الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

البطحي.. والتاريخ الشفهي
محمد عبد الرزاق القشعمي *

قبل عشر سنوات، كنت أزور حائل، لأسجل ضمن مشروع مكتبة الملك فهد الوطنية (التاريخ الشفهي للمملكة) مع بعض الرواد هناك، وكان طريق العودة يمر عبر عنيزة.. وفي برنامجي أن أقابل عدداً من المربين وغيرهم. وكنت أبحث عمن يقنع الأستاذ عبد الرحمن إبراهيم البطحي أن يكون أحدهم ويعرفني به، لأنني كنت أسمع عنه الكثير من مدة طويلة، وعن ملتقاه الثقافي اليومي، وكان أغلب من يزور عنيزة من المهتمين لا بد أن يمر بمجلسه سواء في منزله القديم (المسهرية) أو بمزرعته الحديثة (مطلة) التي حولها إلى ملتقى له برواد مجلسه سواء من أبناء عنيزة المقيمين أو من يزروها من سواهم، وكنت أرغب حضور مجلسه عند زياراتي عنيزة لمعرفتي ببعض أقاربه وبالذات ابن عمه سليمان العبد الله البطحي منذ أكثر من عشرين عاماً وكان يحضر مجلسه.. وقد دعاني ولكني كنت أتهيب ذلك لكونه ومن يرتاد ملتقاه من علية القوم أو ممن يحسنون الحديث في الشأن الثقافي العام الذي كان محصولي منه متواضعاً، فأؤثر الاختلاط بالشباب الذين يقتلون وقتهم بلعب الورق وبالذات لعبة لم أعرفها إلا في عنيزة وهي (التركس) قريبة الشبه بلعبتي البلوت والكنكان.
اتصلت بابن عمه وطلبت منه أخذ موعد لي معه - إذ سبق أن هاتفه أحدهم وأعتقد أنه أمين مكتبة الملك فهد الوطنية الأستاذ علي بن سليمان الصوينع للتمهيد لهذا اللقاء، وكان اللقاء بمنزله صباحاً وصحبت ابن عمه وأحد الفنيين العاملين بمركز صالح بن صالح الثقافي ليتولى تسجيل اللقاء (بالفيديو) صوتاً وصورة.. رحب الرجل وسريعاً زالت الحواجز وكأننا نعرف بعضنا منذ زمن. بعد تناول القهوة والفطور قلت له: هل نبدأ؟ فسأل عن الموضوع الذي أحب أن يتحدث فيه، فقلت له: نبدأ بتاريخ عنيزة والأسر المشهورة بها والمعارك والوقائع التي تعرضت لها على مدى تاريخها ومن هاجر منها من الأسر إلى الدول المجاورة والبعيدة كالهند وغيرها.. وبدأ مرافقي يجهز آلة التسجيل ومستلزماتها من إضاءة.. فاعترض رافضاً ذلك مطالباً الاكتفاء بتسجيل صوتي فقط. حاولت أن أثنيه.. فرد علي: (إذا ذكر لك أن أي واحد لديه لي صورة ولو صورة من جواز أو غيرها فأنا موافق على ما تطلبه وهذا ليس زهداً وتواضعاً ولكني آليت على نفسي ألا أعرضها للإعلام) والصورة هي البداية. اضطررت أن أنزل عند رغبته وأبعث ابن عمه لإحضار أشرطة تسجيل وبدأنا وأذن لصلاة الظهر وصلينا واستأنفنا التسجيل، وأحضر الغداء وتناولناه، واستمر الحديث وحان وقت صلاة العصر، فأديناها وعدنا لما نحن عليه حتى قرب غروب الشمس.. فاستأذن، لأن مجلسه في مزرعته (مطلة) قد حان وهناك من ينتظره، فاحترمت حرصه.. وودعته وكان مجموع ما سجلته معه قرابة ست ساعات، واستعرت منه مجلدات مخطوطة مما سجله الراوية المرحوم عبد الرحمن الربيعي لتصويرها للمكتبة وإعادتها إليه.
لقد انفتح لي الباب وأصبح من أعز الأصدقاء، وكثيراً ما يطلب مني أن أزوره ومعي أستاذنا الجهيمان، وكان للأستاذ إبراهيم بن عبد الرحمن التركي فضل لقائنا به مرة أخرى، إذ نظم ندوة ثقافية عن حياة الرائد عبد الكريم الجهيمان في مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة في نهاية شهر شعبان 1421هـ وشارك بالندوة مجموعة من الأدباء وسواهم أذكر منهم إلى جانب مدير الندوة - التركي - الدكتور معجب الزهراني والأساتذة عبد الرحمن الزيد السويداء وعبد الله حسين العبد المحسن وناصر الحميدي وأخوكم إلى جانب عدد من الخطباء الشعراء الذين تباروا وشاركوا في تكريم أستاذنا الجهيمان.. اختتمنا ليلتنا بحفل عشاء كبير مع محافظ عنيزة الأستاذ الطيار عبد الله اليحيى السليم، وكان الغد بكامله لأبي إبراهيم - البطحي - فمنذ الضحى استضاف المجموعة بمنزله وخصص غرفة لاستراحة الأستاذ الجهيمان - إذ لا يستطيع مواصلة الجلوس مدة طويلة لكبر سنه حفظه الله - وبدأ الحديث سجالاً مع الأساتذة عبد الكريم الجهيمان وإبراهيم السبيل وعبد الرحمن السويداء وغيرهم وبالذات عن (العقيلات) وتاريخهم، ومن أشهرهم من عنيزة، وأمكنة وجودهم، ونوع تجارتهم.. إلخ وبعد صلاة الظهر وتناول الغداء استؤنف الحديث حتى المساء ولم ينهه إلا الارتباط ببرنامج سابق للضيوف مع جمعية الفنون الشعبية.
ولاحظ الأستاذ الجهيمان أن مضيفنا - عبد الرحمن البطحي - لا يحضر المناسبات إذ لم يحضر ندوة البارحة في مركز ابن صالح ولم يذهب معنا للفنون الشعبية، فذهب لوداعه في صباح الغد وقال له ملاحظته: إنك محبوب من الجميع ولديك مخزون من العلم والمعرفة لا حدود له، فكيف تبخل بها على من يريدها، فقال: هذه عادتي منذ عرفت نفسي أزور وأواسي المريض وأحضر مناسبات العزاء، أما الأفراح من حفلات زواج أو تكريم، فأنا لا أحضرها. حاول أن يقنعه فرد عليه: إن لي زواراً كثيرين يأتي بعضهم من مناطق بعيدة دون موعد مسبق مما يضطرني أن أحسب حسابهم ولا أخلف موعد اللقاء اليومي، إذ قد نذر نفسه بعد تقاعده للعلم والمعرفة من خلال مجلسه الثقافي وتفرغه لذلك.
وهكذا تكرر اللقاء به في كل مناسبة أو عيد أذهب فيها للزلفي أرافق الأخ محمد العبد الله السيف - رئيس القسم الثقافي بجريدة الاقتصادية حالياً ورئيس تحرير مجلة صدى طويق وقتها أعادها الله مرة أخرى - ونقضي بملتقاه (مطلة) وقتاً جميلاً مفيداً بين صلاتي المغرب والعشاء وكثيراً ما يصر على دعوتنا لمرافقته لمنزله لتناول طعام العشاء. قبل سنتين أصر على دعوتنا وخص بالدعوة الأساتذة عبد الكريم الجهيمان وسعد البواردي واستأجر لذلك استراحة قضينا معه يوماً وليلة كانت من أمتع الأوقات.
* سبق أن حدثني عن فترة قضاها في شبابه بلبنان للعلاج وطالت المدة لتقارب السنة وتعرفه وإعجابه بمارون عبود وغيره من أدباء لبنان واستعرض ما نهله من الكتب وحضوره للمناسبات الثقافية العامة وأنه استفاد ثقافياً أكثر مما استفاد صحياً، إذ بقي طوال حياته لا يستطيع أن يلتفت من رقبته المتصلبة.
* ذكر أن عدم رغبته حضور الاحتفالات أو المناسبات قديمة، فقد كان قبل تقاعده مديراً للمدرسة السعودية - ذات الشهرة في عنيزة التي خرجت أجيالاً من كبار المسؤولين في الدولة وهي أول مدرسة نظامية هناك - وكان في مناسبات الاستعراضات الموسمية أو الاحتفال بقدوم مسؤول كبير يجهز الطلبة ويعدهم ويقودهم إلى المكان المخصص ويعود أدراجه دون أن يشاركهم.
* قال: إن قطار الزواج قد فاته لظروف خاصة، وأن كثيراً من أصدقائه يحلفون لغيرهم أنهم صغار السن بدليل أن من أصدقائهم من لم يتزوج بعد.
* ويستذكر بإعجاب وتقدير أستاذه الراوية الشاعر عبد الرحمن الربيعي ومرافقته له وتسجيله لكثير من القصائد الشعبية التي تتداول، وحفظه لتاريخ المنطقة ورجالها.
* استغربت وجوده بمنزل قديم ومتواضع وعدم وجود مكتبة كبيرة لديه، بل اكتفى بمجموعة من الكتب في خزانتين أو ثلاثة بمجلسه بالمنزل ومجموعة أخرى مع كمية من الأشرطة المسجل عليها مواد ثقافية في جوانب المجلس، فذكر أنه عندما يطلع على الكتاب يكتفي بما اختزنه في ذاكرته من معلومات وأنه يحرص على المراجع الرئيسة وقد أطلعني على مجموعة من الكتب خلف مقعد سيارته المتواضعة ذات الحوض التي يتنقل بها بعض الأحيان إلى مزارع أو أودية خارج المدينة ويقرأ هناك بعيداً عن الضجيج والإزعاج.
* كان والده من التجار المعروفين في عنيزة قبل مئة سنة، وكان منزلهم لا يخلو من الضيوف يومياً وبالذات من أبناء البادية الذين يأتون ليتبضعوا من والده، وقد أطلعني على بعض (الملفات) من أرشيف والده التي تضم الكثير من البرقيات والخطابات التي ترد له من الهند والبحرين والشام والعراق ومكة وبها معلومات مفصلة عن أسعار المواد الغذائية والعبايات والفري (جمع فروة) ويعلق ضاحكاً: إنه بمثابة (البورصة) في الوقت الحاضر.
* يعد أبو إبراهيم مرجعاً مهماً لكل من يبحث في التاريخ، بل في العلوم الأخرى كلها، ويقصده الكثير من الباحثين، فقد عرفته أنه استضاف الباحث الأمريكي (دونالد كول) الذي شارك الدكتورة ثريا التركي في بحثها عن الحالة الاجتماعية لعنيزة وتحولها من بلدة بدائية إلى مدينة حديثة، وقد استفاد منه كثيراً وعدَّه مرجعاً مهماً له.
* كما استضاف ورافق الدكتور فيصل بن عبد الله القصيمي عند زيارته للقصيم لأول مرة وذهابه إلى مسقط رأس والده - عبد الله القصيمي - قرية (خب الحلوة) المندثرة في إحدى ضواحي بريدة، وكذا ذهابهم إلى الشقة، حيث انتقلت إليها جدته بعد طلاقها من جده - علي الصعيدي - وزواجها من آخر من عائلة الحصيني.
* وأخيراً زيارة الباحث الأمريكي أبو إسكندر - البروفيسور برنارد هيكل له مع الأخ محمد السيف قبل ثلاثة أو أربعة أشهر على الرغم من مرض أبي إبراهيم، إلا أنه عاد من المقابلة مذهولاً ومعجباً بما سمعه من روايات ومعلومات مهمة ومفصلة.
أكتب هذا الكلام حيث كان الأستاذ البطحي يرقد في مستشفى الملك فهد للحرس الوطني بالرياض بعد نقله إليه من عنيزة، وكان يشكو من كسر في الفخذ إلا أن آلاماً أخرى قد اكتشفت مؤخراً دون أن نذكرها وهي الكبد وغيرها.. لقد علمت من مرافقه الوفي ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله أنه لا ينصح بزيارته لكونه في غرفة العناية الفائقة فاقداً للوعي وأحياناً تمنع زيارته مراعاة لصحته.
وقد علمت أن الأخ محمد السيف يجمع ما سبق أن كتبه - البطحي أو كتب عنه مع مقابلة معه سبق نشرها في الاقتصادية قبل سنة ونصف.. وسيقدم ذلك بين دفتي كتاب ليخلده به.. ولعل ذلك يحفزني للبوح بذلك إذ لم يكن سراً، وأدعو بالمناسبة أقاربه وأصدقاءه الحميمين، تقديم ما لديهم من معلومات أو وثائق هو لا يرغب بتقديمها زهداً وبعداً موارياً عن الأضواء.
* وأخيراً ..فقد حلّ الأجل وتوقف القلب الكبير عن النبض عصر يوم الخميس 24/6/1427ه 20/7/2006م ونقل ليصلى عليه ويدفن مدينته الغالية (عنيزة) بعد صلاة الجمعة فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وذويه وأصدقائه ومحبيه الصبر والسلوان.


* الرياض

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved