الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

الفارس الذي رحل
صالح عبد الكريم المرزوقي

حينما هاتفني الصديق محمد العبيد مدير مكتب الجزيرة بعنيزة وطلب مني المشاركة في هذا الإصدار، لم أتردد لحظتها نظراً لما للمرحوم عبد الرحمن البطحي من مآثر جمة ولما له من محبة وتقدير ؛ لذا كان لزاماً علينا نحن تلاميذه ومحبيه ان نرد له ولو جزءاً مما قدم لنا طوال حياته.. فالمرحوم لم يكن شخصاً عادياً وإنما كان نموذجاً فريداً وفارساً من فرسان الكلمة، فهو الشعلة المتوهجة والينبوع المتدفق الذي ينهل منه الجميع على مدى عقود من الزمن.
لكنني توقفت قليلاً وقلت في نفسي ماذا عساي أن أكتب عن ذلك العلم وتلك القامة الشامخة؟ هل اكتب عنه بصفة المثقف أو الأديب أو الراوية أو المؤرخ وكل هذه الصفات متوافرة في شخصيته - رحمه الله - ولكنها باتت معروفة للجميع خصوصا في الفترة الأخيرة من حياته. إضافة إلى ان الكثير من الكتاب والمثقفين ممن عرفوه أو سبق لهم أن التقوه قد تناولوا ذلك بإسهاب ولا أود تكرار ذلك.
لذا سوف أحاول ان اتلمس بعض الجوانب الحياتية للمرحوم من خلال معرفتي به، فقد كان - رحمه الله - متعدد الجوانب والمواهب وكان إنساناً حريصاً في نظامه ودقيقا في مواعيده وطموحاً، إلا ان من أمرين لم يبد اهتمامه حيالهما طيلة حياته أولهما: الأمور المادية فلم تغره التجارة بأنواعها ولم يفتش في دهاليزها وثانيهما: الإعلام فلم يشغل باله بذلك وكان زاهداً في الظهور والبروز الإعلامي بل كان يرفض جميع الدعوات الموجهة له ولم يظهر في الإعلام سوى مرة واحدة مع العلم أنه قابل الكثير من الصحافيين والإعلاميين من داخل المملكة وخارجها في مناسبات عديدة، وكان - رحمه الله - صريحا لا يداهن ولا يجامل وكان حاضر البديهة ردوده سريعة وقد تكون حادة أحياناً حسب ما يقتضيه الموقف، وكان جريئا في بعض آرائه ومثال ذلك اعتراضه على تسمية الجامع الكبير في عنيزة حيث يرى أنه يجب تسميته بجامع الجراح.
لقد كان - رحمه الله - ممتعا في الحديث مبدعاً في الحوار والجدل؛ لذا نجد الكثير ممن يجلسون معه للمرة الأولى ينبهرون من هذه الموهبة التي يتمتع بها مما حدا بالكاتب محمد رضا نصر الله ذات مساء ونحن نجلس في مطله وذلك إبان حرب الخليج ان يقول من غير المعقول ان لا يكتب هذا الرجل وان لا يظهر إعلامياً انه مبهر، أما الدكتور دونالد كول الأستاذ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة فقد قال عنه انه يتمتع بذاكرة عجيبة وثقافة متعددة أنه يختزل تاريخ عنيزة خاصة وتاريخ المنطقة عامة في ذاكرته، لقد استفدت منه فائدة عظيمة، في مجال الدراسة التي قمت بها عن مدينة عنيزة فقد كان سندا لي في الكثير من الأمور التي تتطلبها الدراسة وكان المرجع الذي أزاح الكثير من العقبات التي كانت تعترضني.
لقد كان - رحمه الله - صاحب علاقات واسعة ومتعددة وكان حريصاً على التواصل مع كبار السن ممن يرى ان لهم تجارب قد تفيده في البحث والدراسة، وأذكر أنه كان يزور والدي بين الحين والآخر خصوصا بعد ان أقعده مرض الروماتيزم حيث كان الوالد - رحمه الله - ممن رافق العقيلات وتنقل بين الشام ومصر والعراق فترة من الزمن وكان يستمع إلى تلك الأحاديث والذكريات التي كان يرويها الوالد ويقول لي لماذا لا تسجل هذه الذكريات لكنني لم اكن متحمساً لتلك الفكرة، لكنه استمر في إلحاحه حتى تحقق ذلك ولكن مع الأسف ان القدر لم يمهله ليرى ما كان حريصاً على تدوينه، لقد أدركت وقتها ان تاريخ عقيل يشغل حيزاً من اهتمامه وكان يقول ان تاريخ عقيل لم يكتب بعد ويضيف انه تاريخ حافل بالصبر والمغامرة والعبر، لقد ركبوا الصعب في الزمن الصعب وان ما يحصل لتاريخ هؤلاء الأفذاذ عبث وابتذال وتشويه ولا يمكن اختصار ذلك التاريخ بصور متحركة من الإبل تحمل على ظهورها الشداد والخرج والسفايف وبعضا من أدوات الرحلة، هذا تهميش لذلك الدور التاريخي العظيم الذي صنعه وسطره أولئك الرجال الأفذاذ قلت له - رحمه الله - أنت ممن يعول عليهم كتابه ذلك التاريخ فأجاب نعم ولكني لست الوحيد في ذلك.
حينما دخل المستشفى للمرة الأولى أخفى ذلك عن الجميع ولم نعلم بدخوله إلا بعد أسبوع تقريبا وحينما زرته قلت له لم أعلم انك هنا فقال لقد نجحت في التعتيم طيلة الفترة الماضية ولكن يبدو ان الخبر قد انتشر الآن وكانت الغرفة مليئة بالزوار، كانت قدمه مشدودة على طرف السرير وكان يمسك بيده ورقة وكانت عبارة عن قصيدة نبطية كتبتها عن موضوع يخص عنيزة وقد أحضرها له الأخ حمد الصالح الشنيفي وكان من ضمن الحاضرين. عاد بعدها لقراءة القصيدة وعندما وصل المقطع الخاص بعقيل نهض جسمه قليلا ورفع رأسه ورفع صوته قليلاً وهو يقول:
شدو ومدو من على كنس حيل
واقفن كما الضلعان عوج الرقابي
فج النحور مقربات المناهيل
بتر الفخوذ مذللات الصعابي
تومي بهم بين السهل والغراميل
من طلعة البيضا لما أنه تغابي
يشهد شعاع الشمس والجدي وسهيل
ويشهد عدود بالسهل والهضابي
التفت وقال صدقت لم يعد هناك من الشهود سوى ما ذكرت ثم أردف قائلاً: كأني بهم في مثل هذه الساعة وقد تركوا لينه خلف ظهورهم.
لقد كان - رحمه الله - محبا للشعر النبطي ودائما ما يورد قصائد لخلف أبو زيد وزيد بن غيام والخياط وغيرهم من الشعراء السابقين، وقد يأتي ذلك عفويا بسبب استشهاد لحدث تاريخي معين أو ما شابه ذلك حيث يقول ان القصيدة خير شاهد للحوادث المرورية: عندما كتب ملحمته الشعرية التي تلخص تاريخ عنيزة منذ نشأتها وكانت على وزن وقافية قصيدة الخياط التي مطلعها:
يا دارنا لا ترهبي يومك سعيد
حنا حماة الدار وشب اشعالها
وبما أنه - رحمه الله - قد أجاد في ذلك إجادة تامة وبذل جهدا كبيرا في صياغتها حيث أعجب بها الكثيرون فقد كتبت بعض الأبيات على نفس الوزن والقافية ومدحت الجهد الذي بذله في تلك الملحمة ولمعرفتي بحساسيته من المدح فقد ختمتها ببيتين أطلب منه السماح بذلك حيث قلت:
ونا اعرف انك صاحب النهج الفريد
المدح والتمجيد ما ترضالها
لا شك سامح والعتب خله بعيد
بعض العرب تمدح لطيب أفعالها
قال - رحمه الله - لقد بالغت في ذلك فقلت له ان ما بذلته بتلك الملحمة لم يكن سهلا ومع ذلك فلم أتجاوز حدود مطله سكت - رحمه الله - ولم أعرف هل اقتنع بما قلت أم لا؟.
لقد صمد - رحمه الله - وهو يصارع المرض ولم يطرأ على برنامجه أي تغيير فكان يمارس نشاطه المعتاد من خلال مجلسه في مزرعته مطله، حيث تجد في مجلسه كعادته الفلاح وابن البادية والتاجر والحرفي والمثقف ولم يغير من طريقته وأسلوب حياته إلا بعد ان اشتد عليه المرض واضعف قواه فدخل المستشفى وحينما زرته لآخر مرة كان عنده شقيقه سليمان وإبراهيم بن أخيه، حينها أدركت ان المرض قد تمكن منه فلم يستطع الحديث كعادته وأشار بيده وقال اشرب القهوة عند سليمان بعدها بفترة نقل إلى العناية المركزة حتى انتقل إلى رحمة الله وترك سيرة حافلة بالعطاء الفكري والمعرفي وصدى لذلك الصوت الذي كان يتردد بين جنبات مطلة القابعة في تلة شمال عنيزة على ضفاف وادي الرمة رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.


* شاعر ومهتم بالتاريخ الشفهي-عنيزة

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved