الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

قراءة في فكر البطحي التاريخي
د.عبد العزيز بن صالح الشبل*

رحم الله أستاذنا وأستاذ أجيال من عنيزة - عبد الرحمن بن إبراهيم البطحي - فهو علم فذ في عدة مجالات، فقدنا بفقده نموذجاً يحتذى في حب الأوطان والتفاني في سبيلها، وهذا هو عزاؤنا جميعاً في مصابنا فغفر الله له وأسبغ عليه شآبيب الرحمة وإنا لله وإنا إليه راجعون.
هو أستاذ ومرجع في الأدب وخاصة في مجال الشعر وهو حجة في الشعر الشعبي على وجه الخصوص، وهو كذلك أستاذ في التربية والتعليم وخدمته العلمية في المجال سنين طويلة أوضح من أن تذكر، لست متخصصاً في الأدب والشعر ولا في التربية والتعليم لأتحدث عنه في هذين المجالين.
ولكن مجالاً ثالثاً برع فيه وصار فيه حجة ومرجعاً أيضاً وهو التاريخ وخاصة مجال(التأريخ لمحبوبته عنيزة) وهو ما أشاركه فيه ولي فيه معه حوار وتناغم، وإن كان هذا لا يعني إقصاء مجال الشعر الشعبي مثلاً فكثيراً ما رجعت له في مسائل وأفادني - رحمه الله - بما يعرفه تاريخياً عن طريق الاستشهاد بنماذج من هذا الشعر الذي يوثق الأحداث.
تلخص حبه وشدة انتمائه لعنيزة وأهلها في هذه العبارات التي قالها في تقديمه فارس عنيزة (علي الخياط رحمه الله): لكل إنسان الحق المطلق بأن يفخر ويعتز بتاريخ بلده، وبأفعال أهلها المتميزة - إن وجدت - لا بقصد الادعاء، ولا بقصد التعالي على الغير والاستهانة به، وإنما بهدف ممارسة الحق الطبيعي وتثبيته، ومن يدعي احتواء الفضل ومبررات الفخر وحده دون غيره فهو تافه مغرور ( كالديك يظن أن الشمس لا تشرق إلا لتستمع إلى صياحه).! حتى لا أطيل في حديثي، أتناول جانباً ركز عليه الأستاذ البطحي واهتم به - رحمه الله - وأجزل له المثوبة، ذلك هو جانب (التوثيق) الذي ألتقي معه فيه، بحيث إن الأحداث التاريخية يجب أن نعتمد فيها الدقة والتحقيق الموثق قدر الإمكان بدلاً من التضخيم الأسطوري القصصي وسرد البطولات الفارغة الوهمية لجذب الانتباه.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو ما قام به أستاذنا عبد الرحمن البطحي قبل سنوات قليلة بتقديم (راعي البندق الخياط) واستوحى من سيرة الخياط وقصيدته رائعة عبد الرحمن البطحي بعنوان (هذي عنيزه) التي أراد البطحي من خلالها أن يوثق تاريخ فترة وأحداث مرت بعنيزة من خلال التأريخ لأحداث بعضها لم تمر بالبطل الفارس علي الخياط وإنما كانت قبله وبعده.
بغض النظر عن الأحداث وما ورد فيها وبغض النظر عن سرد ملحمة أستاذنا البطحي، حيث لا يتسع المجال للاستفاضة فيهما، أقول إن عمله هذا درس عملي في التوثيق التاريخي وتحقيق الأحداث بما لا يدع مجالاً للتشكيك فيها.
فقد اعتمد الأستاذ البطحي في تقديمه لتاريخ وحياة الخياط وكذلك تاريخ عنيزه أسس التوثيق وأهمها :
1 - الروايات المحلية المتداولة بالتواتر
2 - سؤال ومراجعة كبار السن بعرض ما اشتهر من روايات في أمر ما عليهم والتدقيق فيما يسمع من إجابات مع التركيز على ما يقوله هؤلاء الكبار.
3 - الوثائق المكتوبة مثل صكوك البيع والشراء
4 - الشعر الشعبي الذي ذكر تلك الأحداث فهو نص معاصر وشاهد حال يمثل أسلوب ذلك لعصر في تسجيل الوقائع والأحداث رصداً وتوثيقاً.
قصة الشاعر الفارس علي الخياط وبطولاته في الدفاع عنيزة وقصائده في ذلك خاصة قصيدته التي اشتهرت على كل لسان من أهل عنيزة وعرفوا بها أينما حلوا التي اشتهر منها البيت الثاني:
هذي عنيزه ما نبيعه بالزهيد
لا فرعن البيض نحمي جالها
كل هذا مشهور ومعروف حتى خارج عنيزة والقصيم لا يحتاج إلى إعادة، والقصة تتلخص في كون علي الخياط - رحمه الله - كان أحد أبرز رجالات عنيزة الذين سطروا ملاحم في الذب عن حماها إبان أحداث وظروف النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري التي عصفت بعنيزة ومنطقة القصيم وبلاد نجد كلها وللحديث عنها مجال آخر لا يتسع له المقام.
المهم أن الأستاذ البطحي في توثيقه لذلك كله عمل على استنطاق الأسس الأربعة السابقة في دراسة حرص على أن تكون معمقة ومفصلة لم يكتف فيها بتحقيق ما قام به الخياط من بطولات فقط حتى لا تكون أحداثاً معزولة عما قبلها وما بعدها، وإنما تطرق لأحداث وجوانب مهمة أخرى مرتبطة بتاريخ تلك الفترة.
ناحية مهمة لا بد من ذكرها وهي أن أستاذنا انطلق في كل ذلك من إعجابه واعتزازه بالشاعر الفارس علي الخياط حيث يلقبه في دراسته ب: (البطل) انطلاقا من حبه وشغفه بعنيزة كما أشرنا سابقاً وضرورة تقديم تاريخ هذا البلد للأجيال الجديدة من الشباب كما ينص في مقدمته وذلك عن طريق سيرة رجالات مميزين لهم إسهامات مميزة في أمجاد عنيزه أمثال الشاعر الفارس علي الخياط.
بدأ تقديمه بتوثيق أسرة ونسب الخياط ليس اعتماداً على ما تم تناقله من روايات محليه فحسب بل بحث عن أحفاد الخياط واتصل بهم أينما كانوا مثل اتصاله بعبد الله بن رشيد بن إبراهيم بن علي الخياط ساكن تبوك لتوثيق النسب.
أما بالنسبة لأحداث سيرة الخياط ودفاعه بحماس وشجاعة عن عنيزه فقد اعتمد البطحي على الروايات المشهورة المتداولة وهي متواترة، ولكنه - وهذا هو المهم هنا - وقف عند بعض الجوانب مثل ظروف خروج الخياط من عنيزة إلى بريده في آخر حياته، فلم يكتف بما سمع لتضارب بعض الروايات من حيث السبب وتحديد التاريخ ولذا لجأ إلى الأساس الثاني في التوثيق وهو سؤال كبار السن، حيث تيسر له حسب ما يذكر في الثمانينات الهجرية من القرن الماضي وجود رجال من أهل الدراية الثقات أدركوا كثيرين ممن عاصروا الخياط، مثل المرحوم الشاعر والراوية عبد الرحمن بن إبراهيم الربيعي والمرحوم إبراهيم المحمد السليمان البسام والمرحوم عبد الرحمن العبد العزيز الزامل السليم وتحقق منهم حول هذه الجزئية بمقابلتهم وتوجيه أسئلة لهم بعضهم أجاب عنها شفاهة وبعضهم أجاب كتابة.
كما استخدم الوثائق المكتوبة للتأكد مما ذكر له مثل اطلاعه على ثيقة بيع حوش على ابن الخياط، استدل من تاريخ توقيتها أنها بعد موت الخياط.
وهكذا يقوم الأستاذ البطحي بعد ذلك بالمقارنة والترجيح حسب ما يتبين له من مجموع هذه الأسس والمصادر.
رحم الله أستاذنا عبد الرحمن فقد لمست هذا الأسلوب لديه منذ عرفته في تتبعه وتوثيقه للأحداث سنين طويلة فكنت ألتقيه بين فترة وأخرى بدءاً من مجلسه (القهوة القديمة) في بيت والده - رحمه الله - في حارة المسهريه وسط عنيزة ثم في مزرعته المشهورة (مطلة) وأحياناً في منزله الذي سكنه مع إخوانه في حي ابن عيد غرب عنيزة.
لمست طريقته في التحقيق حينما نناقش موضوعاً أو حدثاً معيناً إذ لاحظته يحرص على التأني واستقصاء جوانب الموضوع بالسؤال عن المصدر ولا يمل من الإسهاب والاستطراد بقصد التأكد ثم بعد فترة من هذا اللقاء أو ذاك يقول لي عند اتصالي به إنه بحث عن كذا وكذا ووجده كما قيل أو يختلف الخ.
أما في مجال تعليقاته وبيان وجهة نظره في مسألة من المسائل فقد أدهشني بسعة صدره في التوضيح والإطناب لإيصال ما يريد بوضوح كما يعرف كل من تحدث معه، فقد تميز بأن لديه - رحمه الله - صوتاً جهورياً جميلاً واضحاً في مخارج الحروف وتسلسل الأفكار بحيث يشد السامع فلا تند عنه كلمة أو عبارة حيث لا أذكر أني طلبت منه إعادة ما قال لوضوح منطقه حتى حينما يكون الحوار على الهاتف.
هذا كله مع احترامه وإنصاته باهتمام لوجهة النظر الأخرى إذا خالفته وكنت ألمح فرحته باستفادته من معلومة أو رأي آخر حينما يجده منطقياً مقنعاً.
ما قلته هنا غيض من فيض من ملاحظات شخص عاشر وعرف الأستاذ عبد الرحمن البطحي على مدى سنوات ولعلي وآخرين نتم بعض جوانب كان - رحمه الله - يرغب في إتمامها، ومهما قلت فلن أوفيه حقه ولكن أرجو من الباري - عز وجل - أو يتقبله في الصالحين ويجزيه عن خدمة وطنه وأهل وطنه خير الجزاء.


* أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر- الخبر

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved