الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

عبد الرحمن البطحي.. سيرة ومسيرة!
محمد عبدالله السيف

يُعدُ المربي الفاضل الشيخ الراوية عبد الرحمن بن إبراهيم البطحي ظاهرة فريدة في مسيرتنا الثقافية والأدبية، ونقطة انعطاف توقف عندها الكثير من المفكرين والمثقفين والباحثين والصحافيين على اختلاف توجهاتهم وآرائهم، حيثُ وجد كلٌ منهم ضالته وبغيته لديه في مختلف مناحي ومجالات الفكر والثقافة العامة.
وكنتُ قد أجريتُ حواراً صحافياً مطولاً معه، نُشر في صحيفة (الاقتصادية) تناول سيرته ومسيرته وشيئاً من اهتمامته وآرائه.
وتلبيةً لدعوة كريمة من أخي العزيز الأستاذ إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، مدير التحرير للشؤون الثقافية، للمشاركة في هذا العدد المُخصّص لتأبين الراحل الفقيد، أعرض لشيء من سيرته واهتماماته وآرائه وأفكاره، مما هو مُستخلص من ذلك الحوار.
مولده ونشأته:
ولد عبدالرحمن بن إبراهيم البطحي في اليوم الخامس من شهر شوال 1357هـ، وذلك في مدينة عنيزة، التي ولد فيها والده وجده وجد والده.
وقد نشأ في بيت يتمتع من حيث المستوى المادي بمستوى يراوح بين أدنى من الأعلى وفوق المتوسط، حيثُ كان والده أحد أشهر تجار مدينة عنيزة آنذاك.
تعليمه:
تلقى البطحي تعليمه الرسمي في مدينة عنيزة حيث أكمل المرحلتين الابتدائية والإعدادية، التي حصل على شهادتها بطريقة المنازل واكتفى بشهادة المرحلة الإعدادية، إذ لم أحمل أي مؤهل دراسي رسمي.
والسبب في عدم اكماله لتعليمه، هو كما يقول عنه البطحي نفسه من أن (القدر كرمني وبعض زملائي بالفصل من الدراسة في بداية عام 1377هـ.... ولم يكن لنا بد من التقدم للشهادة الإعدادية عن طريق المنازل).
وحينما سألته عن السبب وراء هذا القرار الإداري، الذي قضى بحرمانهم من إكمال التعليم، قال: (إلى يومنا هذا لا نعرف سببا منطقيا لذلك الإجراء الخاطئ الذي يولد لدينا الاستنكار لا الأسف، بمعنى أننا لم نتوصل إلى سبب منطقي إلا اللهم أننا أدركنا واجبنا الوطني في سن مبكرة حيث لم يكن يوكل لمن في سننا غير رعاية الشاة والسير خلف أخفاف الإبل في فجاج الصحراء، أو ترقيص المناجل بين قصب القمح وأعواد البرسيم.
ولعل من فوارق الأمور أن ما كنا نحاول تحقيقه في الوسط المدرسي من بث الروح الوطنية عن طريق نشر الوعي والثقافة في تلك السن المبكرة والزمن الذي يشكل فارقا قدره 50 عاما تقريبا والذي عوقبنا للنزوع إليه بالفصل والحرمان من الدراسة: هو ما تسعى إليه الجهات العليا في الوطن اليوم وندعو إليه بكل الوسائل والإمكانيات ولعل العزاء أن يرى الإنسان أن ما كان يدعو إليه ويمارسه لتحقيق مصلحة وطنه وبني وطنه منذ نصف قرن هو ما تبذل الجهود لتحقيقه في يومنا هذا..إنه لعزاء عظيم!).
قلتُ له: ألم تجروا اتصالاً بالمسؤولين في الوزارة في حينه لأخذ الحقيقة من منبعها الأصلي؟ فقال: (بلى، لقد اتصلنا وحاولنا وطالبنا بإجراء التحقيق معنا وأبدينا استعدادنا لتقبل أي إجراء يتخذ في حقنا إذا ما أسفر التحقيق عن إدانة لنا تستوجب ذلك.
وكان أكبر مسؤول التقيناه هو ذلك الشيخ الفاضل المتواضع العظيم في تواضعه عبد العزيز بن عبد الله بن الشيخ، وكيل الوزارة حينذاك.
ولكن كل محاولاتنا لم تحقق شيئا، فقط أفهمنا أن علينا أن نمتثل فاستجبنا وامتثلنا...).
إلى بيروت:
بعد أن تم إبعاده من المدرسة، قرّر البطحي السفر إلى بيروت، التي عشقها وأحبها وكان لها الدور الأكبر في تشكيل وعيه الثقافي والمعرفي والسياسي، والتي وصفها بأنها أوكسجين العالم العربي، المعبأ بالغازات الخانقة! في بيروت التقى الفقيد الراحل بعدد من المفكرين والمثقفين وحاورهم وناقشهم، وعكف على أمهات الكتب، في قراءة مستوعبة متأنية.
كما التقى بعدد من مفكريها ومثقفيها من أمثال الشيخ مارون عبود، القاص والأديب الناقد المعروف، وذلك حينما كان يتردّد على ثانوية (عَالَيْه66 في صيف 1375هـ، وكان عبود مديراً فخرياً للثانوية، فكان البطحي يجلس معه ويناقشه.
يصف البطحي مارون عبود قائلاً:(كان شيخاً جذّاباً كل ما فيه يشدك إليه، جلسته، عكازه، طربوشه، حديثه الهادئ، ابتسامته، وقد كنتُ أتأمل في سمات ذلك الشيخ الذي يجمع بين الود والخطورة التي تمثلها لذعاته النقدية الأدبية، ومن أجمل لذعاته التي أدلى بها في أحد أحاديثه التي كان يُلقيها من محطة الشرق الأدنى البريطانية الاستعمارية في قبرص، قوله عن الشباب الجامعي اللبناني: (إن شبابنا الجامعي يكتفي بالسلاح الجامعي.. وإن كان من نوع السلاح الفاسد)! وهذا التعبير في نظري يفوقُ قول فولتير الفرنسي: (إن الشباب عندنا كالطفل الذي لا يعرف إلا كلام مربيته!).
كما التقى البطحي في بيروت بصاحب (الحارثيات) جورج حنّا، وذلك في مكتبة دار الثقافية للنشر والطباعة، الواقعة في ساحة رياض الصلح، وكان جورج من أكثر مثقفي لبنان، الذي أطال البطحي معه الحوار والنقاش حول حركة الفكر العربي وال أوضاع السياسية العربية، كما كان البطحي يروم (دار العلم للملايين) مما شكّل علاقة مع منير البعلبكي.
والمثير في رحلة البطحي إلى لبنان، أنه حينما قرّر السفر إليها حمل معه من عنيزة ديوان الرصافي وجواهر الأدب، وكان الهدف هو خشيته ألا يجد في بيروت ما يقرأه! وظل الراحل كلما تذكر هذا الموقف ضحك من نفسه واعتذر للبنان! عوداً إلى العمل بعد عودة البطحي من بيروت، التحق في قطاع التربية والتعليم، حيثُ عمل معلماً ثم مديراً في المدرسة العزيزية (الملك عبد العزيز) وهي المدرسة الابتدائية التي تخرج فيها قبلُ، وقد ظلّ فيها مدة 34 عاماً إلى أن رغب في التقاعد المُبكر بتاريخ 1-4-1412هـ.
وخلال هذه المدة الزمنية، صادق البطحي على شهادات تخرج لأربع وثلاثين دفعة، من أبناء عنيزة، الذين يتبوأ عدد منهم اليوم مناصب وظيفية مرموقة وفيهم أكاديميون ومثقفون.
ويصف البطحي تلك الفترة التي قضاها مع تلاميذه من أبناء عنيزة بأنها التاج الذي يضعه على هامته، كما أنها لديه أعظم وأكثر إثرة مما لو كان مالكاً وحاكماً مُطلقاً لجزر المالديف! مفتخراً ومعتزاً بأنه وبعد رحلته الطويلة في التربية والتعليم، تتلمذ على بعض منهم فيما يختص بتخصصاتهم، وذلك من خلال اللقاءات والحوارات أو من خلال نتاجهم الفكري والأدبي.
يقول البطحي (ما ألذّ وأحلى أن يتناول المرء غذاءً، له بعض المساهمة في إنتاجه وإنضاجه) التعليم في عنيزة: تحدث الراوية عبدالرحمن البطحي في حواره عن أقدمية مدينة عنيزة، من حيث التعليم النظامي في نجد، كما تحدث عن أبرز معلمي تلك المرحلة، فقال عنهم: (في المرحلة الابتدائية يأتي العملاق التربوي شيخنا الجليل المرحوم الأستاذ صالح بن ناصر بن صالح على رأس القائمة، إنه المعلم المربي المتفاني في سبيل مهنة التربية والتعليم وكل ما يرفع من شأن مدينته وأبنائه، والذي يعتبر بحق أب التعليم الرسمي في عنيزة.
يتلوه أخوه الصبور الوقور عبد المحسن بن ناصر الصالح والأستاذ الراسخ في ذاكرة كل من عرفه حتى اليوم على بن ناصر السيوفي، وكذلك المشايخ: سليمان بن محمد الشبل، محمد العبد العزيز المطوع، محمد العبد الله الخليفي، حمد الإبراهيم الشريف رحم الله جميعهم، والشيخ الأستاذ حمد بن محمد البسام، عافاه الله فيما ألم به، والأستاذ الرائع صالح بن عمر الصائغ، أمد الله في عمره وأدام عليه لباس الصحة والعافية.
ومن ذكرته ومن لم آت على ذكره كانوا جميعهم أوفياء أجلاء ولا أبالغ إذا ما قلت إنهم من وضع البنية التحتية وأحكموا الأساس لانطلاقة التربية والتعليم المتميزة في عنيزة.
ويُطلق البطحي لقب (أبو التعليم الرسمي في عنيزة) على الشيخ صالح بن ناصر الصالح، وذلك لأن مدرسته هي أول مدرسة رسمية في عنيزة والتي نهضت بجهده وتطورت بمتابعته الدقيقة المخلصة.
أما لقب (أب التعليم الحديث) ليس في عنيزة وحدها بل في بلاد نجد كلها، فيمنحه البطحي للمعلم صالح بن عبد الله القرزعي، الملقب «حبحبا».
ويواصل البطحي حديثه عن القرزعي بأنه قد افتتح مدرسته عام 1338هـ، ومعه أخوه عبد الرحمن فأدخل علاوة على تدريس القرآن الكريم والعلوم الدينية من فقه وتوحيد، أدخل مواد: الخط، الإملاء، الأناشيد، والحساب على القواعد الأربع وحساب التجار وتوفي رحمه الله سنة 1348هـ وفي هذا العام افتتح صالح بن ناصر مدرسته الأهلية التي عوضت المجتمع العُنزي عن مدرسة القرزعي، بل تفوقت عليها من حيث التنظيم والكماليات ما جعلها تُختار من قبل معتمدية المعارف حين ذاك بأن تتحول إلى مدرسة حكومية سنة 1356هـ، حيثُ أصبحت نواة التعليم في عنيزة على مستواه الحالي، وهذا ما يعني أن الشيخ ابن صالح هو أب التعليم الرسمي، وأما التعليم الأهلي الحديث في كل بلاد نجد فهو المعلم القرزعي الملقب «حبحبا»
شيء من تاريخ عُنيزة:
حيثُ أن هناك من يلحظ أن ثمة تميّزاً لمدينة عنيزة عن غيرها، ليس على مستوى القصيم فحسب، بل على مستوى نجد، فإن البطحي يلحظ هذا التميّز ويُرجع جذوره إلى عدة قرون مضت، حيثُ أن مدينة عنيزة نشأت بدايةً وتأسست على يد الأمويين ثم العباسيين ومن بعدهم آل جناح من بني خالد الحجاز العامريين، فسُبيع القادمون من الخرمة.
ومعروف أن الأمويين أقاموا دولتهم في الشام وأما العباسيون ففي العراق، أي أن المُنشئين المؤسسين الأوائل لأقسام عنيزة الأولى أناس يمثلون حضارة مكة في الجاهلية ثم حضارة الشام والعراق العظيمتين، ما جعل طبيعة نشأتها تختلف عن نشأة غيرها من مدن نجد المعروفة اليوم، التي كانت بداياتها إما موارد لقبائل من البادية يقطنونها صيفاً ويهجرونها في فصلي الخريف والشتاء وجزء من فصل الربيع، وبعضها ابتدأ بأسرة ريفية محلية هي أقرب إلى البداوة منها إلى المدينة وظلّت تتوارثها جيلاً بعد جيل دون أن يتم على وضعها أيُ تغيير يقود إلى وضع شبه حضاري، إلى جانب هذا، فعنيزة وبسبب وقوعها على طريق الحج وتوسطها منه حصلت على اهتمام كبير من الأمويين فالعباسيين بحيثُ تصبح ملتقى ومستراحاً لحجاج بيت الله القادمين من وإلى الأماكن المقدسة من مسلمي العراق وإيران والبلاد الواقعة شرقاً عنها وهؤلاء الحجاج في جملتهم ينتمون إلى أعظم الحضارات المعروفة قبل الإسلام ما يجعل لبقائهم في عنيزة أثراً حضارياً لا يمكن تفاديه، خاصة أنه يتمُ سنوياً على مدى عدة قرون.
ويُعزز البطحي كلامه هذا في أن الشيخ الجليل (ابن الجزري) مؤلف كتاب 66النشر في القراءات العشر66 لجأ إلى عنيزة وألف في جامعها (جامع الجراح66 مؤلفه (الدرة) وذلك في 822هـ أي قبل ستة قرون تقريباً، ما يدلُ على أنها ذات قوة ومنعة وشأن مرموق منذُ زمن بعيد، ومن الطبيعي أن يتطور هذا التميز على مدى السنين حتى استحقّ شهادة فئات من المفكرين العرب والمسلمين والمستشرقين الغربيين والشرقيين على حدٍ سواء.
وحيال ما عُرف عن مدينة عنيزة من تسامح طيلة عدة قرون مضت، يعرض البطحي لعدد من الصور والنماذج الدالة على شيء من ذلك التسامح، مما رآه وأورده المستشرقون من عرب وغير عرب، خاصةً غير المسلمين الذين لم يبهروا فيها إلا بسبب ما واجهوه من تسامح وحسن لقاء ومعاملة راقية.
ككارلوجورماني الذي رفض الإمام عبد الله بن سعود مقابلته في الدرعية، ولكنه اختار له التوجه إلى عنيزة في حماية بعضٍ من رجاله، فاستقبلته عنيزة وأكرمته، وقد اعتبرها جورماني أكبر مدينة في نجد، وأن تجارتها الأساسية هي في الخيول العربية، وكذلك تشارلز داوتي، الذي قال عنها (إنها مدينة متحضرة تتمتع بسعادة ورفاهية أكثر من أي مكان آخر في الجزيرة العربية غير المتحضرة)، وقال أيضاً: (في عنيزة توجد حرية مدنية حيث لا توجد مظاهر للغطرسة لدى حكامها الطبيعيين، فقد يخاطب بعض الفقراء الأمير بألفاظ جارحة مثل 66ما بك خير66 فتُقابل من قِبل الأمير زامل بكل حكمة وقوة احتمال)، وما تحدث به الريحاني الرحالة العربي المهجري المسيحي، وما قاله غني عن الذكر، وكذلك ما كتبه الطبيب لويس دامي، عضو البعثة الإرسالية الأمريكية سنة 1342هـ: (أهل عنيزة أكثر ذكاءً وأفضل معرفة وأكثر إنسانية في الجزيرة العربية).
أما إليكسي فاسيليف، فقد لخّص أقوال الرحالة عن عنيزة في قوله 66نَعَتَ الرحالةُ عنيزةَ بأنها 66جمهورية مدنية66 ونعتوا أميرها بأنه 66أول المتكافئين66 وقالوا أي الرحالة عنه أيضاً 66إنه بمثابة رئيس جمهورية منتخب).
جامع الجراح
جامع الجراح هو أول جامع أُنشئ في عنيزة ، وهو جامعها الكبير والشهير، وبعد وفاة الشيخ محمد بن عثيمين، سُمّي الجامع عليه، فأصبح يُعرف ب(جامع الشيخ محمد بن عثيمين).
هذه التسمية الحديثة يرفضها البطحي رفضاً قاطعاً، مُعللاً ذلك بأن:(هذا الجامع يمثلُ رمزاً تاريخياً من رموز التاريخ لهذه المدينة العريقة وكان يجب بقاء اسمه على ما كان عليه، لأنه من ثوابت تاريخها التي يجب أن تبقى على امتداد الأجيال المقبلة وعلى الرغم مما للشيخ العثيمين، رحمه الله، من جلالة قدر وعظمة مكانة، إلا أنه لا يجب تغيير اسم الجامع ونسبته إليه ولا إلى غيره، وقد أخطأ من فعل هذا، فالرموز التاريخية للمدن والقرى يجب أن تبقى على ما هي عليه، لأنها ليست مُلك فئة معينة ولا جيل معين، بل هي للأجيال والتاريخ على امتداده، وإنني واثق كل الثقة أن هذه التسمية لو عُرضت على الشيخ محمد في حياته لرفضها، لأنه كشيخه المتفرد الجليل عبد الرحمن بن سعدي، لا يرغب في أي شيء يتعلق بالمظاهر، ولعلمه رحمه الله، أن هذا الجامع سبقه إليه عدد من أهل العلم والفضل كالشيخ محمد العلي الراشد، والشيخ عبد الله بن عايض، والشيخ القاضي الرائع صالح بن عثمان القاضي، وختامهم الشيخ العلامة المشهود له بالزهد والورع والعطف والتواضع النادر عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المتوفى سنة 1376هـ، الذي تتلمذ عليه الشيخ محمد العثيمين وخَلَفه على منبره).
ويرى البطحي أنه لو كان لأحدٍ أن يستبدل الاسم الأصلي التاريخي لهذا الجامع 66جامع الجراح66 باسمه، لكان فيمن سبق من هؤلاء الأفذاذ، مَنْ هو أحق وأولى من أن يحمل اسمَ آخرهم، ومَنْ ليس إلا عطاءً من عطاءاتهم، ويتمنى البطحي من كل فرد من أهل عنيزة أن يتشبّث بالتسمية الأولى التي تحافظ على ثبات رمز من رموز مدينتنا عنيزة في أذهان الأجيال القادمة، وأن لايعتمدوا هذه التسمية الأخيرة، التي لا تقدم بالنسبة للشيخ محمد شيئاً ولا تؤخر، بل إنها مخالفة لطبيعته، طبيعة الزهد والبُعد كل البعد عن حب الظهور ودوافعه.
كي لاينفصل الظل!
عُرف عن الراحل الفقيد عزوفه الكبير عن الإعلام وعن الأضواء، فلم يسبق أن أعطى لأحد حواراً صحافياً، رغم علاقاته الواسعة مع المثقفين والصحافيين، وذلك بحجة أن ليس لديه ما يقول! كما عُرف عنه، رحمه الله، أنه يرفض تصويره، إذ صدر كتاب من مدرسة الملك عبد العزيز بمناسبة يوبليها الذهبي، وتوجد في المدرسة صور فوتوغرافية لجميع الذين تعاقبوا ع لى إدارتها باستثنائه! ويُرجع البطحي السبب في امتناعه عن التصوير إلى تعليل لا تنقصه الفلسفة! حيثُ يقول:(كل ما في الأمر هو أنني لا أرغب في أن ينفصل عني ظلي ولا شيء غير ذلك).
آداب البادية
يُعد الفقيد الراحل أحد أبرز الباحثين والمهتمين بكل ماله صلة بثقافة البادية وتراثها وأعرافها وتقاليدها، رغم أنه ابن الحاضرة، ويُرجع البطحي هذا الاهتمام إلى أمرين، هما: أنه منذ أن كان شاباً يافعاً والصحراء تشده بأبعادها اللامتناهية وبعظمة صمتها وكبريائها وهدوئها وعصفها وصفائها وكدرها وخصبها وقحطها، إن كل مافي الصحراء يشده، وكله كان ضمن طاقة تحمله، فقد كان من خلال آفاقها المفتوحة على المُطلق ينفذ إلى ساحات لا حدود لها من التأمل والتفكير، وكثيراً ما أمضى فيها الساعات وحيداً لا مرافق له إلا أحاسيسه وكتابه، وبما قد تسعفه فيه الصدفة من اللقاء براعٍ بصحبة مواشيه أو إبله تتجسّد فيه الصحراء شكلاً ومنطقاً ليكتسب منه معلومة لم تنطق بها الرواة، ولم تطلها يدُ التدوين.
أما السبب الثاني فهو أنه ومنذُ طفولته المبكرة، قد تفتحت بصيرته على رؤية العشرات من رجال البادية ومن جميع القبائل تقريباً وعلى الأخص قبيلتي مُطير وعتيبة إلى جانب أسماء وشخصيات لا تنسى من قحطان وشمّر وحرب، وفي زمنٍ كانت البادية فيه مازالت في قمة أصالتها ونقائها ووفائها أيضاً، وكان ذلك في مجلس والده، الذي يمتد يومياً من بعد صلاة الظهر إلى قرب دخول وقت صلاة العصر حيثُ ينفضون، وسبب اختلاف هؤلاء الرجال من البادية على مجلسه كون تجارته مع البوادي تشغل الحيز الأكبر من تجارته، إضافة إلى تعاملاته مع كثير من الحاضرة وتعاطيه بالكومسيون (الدلالة).
يقول البطحي مُعلقاً على تلك الشخصيات البدوية: (إن أكثر ما كان يشدني إلى تلك الشخصيات البدوية نقاؤهم الفطري وطريقتهم في الحديث من استماعٍ وصمتٍ وإيجاز، وكذلك السمات التي ينفرد فيها بعضهم، إنهم رجال طبيعيون يمثلون نقاء الصحراء التي شكلت حياتهم وطبائعهم، لا يعرفون اللف والدوران ولا يمارسون الترهل اللفظي الذي هو أحد عِللنا اليوم، إن مَنْ شاهدهم يكون قد شاهد الشخصية العربية النقية بقيمها وتقاليدها وشاهد فيهم الصحراء العربية بهيبتها وعظمة كبريائها، حقاً لقد كانوا رجالاً رائعين مؤثرين).
تنوع الاهتمامات
تعددت اهتمامات البطحي في الشعر، والفكر، والتاريخ والثقافة العامة، وحينما سألته أين يجدُ نفسه أكثر، قال:(أجدُ نفسي في جميعها، وإلا فلماذا هرولتُ في أثر كلٍ منها، إن لي في كل فرع منها كرسياً وطاولة وقلماً وكراساً، والهدف من علاقتي بالحرف مذ بدأت الاطلاع، هو ما يشكّله الحرف من كلمات تحمل معنى ودلالة تعينني على تقليص مساحة جهلي ما أمكن، وتفجير فقاقيع غروري كلما ازدادت معرفتي بضآلة ما لديّ من علم ومعرفة.
وهذا ما جعلني غير قادر على التوقف عن القراءة والمتابعة الثقافية العلمية قدر ما أسعفتني صحتي وامكاناتي).
ونتيجةً لهذا التنوع في الاهتمامات، عُد الراحل واحداً من أهم (المراجع الشفوية) في التاريخ المحلي والشعر النبطي وثقافات البادية، لذلك كان محطّ الرحال لعدد من الباحثين والمثقفين والصحافيين، السعوديين وغيرهم من الأجانب، الذين استعانوا به لمعرفة تراث الجزيرة العربية.
وكان من أبرز الباحثين الذين التقوا به الباحث الأمريكي الدكتور دونالد كول، حينما أمضى معه فترة طويلة، حينما كان يُعد دراسته الانثربولوجية عن مدينة عنيزة.
كما التقت به الباحثة الأمريكية الدكتورة ألسون كيريك، وكذلك الباحث الأمريكي الدكتور برنارد هيكل، أستاذ التاريخ بجامعة نيويورك، الذي التقاه وحاوره واستفاد منه، وذُهل من معلوماته الثرية والمتدفقة.
كما التقى البطحي وحاوره عدد من الشباب السعوديين، الذين يستفيدون منه في أبحاثهم الجامعية أو مؤلفاتهم.
الرواة
يُشير البطحي إلى عدد من الرواة المهتمين بالشعر النبطي، ممن استأثروا باهتمامه ويراهم مُبرزين في هذا الجانب، ومنهم من أهل عنيزة، المُعمّر عبد الله بن سالم العتيبي الملقب 66الجهني66 ودخيل الله بن محمد القحطاني، والراوية المؤرخ محمد بن علي بن عبيّد وصناجة عنيزة الشاعر والمُسجل الأول للشعر الشعبي في نجد عبد الرحمن بن إبراهيم الربيعي وعبدالعزيز بن عبد الله الجلالي، وإبراهيم بن محمد الواصل، وكذلك النّسابة عبد العزيز بن صقير من بريدة، الذي التقاه في بيروت.
وصديقه الراوية الشاعر سعد بن عبد العزيز بن عبد الله السليم.
وعن جغرافيا الشعر النبطي في الجزيرة العربية، وأيُها أكثر وأجود إنتاجاً وفي أيها نجد أعذب الشعر؟ يرى البطحي أن لكل منطقة نصيبها من الوفرة والجودة ولا يمكن حصر ذلك في منطقةٍ معينة، علاوة على أنه لا يجد في نفسه التأهيل الكافي لتقييم المناطق، غير أنه يجد الكثير من المتعة في قراءة أو سماع أشعار المنطقة الشمالية من المملكة، كما كان يجد كثيراً من المتعة والجودة في أشعار أمراء وفرسان وحكماء وشعراء مشهورين في مناطق أخرى.
وتعليقاً على الإنتاج الشعري الفصيح في وقتنا الراهن، يرى البطحي أن القصيدة الفصحى اليوم مهما حاولنا الدفاع عنها والتبرير لها فهي نمطية تُعاني الوهن والعجز عن تحقيق الإبداع، وإن توافرت لها البيئة الجيدة والكلمة المنتقاة والجرس الموسيقي وطول النفس، فهي قصيدة إنشائية تخاطبية وأبعد ما تكون عن قصيدة الرحلة والاستكشاف والتحليق في آفاق فكرية إبداعية تحدّد خصوصيتها وتؤهلها للمشاركة في مد مساحة العطاء الفكري العالمي، وكلُ ما يتوافر فيها الآن ليس إلا ما يعتبر آليات تكوينها، لا ما يسمح لها بأخذ مكانها في مسار الفكر الإنساني، وإذا ما استمرت القصيدة الفصحى في جزيرتنا على ما هي عليه اليوم فإنها ستتحول إلى نسخة متحفية، تذكّر بالماضي ولا تنفصل عنه.
أما الشعر النبطي، من وجهة نظره، فهو المسيطر حالياً على الساحة الشعرية بكاملها تقريباً، وقد قلّل مسافة الرؤية بشكلٍ شديد بين هواة الشعر والقصيدة الفصحى.
وعن علاقته بالشعر النبطي، يرى البطحي أنها علاقة تقوم على رؤية معينة لديه تتمثل في دور الشعر الشعبي في التوثيق لمرحلة من مراحل الحياة الاجتماعية بكل عناصرها وتركيباتها التي مرت بها الجزيرة العربية ولما لا يقل عن سبعة قرون مضت، سيطرت فيها الأمية وانعدم التدوين إلا النزر اليسير منه، فمن خلال القصيدة الشعبية الحضرية منها والبدوية استطعنا معرفة أشياء كثيرة من جوانب تلك الحياة المغيبة علمياً، ولولا القصيدة الشعبية وما ارتبط بها من قصص وحكايات لما استطعنا معرفة وتوثيق الكثير مما نعرفه اليوم، لقد أثبتت القصيدة الشعبية وما يتعلق بها من قصص وحكايات أنها الموثّق الأمين لما جرى عبر تلك القرون الضبابية.
العقيلات
حينما سألت البطحي عن (العقيلات) وأن هناك من يقصر أثرها على الناحية الاقتصادية، وهناك من يمتدّ بها إلى نواحٍ أُخرى تمسّ اللغة والشعر والعادات والتقاليد، فكان تعليقه: (لا شك أن الهدف الأول والكامن من وراء تكوينها هو الاقتصاد الذي هو دائماً وراء كل حركة بشرية منذ أدرك الإنسان البدائي أهمية الادخار وضرورته.
والعقيلات منظومة تجارية متحركة دائماً وعبر صحاري قاحلة، تتعرّض خلال اختراقها لكثير من التهديد الأمني، كما تتعرض لذلك خلال وجودها في بلدان لا تنتمي إليها، لذلك فقد تكوّنت لدى العقيلات أساليب خاصة تتعامل بها فيما بين أفرادها وما بين الشعوب التي تمارس تجارتها معها، لقد شكّلت العقيلات عبر السنوات المتلاحقة نظامها التي عُرفت به، والذي يلتزم به كل من ينضوي تحت اسمها، أي أنهم أي العقيلات أفرادٌ، كلُ واحد منهم يمثل بنداً قانونياً خاصاً، ومن تلك البنود: الصبر والتحمل، الشجاعة، الأمانة، الشهامة، التعاون النادر، ومن هذا التشكيل أصبحت للعقيلات شروط ومميزات في الفعل والتخاطب واللغة خاصة بهم، إنهم فئة تمارس التجارة على أساس نظام تحكمه الفضيلة والأخلاق الراقية والحديث المفصل عن منظومة العقيلات أمر واسع ليس هذا موضعه.
عبدالله القصيمي
سألت البطحي الذي كان يسافر إلى القاهرة في السبعينات، بحثاً عن الكتاب وعن المثقفين، هل قابلتْ المفكر السعودي عبدالله القصيمي، فقال: لا لم ألتق به إطلاقاً! فكان هذا الرد مُثيراً، لذلك علّل البطحي عدم لقائه أو عدم رغبته بلقائه إلى أنه ومع احترامه لما للقصيمي من مكانة ثقافية وفلسفية، إلا أنه لم يكن مقتنعاً برؤيته ولا بطريقته في الطرح التي استنتجها ممن يلتقون به، وكذلك قراءته لعدد من كتبه الرئيسية المكثفة، لذلك فقد رأى البطحي أنه من الحكمة أن يتفادى اللقاء معه.
قلتُ للبطحي أن هناك من ينظر إلى القصيمي كمفكرٍ عملاق، وهناك من يرون أنه لا يتكئ على أساس ولم يقدم أي بديل! فكان تعليقه على ذلك هو قوله: (من يقرأ للقصيمي يجده غوّاصاً ماهراً في لجج الأفكار ومحلقاً في التوصيف والتحليل، ويرى فيه بعض قُرائه أنه يلغي ولا يثبّت، وأنه يعكر الماء ولا يؤمن البديل، ويرى فيه أنه أفلت المسار وضاع في متاهات الرفض، رفض كل شيء، وإنهائه لكل فكر يمثلُ مذهباً أو أيديولوجية عقائدية دينية كانت أم وضعية، إلى نهاية عدمية، وفسروا إنهاءاته هذه، أنها دوران في منطقة الفراغ، ولم يدركوا أن النهاية العدمية عند القصيمي -فيما اعتبروه نهاية عدمية- هو البديل الذي يريد تأكيده وكأنه يقول: لقد أحطتُ بما لم تحيطوا به، إن كل شيء في هذه الحياة من مادي ومعنوي ما هو إلا عدمٌ ينتهي إلى عدم، وأنكم فيما تؤمنون به من مذاهب وأيديولوجيات وما تسعون إلى تحقيقه بجهود مضنية أحياناً، ما هو إلا نتيجة ما تتمتعون به من ذلة الخضوع وهيمنة قوة الجهل والقبول، هذا هو البديل الذي أعتقد القصيمي أنه البديل الأوكد، فابتلعته قناعته العبثية بالعبثية الفلسفية، وأخرجته من نطاق الثابت الفطري إلى منطقة المُطلق الذي لم يستطع إثباته.
وحول ما يُشاع من أن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي قد التقى القصيمي في بيروت، عندما كان الشيخ، في رحلته مستشفياً، نفى البطحي ذلك بشكلٍ قاطع، وقال:( أؤكد لك وبدون استثناء أن الشيخ عبد الرحمن، رحمه الله، لم يلتق بالقصيمي وأنه رفض اللقاء به على الرغم من أن القصيمي قد طلب من الشيخ الالتقاء معه، وأما الذي التقى به ولعدة مرات، فهو الشيخ المرحوم محمد المنصور الزامل، وهو أحد الملازمين للشيخ السعدي والمُقدمين عنده من أصحابه وتلاميذه، هذا ما حدثني به الشيخ محمد المنصور نفسه، والذي أفادني بأنه لام الشيخ عبد الرحمن على رفضه استقبال القصيمي بدعوى أنه ربما جعل الله من لقائهما سبب خيرٍ للقصيمي، وكان الشيخ المنصور مُعجبا باطلاع القصيمي وعلمه وقدرته على النقاش، كما كان يرى في هدايته، لو قدره الله، مصلحة للإسلام والمسلمين، لذا فإنه كان يدعو له دائما أن يمن الله عليه بالهداية، وأرجو أنّ رحمة الله قد تداركته قبل حشرجته الأخيرة!).
وعما يُشاع أيضاً من أن أحد أبناء عنيزة، وهو السيد صالح الحميدي، الذي كان يعمل في لبنان، كان يُساعد القصيمي مادياً، حيثُ كان القصيمي يعيش في بيروت حياةً قاسية من الفقر والعوز، قال البطحي:( المرحوم صالح الحميدي، ذلك الرجل الكريم الخدوم، ليس لديه حينها قدرة مالية ليفعل ذلك، فأنا أعرفه جيداً، وهو بمثابة أخ صديق بالنسبة لي، وقد زادت معاناته المالية هو نفسه بعد أن تزوّج فتاةً جبلية من قرية 66جديتا66 قرب شتورا، ورُزق بأول مولود ذكر منها، وحيثُ أنه أصبح في أمس الحاجة إلى سكن يستقرُ فيه، فقد كان يعمل ويكدح بكل جهده، فعمل مُعقباً فيما بين تخليص البضائع التجارية من ميناء بيروت وتخليص المعاملات البنكية لعدد من التجار السعوديين، من تجار جدة ومن تجار الكويت من أهل عنيزة، وأخيراً كرجل كثير المعارف محبوب تعين محاسباً أو أميناً للصندوق في الملحقية الثقافية السعودية في بيروت، وأصبح يمتلك راتباً ثابتاً مع ما يكسبه من أعمال خدمية سابقة، فتملّك بيتاً وأصبح يعيش عيشة جيدة، وكان القصيمي حينها في لبنان يُعاني حالة فقر لا مزيد عليها، وكان يرتبط في اجتماعاته الشخصية بعددٍ من التجار، خاصةً من أهل القصيم ومن أهل عنيزة، بشكلٍ أكثر خصوصية، فكانوا يعطفون عليه ويعرفون أُنفته، إضافة إلى معرفتهم وضعه المادي البائس، فكانوا يجمعون أموالاً بين حينٍ وآخر، خاصةً في فترة الصيف، حيثُ يوجدون في المصيف، ثم يدفعون هذه المبالغ للمرحوم صالح ليُسلمها للقصيمي دون أن يخبره عن مصدرها، هذا ما أعتقده بقوّة، وقد حدّثني الشيخ الجليل المرحوم إبراهيم بن محمد الحسون، أنه جمع هو نفسه، مبلغ أربعة آلاف ليرة لبنانية، وما أدراك ما أربعة آلاف ليرة لبنانية في ذلك الزمن؟! وعندما التقى به بهدف تسديدها له، تفوّه القصيمي بجملة بذيئة لا يقبلُ إنسان مؤمن قوي الإيمان، كالشيخ الحسون بها، فكرهها وكرهه على أثرها، وعاد بالليرات إلى أصحابها.
وبعد حالة من البؤس قرّر القصيمي المهادنة وانتقل إلى القاهرة فقرّرت له الحكومة السعودية راتباً ثابتاً ووافراً، خاصةً أنه تزوّج من مصر، ورزق بأولاد أفذاذ، أثبت أنه أنشأهم نشأة رائعة، وكان يُقابل بكل احترام وتقدير في السفارة السعودية وفي الملحقية الثقافية في مصر، بل ويُقابل بالحفاوة والاحترام من كل الشخصيات السعودية الكبيرة، بما فيهم بعض الأمراء، وربما كان الهدف من أكثر هؤلاء محاولة التأثير عليه للعودة إلى سجية بلده الأصلي وسجية آبائه وأجداده، واستمر هذا التعامل الخاص معه إلى أن توفاه الله، والله سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء).
وكنتُ قد طرحتُ دراسة مختصرة عن (القصيمي) اعتمدت فيها على الراوية عبدالرحمن البطحي، فيما يخص أسرة القصيمي (الصعيدي) من حيث أصولها وجذورها وارتباطاتها مع بعض اُسر القصيم، فأثارت استغراب البعض من حيث روابط القصيمي الاجتماعية مع أُسر قصيمية شهيرة، فسألتُ البطحي عن السبب الذي جعل الكثيرين لايعرفون مثل هذه المعلومات، رغم شهرة القصيمي؟! فأرجع البطحي السبب إلى أن أسرة القصيمي قد تقلّصت في القصيم إلى حدٍ كبير، فوالده غادر المنطقة وهو طفل صغير وبقي تحت رعاية عمه في خبّ عين الحلوة، ثم هرب منها يافعاً والتحق بوالده في عمان ولم يرق له البقاء فغادر إلى مصر، وكل هذا تمّ وهو في سنٍ مبكرة، مما جعله شبه مجهول بالنسبة لأكثر أهل المنطقة، إضافةً إلى أنه وبعد أن ارتفع مستواه التعليمي خرج بآرائه الخاصة به المرفوضة من أهل الإيمان، والتي ظل يُعلنها دون مراعاةٍ ولا مواربة، فكانت هذه الآراء المتعارضة مع ما يُقدسه الآخرون، خاصة في الجزيرة العربية، سبباً في تغيّبه وتغييبه، ولكن القصيمي في كثير من البلاد العربية، أصبح علماً مرموقاً كمثقف ومفكر عملاق.
الهوية الفكرية
سألتُ البطحي الذي قضى عقوداً طويلة مع الكتاب والفكر قراءةً ونقاشاً، ولقاءات وأسفاراً، هل تبنّى انتماء فكرياً أو مؤسساتياً معيناً؟ فأجاب قائلاً: (الذي أجزم على قوله هو أنني لم أنتم في حياتي إلا لهويتي الإسلامية والعربية.
أمتي العربية التي يؤلمني أن أرى بعد كل تلك السنوات والآمال العِراض، أرى نسيجها يهترئ وجروحها تتسع وتتعمق، ونزيفها يزداد، وإنني لأعجب إلى حد الحيرة، كيف حقّقت هذه الأمة ما حققته من مجد غابر على صهوات الخيل، وظهور الإبل، والأقدام الحافية التي يوهنها الجوع والظمأ أحياناً، بينما نراها اليوم على هذه الحال من هزائم، وإحباطات رغم ما لديها - حكاماً وشعوباًت- من طاقة بشرية وإمكانات هائلة؟!! ما يؤكد أن العبرة ليست بالثروة في حد ذاتها، وإنما بالتدبير وحسن التوظيف لا باستخدامها لتحقيق الترف الغبي، وشبق الثراء الفردي، وتفاهة الأهداف.
نعم إنني أنتمي لأمتي العربية والإسلامية بدايةً ونهايةً، إن شاء الله، وأزيدك علماً أنني وبكل قوة أستهجن أي انتماء لغيرها فكرياً كان أم مؤسساتياً، خاصة في عالمنا العربي الخصب بالزعامات الديماغوجية 66الدهماوية66 المهرجة التي تستغل عقول الدهماء وتستخف بها، وتوظفها لأهدافها وميولها الخاصة.
ويواصل قائلاً: (لم أدع مذهباً أو أيدلوجية معروفة عالمياً، إلا قرأتها وحاولتُ أن أتفهم معناها وغايتها على مدى 40 عاماً، وناقشتُ فيها ودافعتُ عن الجوانب الحسنة فيها، حسبَ رؤيتي الخاصة، وأبديت رأيي في جانبها السلبي، وهذه الطريقة الموضوعية في التعامل مع الأفكار، تدفع البعض إلى الاعتقاد أنك يا مَنْ تؤكد جانباً إيجابياً في فكرة أو نظرية هو مضاد لها - وغالباً هو لا يفهمها - تدفعهم إلى نسبك لهذه الفكرة أو النظرية، ولذلك فقد نُسبتُ من قبل هذا البعض إلى أيديولوجيات متعددة، وإن كان هذا البعض ممن لا أعرفهم، ولم ألتق بهم، أو أناقشه أو يناقشني في يوم من الأيام، إنهم من النوع الكريم جداً في إهداء الإساءة لغيرهم، وأنا لا ألومهم فهم أبناء بيئتهم! ).
قلتُ له : هل يزعجك هذا؟ فقال: (قلتُ لك وأكرره، إن الذي يزعجني هو حال أمتي الإسلامية والعربية، أما ما يصدر من إخوان لي ابتدعوا واستحسنوا ما ابتدعوا وصدّقوه، فأمر يتلاشى في وهج التسامح وعدم الرغبة في المجازاة.).
الوفاة
قبل أكثر من عام تعرّض الفقيد لكسر في إحدى قدميه، فأدخل المستشفى في عنيزة ثم نُقل الى مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، وتحولت غرفته إلى منتدى ثقافي، وبعد شفائه عاد الى مدينته عنيزة، لكنه تعرض لكسر آخر ألزمه السرير مرةً أخرى.
وفي المستشفى بدأ يُعاني من أمراض أخرى غير الكسر الذي تعرض له، فنُقل إلى الرياض ودخل في غيبوبة إلى أن صعدت روحه إلى بارئها، وذلك عصر يوم الخميس 25-6-1427هـ، فنُقل الى عنيزة وصُلّي عليه في جامع الجراح وأودع ثرى تلك المدينة التي أحبها وعشقها وحفظ تاريخها وتاريخ رجالاتها.
رحل دون أن تتحق أمنيته تجاه أمته العربية، فما زالت جروحها تتسع ومازال نسيجها يهترئ! فصعدت روحه إلى بارئها في الوقت الذي كانت القنابل الإسرائيلية تُلقى على لبنان، التي تنفسها.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved