلوماته مصطلح برجوازي، فنعتني بأني ارتوازي، واظن ان لو نبهه أحد إلى صحة المصطلح الذي يريد ان يستعمله لظل في عناد مثل عناد صاحب زميلي الطبيب، حين قال انه يريد الدكتور ليفلح عليه لا التراكتور ليتعالج عنده.
هذه بعض مضحكات استعمال المصطلح، ارجو ان اكون نبهت فطاحل النقاد إليها، وانهم فهموها مني بأكثر مما فهمت العديد من نظرياتهم التي لا يسهل علي هضمها واستساغتها، لا حتى ولا الضحك منها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
ذاكرة
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved