الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 07th August,2006 العدد : 165

الأثنين 13 ,رجب 1427

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه..!
عبدالعزيز بن حمد القاضي

لم يكن عبدالرحمن البطحي- رحمه الله- شخصية عادية حتى تمر وفاته مرورالكرام، بل كان شخصية وطنية كارزمية في شتى مجالات الثقافة المتعددة.
ولم أعجب من كثرة البكائيات التي سفحت الدموع على رحيله في المجالس وعلى قبره ثم في صدور الصحف والمنتديات، فقد كان- رحمه الله- رمزا وعلامة بارزة في ساحة عنيزة الثقافية والاجتماعية على وجه الخصوص.. وعُرف - حسب تقديري - أول ما عُرف تربويا حازما ذا شخصية قيادية آسرة، فيها شدة الحزم، ولطف الرحمة.. وكان مديرا لأول مدرسة حكومية رسمية على مستوى الدولة (وليست الوحيدة طبعا في الأولوية) وهي مدرسة (العزيزية) التي غُيّر اسمها فيما بعد إلى مدرسة (الملك عبدالعزيز)،وعندما كنت طالبا في المرحلة الابتدائية سمعت عنه من أصدقائي الذين يدرسون في العزيزية، وأنا من طلاب مدرسة المأمون (الحيالة) سابقا، قصصا تُتداول على سبيل الطرفة والاستغراب، وكانت تحكي عن إجراءات يتخذها بصفته مديرا للمدرسة غريبة بعيدة عن التوقع، والإدهاش في التصرف غيرالمتوقع أحد سمات المبدعين. وكنت سمعت عنه طرفة قديمة تقول: إنه كان يتعلم قيادة السيارة، ويبدو أن ذلك كان في أوائل التسعينيات الهجرية، وفي إحدى جولاته اصطدم بجدار في أحد الأزقة الداخلية، ويبدو أن الصدمة كانت قوية استدعت حضور المرور، فسأله الشرطي سؤالا غبيا: (ليش صدمت الجدار ؟) ! فرد عليه برد يناسب غباء السؤال، ويعبر عن شخصيته الصارمة قائلا: (علشان أوسّع الشارع) ! ثم عُرف مثقفا.. وله حضور واضح في الأدب والتاريخ والأنساب وغيرها، واشتهر عنه أنه قارىء من الطراز الأول، للكتاب من وقته نصيب وافر.
ولم يكن - حسب ما سمعت - يقصر اهتمامه القرائي على مجال دون مجال، بل كان يقرأ في كل المجالات.. وكان يُرتب وقته ترتيبا صارما، فلا يسمح لنشاط بانتهاك وقت نشاط آخر، لذلك لا يسمح لأصدقائه وزواره - حسبما سمعت - بزيارته من غير موعد مسبق.. وهو أسلوب لم يعتد عليه المجتمع الذي يحفل بكل شيء عدا تنظيم الوقت واستثماره ! ولا يعني ذلك أنه - رحمه الله - كان لا يجامل، لا أظن.. فهو ابن بيئته والمجاملة في بنيتنا العقلية جينات وصفات وراثية انتقلت من المكتسب إلى الفطري ! وهو- حسب علمي - لا يلجأ إلى هذا الأسلوب كثيرا، لكنه وهو المربي العريق كان يقدم دروسا عملية في النظام ومراعاة الظروف، وحسن إدارة الوقت، كان بهذا التصرف يهرب من الازدواجية في الشخصية - وهي أيضا صفة وراثية لازمة لنا - إلى الوحدة، ولو لم يلجأ إلى هذا الأسلوب لمضت حياته في مجاملات واستقبالات فوضوية، وهو مالا يريده هو ولا محبوه وزائروه أيضا.
وعُرف كذلك - ولعلها أبرز صفاته العملية - وطني مخلص، تغلغل حب الوطن وعنيزة على وجه الخصوص، في شغاف قلبه، وليس بدعا في ذلك فأهل عنيزة معروفون بحبهم الشديد المفرط لبلدهم، وعبروا عن ذلك بشتى وسائل التعبير، ولعل القصائد والمقطوعات الشعرية الفصيحة والنبطية الكثيرة كثرة تفوق المعقول التي تغنى بها أهلها قديما وحديثا، خير دليل علىذلك.. عشق عنيزة عشقا جعله يُسخر كل طاقاته في خدمتها، حتى ثقافته نشاطه الفكري جعله يصب في هذا الاتجاه، فاهتم كثيرا بتاريخها السياسي والأدبي والاجتماعي، وقرأ كل ما كُتب عنها، وصحح كثيرا من مغالطات الباحثين العرب والأجانب التي أملتها استقراءات ناقصة أواستنتاجات سطحية، وقد نذر نفسه ووقته وعلمه لذلك، وفتح مجلسه لكل باحث ومهتم. ولعل الشعر، والنبطي منه على وجه الخصوص، كان له النصيب الأوفر من نشاطه الثقافي، فله فيه على مستوى النظم والنقد والتذوق بروز - محلي -مشهود، وكل ذلك لا يخرج عن إطار سماء الولاء المفرط لعنيزة، والمحلية هنا وإن كانت ضيقا، إلا أنها ضيق الاختصاص لا ضيق الضعف، فهو رجل صادق مع نفسه، واهتمامه بعنيزة روحا وفكرا وثقافة اهتمام تمليه الفطرة، ولا يقوده التكلف وحب الشهرة، وهذا يعني أنه كان يخدم نفسه بخدمة عنيزة، فهو يمارس ذلك العشق ممارسة الهواية وإشباع الحاجات النفسية.
ترجم ل(راع البندق) وهو صاحب أشهر قصيدة حربية وطنية نبطية علىالإطلاق، وهي قصيدة (هذي عنيزة مانبيعه بالزهيد)، المرحوم علي بن رشيد الخياط، ولتلقيبه ب(راع البندق) قصة مؤثرة ذكرها البطحي في تقديمه.. ترجم له ترجمة شاملة موثقة تاريخيا، جلت كثيرا من الغموض الذي لف حياته، لكنها لم تُطبع ولم تُنشر رسميا، بل تم تداولها علىالمستوى الشخصي، وقد قرأتها أول ما ظهرت وأظن ذلك عام 1424ه، والسبب في عدم طباعتها يعود - والله أعلم - إلى أ ن المرحوم يرى أنها خاصة لاتعني الكثيرين.. ولعل ورثته يقومون بنشرها خدمة للتاريخ والثقافة، فهي ليست ترجمة لشاعر من الشعراء فحسب، بل وثيقة تجلو كثيرا من غموض أحداث القرن الثالث عشر الهجري في عنيزة، وكانت عنيزة وقتها علىالمستوى السياسي والثقافي والاقتصادي في نجد رقما صعبا في معادلة الحضارة، وإحدى أهم العواصم في المنطقة. وللبطحي- رحمه الله- ملحمة شعرية تحكي تاريخ عنيزة تُذكرنا بقصيدة الأستاذ عبدالعزيز المحمد القاضي الشهيرة (العنيزية)، لكن هذه الأخيرة بالفصحى، وقصيدة البطحي بالعامية، وقد عنونها ب(هذي عنيزة)، وكتب في مقدمتها (لكل إنسان الحق المطلق بأن يفخر ويعتز بتاريخ بلده، وبأفعال أهلها المتميزين إن وُجدت، لا بقصد التعالي على غيره، والاستهانة به، وإنما بهدف ممارسة الحق الطبيعي وتثبيته..) ونظمهامعارضة لقصيدة الخياط التي أشرت إليها قبل قليل، وجعلها على نمطها أسلوبا ووزنا وقافية، بل إنه جعل مطلع قصيدة الخياط عنوانا لمنظومته.. قال في التقديم:
أتبع ثرى الخياط وآطا جرّته
وأبستريح بخيمته وظلالها
وأكتب أمور بعضها ما مرّته
قبله وبعده سجلوها أبطالها
إلخ وقد صدّر البطحي ملحمته بمطلع قصيدة الخياط، ثم قال بعده:
هي ديرتي هي ديرة العز التليد
الله رفع قدره وعزّ رجالها
من يوم ابن عامر بدا غرس جديد
بالضفة اليمنى وحطّ رحالها
إلخ وفي ختامها قال (هذه المنظومة تُغطي أحداثا خاصة بعنيزة ابتداء من سنة1182هـ لغاية سنة 1322هـ حيث حل السلام والاستقرار فيها(يقصد عنيزة) بعد استعادة أهلها لها من حكم الرشيد.. ولهذا لم تتضمن المعارك الكبرى الثلاث: بقعا سنة1357هـ، واليتيمة سنة 1265هـ، والمليدا سنة 1308هـ، لكونها مشتركة بين عنيزها وغيرها من بلدان القصيم..).
والبطحي في تعصبه المحمود لعنيزة يمثل امتدادا لكثير من الشخصيات التي وقفت حياتها على خدمتها باللسان والقلم والفعل، ومن أشهره مالخياط المذكور، والوزير المرحوم ابن سليمان، والشاعر الشهير أبوماجد- رحمهم الله- وقبلهم وبعدهم كثيرون.
كان- رحمه الله- ملاذا حنونا لشداة الشعر، وكان مجلسه سواء في بيته في(المسهرية) أواستراحته (مطِلة، وسماها بذلك لأنها تطل علىالوادي على ما أظن) منتدى أدبيا، كان يقرأ لهم ويسمع منهم ويشجعهم، ويبدي فيما يقرأ ويسمع نظرات نقدية ثاقبة تأخذ بأيديهم وتوجههم توجيها يصقل الذائقة والموهبة، وكان مجلسه عامرا بشعراء عنيزة الشباب المحترفين - إن صح التعبير - وتدور فيه حوارات أدبية نقدية في المعاني والمفردات والصور، وكان منهجه الصارم لا يسمح له بامتداح مالا يستحق المديح.. قال لي الشاعر العذب الصديق سليمان العليان عنه: وجه لي دعوة خاصة عندما سمع شعري في البدايات، وتوجيه الدعوة من البطحي لشاعرنا شيء تكريم، فحضرت وكان في المجلس عدد من أصدقائي الشعراء، فأسمعته قصيدة لي جاء فيها (ياحبيب الروح والله مشكلة)، وعندما قرأت عليه هذا البيت اختلجت عيناي بنظرة سريعة إلى وجهه، فقال لي بعد أن أتممت قراءة القصيدة: أعلم أنك غير مرتاح من كلمة (مشكلة)، وهي كذلك غير مريحة وغيرمناسبة، عرفت ذلك من نظرتك الخاطفة عند قراءتها ! فقلت: لم أجد غيرها! وفي موقف آخر، قال سليمان العليان: قرأت عليه قصيدة لي جاء فيها:
ما أبكيك والله لو تماديت بأخطاك
أخاف عيني لا بكيتك تهلّك !
فلما سمع البيت لمّ رأسه بكلتا يديه تعبيرا عن الإعجاب الشديد، وقال:(ولّ حسبي الله عليك..! وشلون وصلت ؟!) أي كيف غُصتَ على هذا المعنىالدقيق ؟
وأحب أن أشير في ختام هذه الرحلة إلى بعض جوانب شخصية المرحوم الأستاذعبدالرحمن البطحي، إلى أهمية التزام المصداقية، وتقنين العبارات عند الحديث عن الشخصيات، فلا يزيد الشخصية مجدا وصفها بفخم العبارات، ولا ينقصها تقديمها بماله رصيدا من الواقع منها. فقد أجرت إحدى الصحف المحلية في العام الماضي على ما أظن مقابلة مطولة مع المرحوم، وجعلت لها عنوانا فضفاضا يقول (العلامة الكبير والأديب المفكر عبدالرحمن البطحي.. يخرج عن صمته)، ولا شك في أن صياغة العنوان بهذه اللغة المجلجلة حماسة أملتها روح الكاتب، والعرب تقول:
ومن الحب ما قتل ! فهل أفادت هذه العبارة في تقديم الأستاذ عبدالرحمن البطحي، وهو الذي لا يُحب أن يكتب شيء عنه في القنوات الإعلامية، ولو كان خبرا مصوغا بلغة علمية لا أدبية ! عبدالرحمن البطحي - حسب تقديري - شخصية مهمة على المستوى المحلي ثقافيا واجتماعيا، وهو مفكر له آراء خاصة تفصح عن خبرة وذكاء، وبعد نظر فيما يجري من الأحداث، وله فلسفة خاصة في النظر إلى الأمور، لكن مصطلح المفكر والفيلسوف عندما تُقرأ في الصحف، تجعل القارىء المهتم يبحث عن رصيد لهذه الألقاب من إنتاج فكري وفلسفي.. وعبدالرحمن البطحي، لا إنتاج له مكتوبا - حسب علمي - في هذه المجالات، ولم يُقدم نفسه يوما على أنه كذلك، بل هو باختصار شديد كما يبدو لي: مثقف شامل، وأديب (مختص في الأدب العامي)، ومؤرخ، ووجه اجتماعي بارز معدود في طليعة وجهاء المدينة.
هذه خواطر كتبتها تلبية لدعوة كريمة من عدد الأصدقاء وعلى رأسهم أديبنا وكاتبنا ذو العبارة الأنيقة الأستاذ إبراهيم التركي، القائم على إعداد هذا الملف.. ومشاركة وجدانية واجبة تجاه رمز وطني وثقافي.. وليعذرني محبو المرحوم وأصدقاؤه ومريدوه، على قلة معلوماتي وضعف بضاعتي في الحديث عنه هنا، فأنا لم أتشرف بمقابلته أوالاستماع إليه يوما، وكلما ذكرته هنا مما سجلته الذاكرة من أحاديث الأصدقاء، وما يتناقله الناس هناك عنه، حزنت - كغيري - لرحيله حزنا شديدا، وأحسست بخسارة فادحة، وندمت كثيرا على عدم اتصالي بفكره وشخصيته.. فأنا وإياه كماقال الشاعر:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه !
رحم الله أبا إبراهيم رحمة واسعة، وألهم أهله وذويه الصبروالسلوان، فقد كانت وفاته رزءا كبيرا، وثلمة في جسد الثقافة في عنيزة، وبفقده يفقد المجتمع العنيزي أحد أبنائه البررة ووجهائه المقدمين، وقيل قديما:
لعمرك ماالرزية فقد مال
ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حرّ
يُراع لفقده خلق كثير
وقد رُوّع لوفاة الأستاذ البطحي كل المجتمع العنيزي.. رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا وإياه في جنات النعيم.


*مثقف وتربوي - الرياض

الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved