الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

تماهيات الإنسان والأرض
عبدالرحمن بن عبدالله المطوع
في ظل عريش بجانب بركة المياه، التقيته للمرة الثانية، احتفى بي بدفء، جمع خليطاً من أعواد حطب متنوعة وأشعلها، جلس بجانب الموقد وسكب لي فنجان قهوة، فتحتُ حافظة الأوراق الجلدية، أخرجت بضعة أوراق وبدأت أقرأ بعضاً من محاولاتي الكتابية، تخيلت أن عينيه تقرأ كلماتي من تعابير وجهي قبل أن يسمعها من صوتي. حدث ذلك قبل خمسة عشر عاماً، أثناء مساء شتوي في صومعته (مطلّه). عندما أعود إلى تلك الكتابات.. ابتسم وأتذكر كم كان احتماله لي كبيراً.
كان مديراً للمدرسة العزيزية التي تقع على بُعد خمسين خطوة من بيت جدي، إلا أني لم أكن أثناء طفولتي وشبابي في (عنيزة) إلا ضيفاً طارئاً في الصيف، فاتتني فرصة التتلمذ على يديه داخل غرفة الدرس، ولكني لم أفوت الفرصة بتتلمذي بين يديه على كِبر. خمسة عشر عاماً كان عمر العلاقة التي جمعتني به.. أنا التلميذ المتحفز بين يدي الأستاذ الذي لم يفتر يجود بودٍ وتبسط. لم أكن وحيداً بحظوتي لديه.. فخلواتنا التي امتدت لساعات في ليالٍ عديدة.. كان يفوز بها غيري.. لم يكن أبا إبراهيم.. حصراً على أحدٍ بعينه.. كان مِلكاً للجميع.. العامة والنخبة.. وما بينهما.
أما تماهيه مع وطنه الصغير (عنيزة) فقد كانت حالة خاصة، فمنذ نشأته التقط مفردات الرمال والغضا، حجارة الجال الشرقي، صلابة الأثل، حنو النخيل، وملاحم البشر في صيرورتهم الغريزية للبقاء هنا في بلدة الطين..
بطولات بقيت ذكراها وأخرى فنيت. لم يتمكن أن يحجب عشقه الفطري لبلدته.. كان ضميراً ينافح عن أحلامٍ انتهت إلى غير رجعة، أو آمل تبدو بعيدة المنال. انعكس بعض من ذلك من خلال كشفه مستعيداً التاريخ والجغرافيا، متجلياً بسياقٍ نادر، قال في لقاء موجهاً حديثه لأحد الجالسين: (لقد جاء جدك قبل ثمانية قرون إلى عنيزة.. - أشار بيده إلى موقع في الأفق - هذه الكثبان لم يصل زحفها إلى هنا حينئذ.. كان وسط عنيزة روضة تنتهي فيها الأودية، وبالتأكيد انه وصلها في شتاء أو ربيع.. حيث كانت المياه تغمر الروضة، مكونة بحيرة جذبت أسراب الطيور المهاجرة، والاخضرار يلتف وخلفه الرمال من جهات ثلاث وتل الجال الشرقي يطل هناك.. من يستطيع أن يقاوم جمال هذا المكان ويتركه؟!).
في قلب مخاض التحول بين عالم قديم آفل، وآخر متسارع متناقضٍ يجتاح المشهد، كان عبدالرحمن البطحي ينسج هويته وعالمه الاستثنائي الخاص به. تفتحت روحي مثله على البلدة التي حملنا هويتها.. وتقاسمناها مع بقية الأبناء الذين بقوا وأولئك الذين رحلوا بعيداً.. شفرةٍ سرية حملها هو بصورة مغايرة، وجدان حائر.. مُلهم.. مكتنز بتفاصيل الإنسان، المكان، الزمان، وما يجمع بينهما من تشابكات لا حصر لها.
وبينما كان قلة يتهامسون في السابق - بسوء فهم تلك الأيام عن أفكاره الغريبة عنهم - إلا أن الناس أجمعت حين وفاته على مكانته الرفيعة والنادرة في بلده وما حولها.
بالتأكيد سيتحدث كثيرون عن أبعاد معرفته وعطائه.. ولكن ما يهمني بضع نواحٍ.. هي ما يمكنني أن أتحدث عنها.. فخلف ظاهره الحاد بتعابيره - أحياناً - تكمن قدرة خلاّقة وطاقة متوهجة، لا يخطئها أي مدرك، روح اختارت الاستقلالية والانعتاق، غاصت في معارف الحياة والمجتمع باحثة عن كنه الأشياء وجذورها عوضاً عن ظواهرها العابرة. حَملَ تكويناً نفسياً خاصاً به، ساقه إلى مواقف صارمة، منها العزوف عن الاحتكاك بالحركة العامة او الإعلامية السائدة، أو ربما لأنفةٍ واعتدادٍ كبير كان لا يفارقه.
إلا أن معرفته بقيت رواية شفوية أسكرت مستمعيه، أو أنها تسربت على شكل قطرات كُتبت على صفحات ورقة إجابة سائل، أو مؤلفٍ صغير جاد به بعد ضنّ، تعكس قدرة فذة على التقصي، التحليل، الاستنتاج وروعة السبك. وبقي كنزه الأثمن يتدفق على جلسائه المنتشين. كانت شروطه القاسية منذ زمن طويل تمنعه من الكتابة والتصنيف، وربما جنوحه المثالي.. (أن يكتب عملاً متكاملاً بلا خلل) وإلا فإن حروفه ستستعصي على الكتابة. لا أظن انه أجاب العشرات ممن سألوه خلاف ما أجابني: (لن أكتب شيئاً مشوهاً.. ولو كتبت ما أريده فلن ينشر..)، ولكن الحقيقة أن عبدالرحمن البطحي ظاهرة غير مكتوبة (ولا يتعين أن تُكتب) وهذا ربما سر تميزه، فالكتابة قيد وصنعة تهتم بالمظهر النهائي، أما التراث الشفهي فسيبقى - إن كان جديراً -، كما بقيت القصيدة والمثل، تلقائي وحاضر كل برهة. بقي هو أقرب ما يكون إلى وجدان شعبي ونخبوي في آن واحد.. لهوية لم تمسها البيروقراطية وطقوس الحياة المنمقة، كما أن التزامه بعائلته الممتدة - رغم عزوفه عن الاقتران والإنجاب - كدّه للعيش حياة كريمة، وتصدّره لمنتداه اليومي، كل ذلك ربما أثر أيضاً على فكرة الانصراف للتدوين.
كان نموذجاً لمعنى الحياة البشرية بكل تفاصيلها، هشاشة مُراوغة في العمق.. وصمود مختبئ لا تعرف من أين ستظهر. ولكن المؤكد أن بين جنبات روحه يسكن كائن مُغرق بالنبل والطهر.. روح تجدُّ في بحثها عن خلاص حائر من بين هوية الأرض والإنسان.. صالح بين معرفته التراثية وبيئته من جانب وبين تعقيدات العالم الأوسع - المحيط بنا - والمنطلق إلى المجهول من جانب آخر.
أما أجمل اطلالاته فهي عندما يتلبس دور البطل الأوحد على خشبة المسرح في منتداه.. لم يكن أحد ليجاريه.. تتداخل الفصحى مع الدارجة، وتطل لغة لاذعة منسجمة ومدهشة بتشبيهاتها واستعاراتها.. ومن تلك التي علقت في ذاكرتي، لفتة سوريالية، على شكل أطروحة عن بعض المجتمعات العربية والتي شبهها (بعالم البكتيريا والطحالب والهُلام).. داعياً ألا نتعب أنفسنا بتحليل بعض الظواهر أو حتى المستقبل.. لأنه لا يوجد شيء منطقي أو سياق يمكن أن يُبنى عليه أي تحليل أو استقراء. ورغم هذه اللذعات العابرة والمهمة.. إلا انه يعود دائماً إلى قاعدته الصلبة.. فكرة التربية، المسؤولية، القدوة، النزاهة والصدق، الجلَدْ في العمل البنّاء، ابتداء من أصغر المهام إلى أكبرها.
كانت استذايته المكتملة.. متسنمة كل ما سواها.. ينتظر من تلاميذه أو الشباب - الذين منحهم وقته ومجلسه - مشاركاتهم في كل ناحية دون توجيه متعالٍ أو انحياز لأيديولوجية أو تيار، يبحث بلا كلل عن لمحة موهبة أو اجتهاد.. ليمنحها ما يمكنه من إشادة، دعم وتوجيه.
ربما أشد ما يؤلم محبيه والعارفين له.. أن ثروته المعرفية - والتي لا تقدر بثمن ولا نظير لها وبقيت حبيسة أعماقه - قد رحلت إلى الأبد، ولكن يمكن اللجوء إلى حيلة.. اسرقها من (بورخيس).. وهي مجادلة يتلخص معناها أن (كل معارف هذا العالم كتاب واحد منضد من ذات الحروف.. ولو احترقت كل كتب العالم ومحيت ذاكرته.. سيُستاعد ليكتب من جديد).


* طيار حربي سابق وباحث

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved